"سحور" .."سحور".. "سحور" .... كلمات اعتاد الناس سماعها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك ، لترتفع في عتمة الليل وسكونه بصوت متقطع ، تليها ضربات طبل بإيقاع ذي نكهة مميزة مفعمة بالحنين إشارة للصائمين بأقتراب ساعة السحر وحلول وقت السحور، قبل بزوغ الفجروالبدء بيوم صوم جديد .
السحور من العادات والتقاليد التي لازالت تشكل عبقا يعطر أنفاس المؤمنين الصائمين ، وهو احد الطقوس العبادية المهمة والمعبرة عن احد وجوه التراث العربي والعراقي القديم والمستمدة من عمق التاريخ الإسلامي الاصيل ، ليكون مظهرا من مظاهر شهر رمضان ، كونه يطرق أبواب الليل ليحل على القائمين الخاشعين لوجه الله تعالى ضيفا عزيزا .
ارتبط " السحور " بشخصية نبيلة محبوبة كانت ومازالت محط تقدير الناس ، ألا وهي شخصية " المسحرجي " والتي تختلف تسميتها وهيئتها من بيئة لأخرى ومجتمع لأخر وحسب الموروث الشعبي والديني فيها .
تلك الشخصية الفلكلورية التي لازالت تجوب ليالي رمضان رغم الحداثة والتطور بوسائل التنبيه والاتصال الحديثة ، ظلت مستمرة بالعمل في مدننا وازقتنا و مدن العالم العربي والاسلامي طيلة ليالي شهر المغفرة وعلى مر السنين وحتى وقتنا الحاضر حتى اصبحت موروثة بين افراد عائلة تلك الشخصية ، ليطوف " المسحرجي " بين البيوت موقظا الناس قبيل أذان الفجر ، ضاربا على طبله مرددا نداءه بصوت جهوري " سحور .. سحور.. سحور " منشدا معه بعض التراتيل بلحن مميز لتندمج مع تمجيد مآذن بيوت الله ، بأطوار مختلفة والحان شجية مؤثرة ، داعيا ومذكراً ومحرضا أن " قوموا لذكر الله وتسحروا " تيمنا بقول رسول الله " صلى الله عليه واله " ، عن امير المومنين علي " عليه السلام " انه قال ( إن الله تبارك وتعالى وملائكته يصلون على المتسحرين والمستغفرين بالاسحار فليتسحر أحدكم ولو بشربة من ماء ) .
اشراقات وقت السحور ونداءاته وتلك الطقوس الرمضانية الخالدة اظافت نكهة وجمالية قل نظيرها على كل مجالات الحياة ومنها المجالات الثقافية بشكل عام والفنون بشكل خاص ، حيث الهم الكثير من الفنانين بانجاز اعمالهم الابداعية من قبسات هذا الشهر الكريم ومنهم الفنان التشكيلي العراقي الموصلي " وليد شيت " الذي جسد بأعماله اصالة المجتمع العراقي وبعض من طقوسه وتقاليده التراثية ومنها طقس السحور والمسحرجي في رمضان .
اللوحة للفنان التشكيلي العراقي وليد شيت طه وهي من مقتنيات المتحف البغدادي جسد فيها شخصية " المسحرجي " وهو يجول احد الازقة الشعبية لمدينته ، كتقليد اسلامي رمضاني تراثي قديم .
الفنان " وليد شيت طه " من مواليد مدينة الموصل 1947 ، تخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة – بغداد 1969درس الماجستير في الفن وحصل عليه من جامعة هارتفورد بالولايات المتحدة الأمريكية وعمل كمدرس للفن بغداد ، له العديد من المشاركات في المحافل والمعارض الوطنية داخل العراق وخارجه ، وهو عضو مؤسس لجماعة الأكاديميين العراقيين وجمعية التشكيليين العراقيين ، وعضو نقابة الفنانين العراقيين.
أبدع شيت في رسم تفاصيل هذه اللوحة واستطاع أن يوصل أفكاره للمتلقين بكل بساطة وهدوء معبراً عن ملمح من ملامح الحياة العراقية من حيث توزيع الأشكال والوحدات الصورية وخلق إنشاء تصويري مميز متبعا النظام والدقة في رسم التفاصيل والأجزاء ، فقد رسم الفنان عتمة الليل والإضاءات البعيدة اللافتة للانتباه مظهرا في اللوحة رجلان أحداهما يحمل طبل كبير" الدمام "والآخر يلوح بيده كأنه هو المنادي ومن خلفهما هيئة حارس ليلي يمشي متبخترا في الأزقة الموصلية المتميزة بشناشيلها وقرب بيوتاتها الشعبية من بعضها البعض يتوسطها في عمق اللوحة مسجدا بقبته ومنارته الشامختين ليمثلا عمقا منظوريا للوحة ، مصورا بذلك روح الماضي الجميل الذي يشع بالحياة وينبض بعطر ليالي رمضان الساحرة والالفة التي تجمع الناس على الرغم من العتمة وظلمة الليل .
ركز الفنان اهنمامه على جماليات العمل كباقي اعماله الفنية المميزة على الناحية التصميمية وتوزيع الكتل والألوان ليعطي روحية للعمل تترجم احاسيسه التي تعكسها شخصيته مبتعدا عن التشخيص العيني في بعض الاجزاء ، اذ اعتمد بتنفيذ منجزاته الفنية على الألوان النقية والكتل غير المألوفة في بعض مواطن اللوحة فضلا الهيئات اللونية المسطحة ذات المساحات الكبيرة التي قد تكون صلبة احياناً واخرى مرنة .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق