من قصص الانتفاضة الشعبانية
بين الأشجار الخضراء والنخيل المهجور كنا نحن العشرة شباب المتبقين من سقوط المدينة نتخفى, وقد بنينا لنا سدوداً بين الأدغال وكان بالقرب منا ماعز نؤجل وليمته المنتظرة صباح كل يوم فلا نزال نستأنس به حتى أصبح كأنه واحد منا.
فبعد أن دخل الجيش إلى المدينة كانت الأخبار المحمومة تأتي إلينا بصحبة صبي جميل وشجاع استطاع أن يموّه على الجميع وهو ينقل إلينا الأخبار والطعام معا.
كان ذكيا جدا بحيث يستطيع أن يقنع كل من يسأله عن سبب حمله لكل هذه الكمية من الطعام بإجابات مقنعة فكان يخترع لهم الحكايات التي تتلاءم مع ذلك الظرف العصيب فكنا نلتهم الطعام ونحن نقرأ الرسائل التي يأتي بها إلينا من أهلنا ثم نرميها إلى النار الموقدة ونرسل معها زفيرنا الحالم وبقايا الذكرى المعطرة التي شممناها بين ثنايا الكلمات.
الليالي الهادئة والنهارات المرتبكة تؤجل ما تبقى من أحلام العودة والمدينة بكل ضجيجها واعتقالاتها وإباحتها ترسم سوراً مظللاً وحذراً حول حدودها الملتهبة بالموت، بالجيش, بالخائفين.
الليل ستار والظلام أحجية، والأقدام تدق بخطى وجلة الطرق المنخورة والهاربة كفضاء مفتوح, كانوا يقتحمون البيوت ويستبيحون كل شيء المنازل الذهب الأموال الأرواح، قلوب لا تعرف الرحمة جبلت على والقتل والسلب والنهب، الأخبار تتقاذفها الناس ونحن لم يكن لنا خيار, كنا نؤجل الموت إلى إشعار آخر أو ننسى حروباً يائسة لا مفر منها.
ذات ظهيرة ربيعية جميلة كنا نحتمي بظلال الغرفة المتبقية من البيت المنهدم ذات الشباك الخشبي المتآكل والسقف المنخور في البستان المهجور الذي أصبح مقرنا الخلفي، فيما الهواء العذب يداعب وجنتي كان أحد مجموعتنا يقص علينا قصصا تتخللها الطرائف ليبدد عنا ضجر المكان والانتظار ورهبة الموت أو ليكون لنا وسيطا بعقد مصالحة مع الحياة لما تبقى منها.
أما أنا فقد فارق ذهني المكان مخترقاً النخيل والبساتين متوجهاً صوب المدينة حيث الجيش والحكومة والأضرحة والناس والقتلى، تراءت لي صورة ذلك الفتى الشمالي بعينيه الخضراوين وبشعره الذي يشبه حقل حنطة تعتليه شمس صيفية وهو يستغيث وأنا في الضفة المعاكسة له.
كان شابا أصيب برصاصة من الجيش ولكنه لم يمت فبقي يئن من الألم بصوت خافت حتى انسحب الجيش في الليل فذهبت مسرعاً صوب الشخص المستغيث فرأيته ممدداً جميلاً هكذا رأيته. وضعته فوق ركبتي لم أقاوم دموعي التي سقطت بغزارة لأنه يحمل جزء من الذاكرة يوم كنا هناك جيران كنت كلما أدلف الدار أراه بجماله وروعته يقفز نحوي يقبلني ونتقاسم الغذاء أو اللعب أو المرح أو الدرس. كان صديقي بل كان أخي.
ـــ تأخر علينا الصبي..؟
سرت تلك الكلمة في دمائنا وثب من كان جالسا وهو يحمل سلاحه وكأنه يواجه العدو ؟
لم أفكر حينها بشيء سوى بذلك الصبي .. هل اكتشف أمره وترصدوه ليدلهم على مكاننا دون أن يدري ؟
كنا في حالة من الذهول تمنعنا من الكلام لكن عيوننا كانت تفي بالغرض .. وبعد قليل حدث ماكان متوقّعاً سمعنا صوت أقدام وأصوات منخفضة فتهيأ كل منا لكن فجأة دوّى قربنا صوت رمانة يدوية تلقفت شظاياها الأشجار بدلاً عنا ثم سمعنا أصوات عالية وجلبة وإطلاقات... رمى كل منا باتجاه ما فسمعنا توجعاً وصراخاً وأصواتِ رمي نحونا ونحن نرمي ونهرب بعمق البساتين ونرمي باتجاه واحد هذه المرة كنا نركض بلا اتجاه هكذا نحو المدى الآمن وبعدما تيقنا من النجاة التقطنا أنفاسنا الخائفة والمتهالكة فوصلت إلى مسامعنا إطلاقات نارية ضائعة من الغرفة التي توسطت البساتين الممتدة.
لم نعرف بالضبط كم ركضنا ورائحة البارود تسابق أنفاسنا وكدنا نختنق منها حتى تهاوت أجسادنا المنهكة لتستلقي على العشب الأخضر المبلل الذي بعث فينا رائحة الحياة أثر رائحة الموت التي دخلت أنفاسنا بعد استراحة قصيرة اتجهت أقدامنا هذه المرة بلا اتجاه ولا قيادة نحو مظلة أو محرقة أو قفص أو معتقل أو مأوى جديد.
أحمد طابور
اترك تعليق