رؤوس أمام مسجد الحسنين ... وما اشبه اليوم بالأمس

يشكل عمل ( رؤوس أمام مسجد الحسنين 1896م) للمستشرق جان ليون جيروم مثالاً للاتجاه الإستشراقي الذي وجد فيه الفنان ما هو مطلق في خيالاته وغرابته ، إذ يصور تكويناً لمشهد ذي صلة بمفهوم الهمجية  كجزء من الأفكار والمفاهيم المغلوطة التي حاول الاستشراق نقلها عن المجتمعات العربية الاسلامية للغرب ليبقي الفكر الغربي والشعوب الاوربية في صدارة الفكر والمعرفة حسب اعتقادهم .

كشف جيروم من خلال تصويره لهذا المشهد بالتحديد عن علاقة وطيدة  بين العالم الحسي المتمثل باللوحة الفنية والواقع الذي عاشه ويعيشه الشرق ، ففكرة هذه اللوحة مستقاة من مجزرة القلعة ، تلك المجزرة التي امر بها محمد علي باشا لتصفية المماليك سعيا منه لمسك زمام الامور في مصر للحفاظ على السلطة ليخلوا له الحكم فقد كانوا آخر واخطرعقبة فى طريقه لفرض السيطرة الكاملة على البلد كونهم رجال معتادين على القتال وخوض المعارك ولايمكن هزيمتهم في ساحات القتال الا بالغدر والحيلة فقتلهم عن اخرهم وامر بقطع رؤوس قادتهم وتعليقها امام الملأ ليصبحوا عبرة كون المصريين كانوا متعاطفين مع المماليك .

تمثل اللوحة منهجاً واقعياً من الذي أنتجه الفنان في إستيحائه للفن الواقعي الممزوج بمخيلة الفنان الاوروبي ، حيث يصور أحد ابواب مقام الراس الشريف للامام الحسين بن علي (عليهما السلام) في القاهرة او ما كان يسمى انذاك بمسجد الحسنين ممثلاً ذلك  بتكوين فني يتألف من مجموعة من الرؤوس المقطعة الملقاة على مدخل المسجد فضلا عن بعض الرؤوس المعلقة أعلى البوابة وعلى يمين اللوحة شخصية تمثل مركز اللوحة بحركتها وملامحها الحادة التي تمثلت بشخص جندي عربي قاسي القلب والملامح وبيده سيف ملطخ بالدماء ، ثم قام الفنان بمعادلة هذه الشخصية في اللوحة بأخرى على يسار اللوحة متمثلة بشخص قد يكون من عامة الناس بما يرتديه من ملابس بسيطة وهو غير مكترث بهذه الرؤوس الملقاة ارضا امامه ، فيما قام الفنان برسم معمار ما يُرى من خلال بوابة المسجد من أعمدةٍ رخامية وباحة للمصلين بوصفها خلفية لهذه التكوينات من أشخاص ورؤوس مما يحقق غاية الفنان بخلق مناخ وبيئة هو يراها ويحاول نقلها لشعوب الغرب .

تمكن الفنان من خلق اجواء مؤثرة في اللوحة من خلال اطلاعه واستقصائه الاحداث الواقعية للمشهد بدءً من تأريخ المسجد وقضية الإمام الحسين بن علي عليهما السلام والرؤوس الشريفة المقطعة التي كانت تجوب بعض البلدان على رؤوس رماح الطغاة ، وصولا الى مذبحة القلعة والرؤوس المعلقة على بوابة مقام راس الحسين عليه السلام مازجاً بين الحدثين وكانه يقول ما أشبه ظلم اليوم بالامس ،تلك الاحداث الاليمة اثارة حفيظة جيروم فأنتج هذه الصورة معتمداً على واقع مرٍ عاشه العرب المسلمين ممزوجاً بمخيلة الفنان وثقافته .

إن البناء التصويري لهذا العمل قد تم تشييده على أسس من الخصائص اللونية والاقتراب من المعمار الشرقي ، وأراد الفنان بذلك ان يؤكد من خلال هذه الصورة على عدم تجاوزه للأسس العلمية لفن التصوير من انسجام لوني ومنظور وشكل ومضمون على الرغم من موضوعة اللوحة ومكانها والبيئة التأثيرية التي أنتجت فضلا عن اعتماد الفنان خزين ذاكرته الصورية مستحدثاً بذلك رموز متخيلة ومبتكرة صورياً مما عايشه وقرأ وسمع عنه ، فنمت الأشياء من فيض ذات الفنان وثقافته ليأخذ تكوين العمل الفني تنظيماً عقلياً مزدوجاً بين الرؤى الحسية والمخيلة الحرة للمشاهد ، فالأشكال الحسية المرئية وما تحمله من معانٍ قد أحيلت الى أنساق تبعاً لشمولية الرؤيا المتخيلة لدى جيروم والرؤيا التخيلية لدى المتلقي شرقياً كان أم غربياً ومحصلتها الجمالية معا ، لذا فذاتية اللوحة تجسدت من خلال انفعالات نفسية ومكنونات دُمجت بما هو مرئي بموضوع غائب مستحضر في البيئة الشرقية الاسلامية وخيال غربي خصب ، منتجاً من خلالها آلية تقارب بين الكلاسيكية الناشدة للمثل وكيفيه رؤيتها للعالم الحسي .

سامر قحطان

المرفقات