دمعة على صدى الطف

المسجد المكتظ بالناس بين جلوس ووقوف خلا من أي صوت أو همس سوى صوت الدموع وهي تسيل بغزارة على الوجوه... فعندما تفصح الدموع عن مكنونها تعجز الألسنة عن التعبير... كانت عاصفة البكاء المنبعثة من داخل المسجد الذي يتوسط أربعة طرق تنطلق من عيون عبرى وضمائر ملتهبة ونفوس متأججة وقد أحدثت دويّاً حزيناً ونشيجاً مفجعاً يزرع في قلب القادم إلى المجلس رهبة الموقف وهول الفاجعة...، المجلس يزداد اكتظاظاً بالناس وأصوات البكاء تتعالى فتتلألأت الدموع على الأضواء الخافتة تضيء النفوس وتغسل القلوب وتطهر الضمائر من أدران الحياة. في وسط المجلس جلس شيخ وقور عليه سيماء التقوى الممزوجة بالحزن وراح يشعل التاريخ لتسطع جذوة الدماء على شفتيه، ويبث في سامعيه صدى صهيل الخيول وقعقعة السيوف وآهات الأطفال ولوعة الظمأ، كان وجهه ممتلئاً بالطمأنينة... فعندما تخلص النفوس تطفح الطهارة على إهاب الجسد، وكان مما يزيد هذا الموقف خشوعاً وجلالاً إنه كان قريباً جداً ولا يفصل سوى بضعة أمتار عن ذلك المكان الذي أطلقت فيه عقيلة الطالبيين السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما السلام) تلك الصرخة المدوية بوجه الظلم والتي بقيت أصداؤها تحكي روعة الثورة المعطاء وعظمة قائدها العظيم فتحولت تلك الأصداء إلى صرح شامخ يدعى  (تل الزينبية)... كانت النجوم تشتدّ سطوعاً على ذلك الصرح في تلك الليلة من ليالي الجمعة وكأنها تنبض بالجراح... وتردَّد صدى صوت الشيخ في أرجاء (تل الزينبية): كـيـف تـهـنـيـنـي الـحـيــــــــاة وقـلـبـي   ***   بـعـد قـتـلـى الـطـفـوفِ دامـي الـجـراحِ بـأبـي مـن شـروا لـقــــــــــــاءَ حـسـيـنٍ   ***   بـفـراقِ الـنـفــــــــــــــــــــــــــــــــــــوسِ والأرواحِ وقـفـوا يـدرؤون سـمـرَ الـعـــــــوالـي   ***   عـنـه والـنـبـلَ بـالـوجـــــــــــــــــــوهِ الـصـبـاحِ فـئـة إن تـعــــــــــــــــــــــــاورَ الـنـقـعُ لـيـلاً   ***   أطـلـعـوا فـي سـمـاهُ شـهــــــــــبَ الـرمـاحِ وإذا غـنّـت الـسـيـوفُ وطــــــــــافـتْ   ***   أكـؤسُ الـمـوتِ وانـتـشــــــــى كـلُّ صـاحِ بـاعـدوا بـيـن قـربِـهـم والـمـواضـي   ***   وجـسـومَ الإعـــــــــــــــــــــــــــــــــداءِ والأرواحِ حانت من الشيخ الذي يقرأ هذه الأبيات التفاتة فلفت نظره رجل نحيف الجسم جالساً في أقصى المجلس وقد وضع رأسه بين ركبتيه وهو يبكي بكاءً حاراً ويرفع رأسه بين الفينة والأخرى ليمسح دموعه الغزيرة عن عينيه المحتقنتين بيديه المبللة المرتعشة... كان ذلك الرجل يرتدي عمامة سوداء ترمز إلى أنه من نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فواصل الشيخ نعيه الحزين: حـرَّ قـلـبـي لـزيـــــــــــــــــــــــــنـبٍ إذ رأتـه   ***   تـربَ الـجـسـمِ مُـثـخـنـاً بـالـجــــــراحِ أخـرسَ الـخـطـبُ نـطـقَـهـا فـدعـتـه   ***   بـدمـوعٍ بـمـا تـجـنَّ فِـصـــــــــــــــــــــــــــاحِ يـا مـنـــــــــــــــارَ الـظـلامِ والـلـيـلُ داجٍ   ***   وظـلالَ الـرمـيــــــضِ والـيــــومُ ضـاحِ فـبـرغـمـيَ أنـي أراكَ مُـقـيــــــــــــــــــــمـاً   ***   بـيـن سُـمـرِ الـقـنـا وبـيـضِ الــــصِّـفـاحِ لـكَ جـسـمٌ عـلـى الـرمــــــالِ ورأسٌ   ***   رفـعـوه عـلـى رؤوسِ الـرمــــــــــــــــــــاحِ بـأبـي الـذاهـبـونَ بـالـعـزِّ والـنـجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة والـبـأس والـهـدى والـصــــلاحِ بدت ملامح الرجل مترعة بالحزن عندما نظر إليه الشيخ وقد زادتها حبّات الدموع المنهمرة على لحيته روعة وجمالا...، أنهى الشيخ المجلس بعد الدعاء ثم قام...، لم يعرف الشيخ ما الذي شدّه نحو ذلك السيد..! فقد شاهد في عينيه بريقاً غريباً جعله ينجذب إليه فتخطّى الجالسين وفي رأسه فكرة السلام على ذلك السيد، لكأن صوتاً في داخله يحثه على ذلك.. كما أحس أن لهذا السيد علاقة بما كان يقرأ في مجلسه الحسيني ففاجأه السيد بقوله وكأنه كان يعلم ما في داخل الشيخ: ـــ جزاك الله خيراً حيث أثرت قراءتك تأثيراً بليغاً...، ثم استطرد قبل أن يرد عليه الشيخ: ـــ يا شيخ أتعرف رضا الهندي ؟! فقال له الشيخ: ـــ إني أحفظ كثيراً من شعره لكنني لم أره فقال له السيد: ــ أنا السيد رضا الهندي.. وهذه إحدى القصائد التي نظمتها في رثاء الحسين (عليه السلام).. واعلم إني منذ نظمتها ما بكيت مثل بكائي هذا اليوم عندما سمعتك تقرؤها لقد تأثرت بقراءتك كثيراً فجزى أحدهما الآخر خيراً ثم افترقا... كان ذلك السيد هو الشاعر رضا الهندي أما ذلك الشيخ فكان المرحوم عبد الزهراء الكعبي خطيب المنبر الحسيني الكبير.

 

محمد طاهر الصفار                                        

: محمد طاهر الصفار