من وحي الإنتفاضة الشعبانية المباركة
الشمس المتسللة من بين سعف النخيل الممتدّ على مدى النظر تتسلق وببطء جنائزي صدر السماء الصاخبة والمتألقة ليوم ربيعي هادئ بعدما اختفت سحابات الدخان المرعبة إثر هدنة قصيرة أو توقف غير محسوب لدويِّ المدافع المحيطة بالمدينة.
المدينة العذراء التي اغتصبها أحفاد التاريخ الدموي والذي يدور في حلبة متواصلة ومتلازمة منذ أن سالت دماء طاهرة في فجر التاريخ على مذبح الحقيقة الشهيدة... آهات الحسين وهو يُذبح لا يزال يتردَّد صداها في أفق المدينة أو في فضاءات كونية وهو يؤكد على دورة التاريخ الأبدية والصراع الأزلي بين النور والظلام.
هاهو خليفة يزيد الأموي يذبح الحسين من جديد ليوُصم التاريخ بعارٍ صارخٍ... وكما قطع أجداده الماء عن الحسين وعائلته، قطع عنا الماء...! وكما نثر أجداده الرعب والقتل وسفك الدماء الطاهرة المنسابة والتي روّت البساتين بحنوها وطهارتها لتقدِّس أرض المدينة، اليوم تتنافر الدماء من هنا ومن هناك، والنخيل صامد ولا يزال يرتوي من الدماء!!
النخيل الباسق والملتف والمنتشي كوّن مخابئ آمنة للمنتفضين فكانت العمق الاستراتيجي لانسحابنا أو لاستدراجهم حتى ننهال عليهم كالغضب ونرسل زفراتنا المعلنة فوق أجسادهم العفنة.
حين رقدت المدينة عنوة تحت أيديهم قرَّروا أن يُبيدوا النخيلَ الرمز، وهاهي تتقافز بإلحاح أمامي صورة ذلك الفلاح الذي ربط جسده بأول نخلة كان قد زرعها في بستانه العامر، لكن هذا لم يبطئ من حركة سائق الجرّافة وهو يزيل النخلة والفلاح معاً لتغطي مقدمة الجرّافة دماء لزجة تنضح من عرق النخيل.
على مدى الضحى الهادئ تصل إلى مسامعنا أصوات الناس وهي تولول وتستغيث: واحسيناه... واإماماه.. من خلف البساتين لترحل إلى مكان آمن تلوذ بالحسين والعباس... كنت أرى شموخ قبتيهما كما كانا شامخين ذات ظهيرة قائضة وقد أحاطت بهما أيادي متشابهة الجريمة...، هذه الدماء تسقط مرة أخرى بين يدي الحسين وليبكيها من جديد.
إذن طُوِّقت المدينة...، لا مفرَّ من الموت ولنؤجِّل سقوط المتبقي من المدينة إلى إشعار أخر أو إلى دماء أخرى ونحن نتوارى خلف رابية محاذية للنهر ويفصل عنا الجيش لبضعة أمتار.
داعبني الربيع بأطيافه فامتلأت رائحة الأرض الرطبة أنفاسي اللاهبة والخائفة من انقطاعها فتراءى لي أصدقائي كأشباح تتلوّى في البساتين الهاربة والضاجة بآلافِ الرغبات المكبوتة والذكريات الوردية والتي ربما ستُدفن معي بعد قليل...، كان خيال وجه الفلاح الذي يشبه رائحة الأرض وهو يرحب بنا ويقدم لنا الفاكهة من بستانه ليجمعنا فيء ظليل لشجرة لقائي مع أصدقائي يراودني وأنا أعبر بستانه الذي خلا منه الآن.
نظرت ومن أعلى الرابية لفتى أعرفه ويعرفني، يتلفَّت بحركة لولبية خائفة وإذا بطلقات الغدر والغيلة تخترق جسده ليهوي ومن على الجسر!!
الجسر الذي أحتوى قفزاتنا في انتشاء الظهيرة لتغسل المياه آهاتنا وتعبنا المضني.. هوى من ارتفاع الجسر وغطس عميقاً بعدما أطلق صرخة قوية (آ...ااخ يمة)..!
أجفلت كل الطيور وهزّت كل النخيل لتنحب وردة عطرة أغرقها الطغاة في نهرنا المقدس....، نهر يأكل أحبابه!
أرنو إلى السماء الصافية وكأني أرى الأرواح تحلق فوق فضائنا التائه والممتد حتى دموعي.
إن لم يرحموا أنفسهم فأنا لا أرحمهم، دارت بندقيتي بين صفوفهم لأرسل لهم ثاراتي القديمة والحاضرة فأسمع صراخهم المتألم فتضحك النخيل ويغني النهر وتهلهل بنادق الأصدقاء لتنثر عليهم غضب البلاد المسلوبة والورد الذي سقط هكذا في فراغ الأيام.
رامي القاذفة التي بقربي رمى مرة وثانية فانهالت علينا رشقات بنادق الجيش وقذائف الدبابات لتسقط فوق رؤوسنا بحمم ملعونة.., وقتها عرفت أن لا مجال للحفاظ على المدينة فقواتهم تتكاثف وإمداداتهم تتوالى..., تراجعنا مسرعين... كنت آخرهم أهرول حافياً بعد أن خلفت حذائي ورائي نقطة التقائنا كانت جامع المنطقة..
ــ عدتُ سالماً... هكذا فاجأني أخي الفَرِح بعودتي ونحن نتهيّأ لتناول وجبة غذاء بعد أن نخر الجوع معدتنا، كان المكان مملوء بالمتبقي من شباب المدينة الذي لم تناله طلقاتهم الغادرة وقذائفهم السوداء وكانت آخر نقطة انسحاب هي جامعنا.
تسرَّب الثوار كأسراب الطيور وأصبحت المدينة كسرابٍ صعب المنال، رؤوس بين النخيل وخطىً خفيفة تدلف باستمرار الظهيرة في عمق البساتين لينتقلوا إلى مدينة قريبة لا تزال تحتفظ بشمسها والتي ستغرب بعد حين.
أيها القدر لا تضحك ولا تتشمت كثيراً بحزننا، ألا تعرف بأن الحزن لعبتنا!
أنا وأخي وبضع أصدقاء أخفينا ما تبقى من آثار سلاح في مناطق نعرفها يملؤنا أمل العودة المستحيل, وعند الأصيل الأحمر كالدماء التي سكبت ارتجلنا الثلاث سيارات المتبقية وبدأت عملية الوداع بعيون ملؤها الحب والدمع واللوعة فانطلقت رغماً عني الدموع وأنا أردِّدُ:
سنعود... سنعود لا بد أن نعود... عبر الهواء.. عبر المياه.. عبر السلاح.. سنعود
حاولت كبت الصراخ لكن الصدى اخترق المنازل التي تودِّعنا فخرجت امرأة بعباءتها السوداء لتوديعنا فنادت بأعلى صوتها رغم الحياء:
ــ تماسكوا فإن خسرنا جولة سنكسب أخرى، فلوَّحت بيدي ونصف جسدي ظاهر من شباك السيارة والدمع الساخن يسابق الهواء المقطوع وصرخت بأعلى صوتي:
ــ إن خسرنا فذكروا الأطفال بنا.
أحمد طابور
اترك تعليق