نهر ينوء بالسنابل

الرذاذ يتساقط بنشوة عارمة والسيارات التي تنقلنا تهدهدنا كمهد طفل عبر الأراضي المتعرّجة واللزجة للأفرع الضيقة التي تفصل بساتيننا الخضراء.

ألصقت جبهتي الملفوفة بعصابة خضراء على زجاج شباك السيارة وأنا أتمعّن في قطرات المطر المنزلقة كتأوهات أو كأحلام ماضية، كان أخي لا يزال يقود السيارة بحذر شديد وأنا رغم الخوف المستشري في فؤادي إلا أني كنت منشرحاً وأنا أقود ذاكرتي إلى شوارعنا التي تفوح منها رائحة اللقاءات الدافئة مع الأصدقاء، كان الجو ربيعياً أحسست بتوقف  المطر فشعرت بضيق وكأنني فقدت شيئاً، ولكن ما أسرع أن عاد فشعرت بارتياح وأحسست برغبة في احتضانه كنت أتحسّس السلاح بيدي وأضغط عليه وكأنني أقول لنفسي لن أتركه واستسلم حتى الموت أرسلت تنهيدة أثارت انتباه رفاقي الذين ربما كانوا يودعون ذكرياتهم كل بطريقته.

أحدهم قال متندِّراً...

ــ أين وصلت فالجيش لا يبعد كثيراً..

ــ ربما ؟ أجابه أخي بابتسامة

كانت رحلتي إلى هناك وكأنني أحدّد المصير بيدي رغم المهمة الشاقة أقنعت نفسي بأن أفكاري لا تخونني أبدا.

ــ وكأنّك تودعنا.. قال أحدنا

أدار أخي رأسه بحركة سريعة فقفزت السيارة قفزات متتالية رجت الجالسين مما أفاقني من استرسالي..

ــ ربما أنا أو أنت أوهم, إن كنت أودعكم فلم لا يكون وداعاً جميلاً بذكرى مدينة أو أم أو وطن.

توقفت السيارات الثلاث والتي كانت تقلنا ونحن لا نتجاوز الخمسة عشر شاباً وقد خلت نظراتنا من كل شيء سوى القتال حتى الموت.

المطر يطرق رؤوسنا وكأنه يدق طبول الحرب وهو يلامس وجوهنا المغبرة، الساعة تقارب السابعة مساء والهدوء يزيد من الرغبة في الاستمتاع بالمطر والترقب، راودني شعور بالارتياح لأصوات قطرات المطر المتساقطة على الأرض الترابية والمرتمية فوقها بقايا البساتين وكأنها تعزف في أذني لحناً أيقظ بي بواطن الرغبة المتشبثة ببقايا حياة.

كان الجو ساحراً، الهواء النقي المنبعث من البساتين الخضراء الجميلة يصافح وجوهنا وبقربنا تنور للخبز تنبعث منه خشخشة الحطب المحترق كمزمار راعٍ يئن بعيداً عن الديار لا يشدّه سوى سماع ثغاء نعجاته المتفرقة ونغمات مزماره المنبعثة من صحراء روحه.

هكذا أحسست وأنا أتأمّل كل شيء بمشاعر ممزوجة بخوف اللحظة وشجاعة الإقدام وأنا متخفٍ بين أشجار الصفصاف المتراصّة على حافة النهر الذي طالما نصبت شباكي في مياهه المنسابة منذ الأزل لتقع في مصيدتي سمكة مغفلة أو تائهة تبحث عن مأوى أو عن حرية كحياتي، راجعت نفسي وأنا لا أزال للتوِّ ألفظ مراهقتي عن كاهلي وتفننت في رسم خطوط المستقبل بأصابع ماهرة وأنا الآن أتوسط مجموعة إن كانت سعيدة الحظ فسيموتون فرادى وليس كمجموعة وتأتي نسمة هواء تلاعب شعورهم المنسدلة فوق جباههم.

في القرب منا منزل ريفي به حركة دؤوبة للتهيُّئ لعمل وجبة إفطار لذلك اليوم الرمضاني. والعائلة والمرأة التي تغازل التنور بحركة لولبية خفيفة غير مبالية بنا ونحن نتأهب للموت أو للانفجار فهم يزاولون عملهم اليومي كالمعتاد وفي الوقت الذي مررنا بعوائل منهم من حفزتنا وشدت من عزيمتنا.

أتانا أمر بالتهيُّئ للانقضاض وأنا أنظر إلى سلاحي القنّاص والذي لم أستعمله إلا مرة واحدة خلال اختباري له ,ومهمتي هي من الصعوبة بمكان أن أرمي الذي فوق البناية الشاهقة عبر الضفة الأخرى من الطريق والذي بيده سلاح فتاك إن أخطأته سوف يكون الأمر صعباً علينا ويزيد من حرجة الموقف.

تراءت لي صورة صديقي الذي دفنته قبل أيام قرب محيط بيته فانتابتني نوبة غضب وصوبت القناص عليه.

صممت على الانتقام من أجل أمي وصديقي وحريتي.

شممت رائحة تبغ محروق فالتفتّ فرأيت رفيقي يشعل لفافته ويسحب النفس بعمق ويغمض عينيه كمن يحاول أن يستمتع بروعة اللحظة المتلبدة كغيمة صيف.

ربما يحمل مع أنفاسه ذكريات لأهله أو لأصدقاء مهنته من بائعي الخضار كما كنت أعرفه فتراءى لي أيضاً وجه أمي وهو يسبح بين ثنايا الدخان المتطاير من اللفائف.

أمي أيتها الحمامة التعيسة ماذا لو لم أرك بعد الآن.. أخي الذي ينتظرني في الخلف ليؤمن انسحابنا سوف يبكيني حزناً أبدياً ..

كان معنا شاب قروي هادئ أرى في ملامحه إصرار عجيب على القتال واستماتة حتى آخر رمق.., كنت أتخيَّل أن الربوة التي يقف وراءها تتراجع إلى الوراء ولا يتراجع هو.. كان يتقدمنا دائما وهو الآن كعادته يواجه الموت فلا يبعد عنهم سوى ثلاثين متراً كنت أرى فيه الجزء القوي من نفسي التي تهاب الموت.

جاءنا قائد المجموعة يجبرنا بالانسحاب مما أحدث ارتباكا بين صفوفنا لأننا توقعنا بأننا قد اكتشفنا أو كان مجال تقدمنا كميناً لنا فوجئت بالشاب القروي وهو يتقدم غاضباً ويؤنّب قائد المجموعة:

ـــ لماذا لم تصدر أمر الرمي. كنت على بعد ثواني من نسفهم.؟؟

القائد: لم أكن أتوقع أن القائد العام لعملية الجيش أتى لتفقد الموقع ومعه جيش كثيف وأسلحة ثقيلة لا نستطيع التصدي له على قلتنا وإمكانياتنا البسيطة.

كانت لحظة فؤجئنا به استدار مسرعاً وبدأ يركض بـ.....اتجاههم وهو يرمي عليهم

رشقهم رشقة من سلاحه فتتالت عليه الإطلاقات فاختبأ خلف أحد الجدران ورمى ثانياً باتجاه أصواتهم فسمع صرخات بعضهم وقذف برمانة يدوية كانت بحوزته نحوهم فسمع أنين آخرين ولم يبقى سوى أمتار قليلة تفصله عن النهر الذي يتجمعون عنده فأصابته طلقة ثم ثانية فسقط وبدأ يزحف وانهارت قواه عند حافة النهر.

سال دمه صوب النهر فرفع عينه إلى السماء فرآها صافية جميلة نجومها متألقة.. ثم سقط في النهر إثر ركلة أحدهم بحذائه الثقيل المضمخ بالجرم وجرفته المياه..

أحمد طابور

: أحمد طابور