الأزهار تولد من جديد

من وحي الإنتفاضة الشعبانية

إن فقدت عزيزاً أو وردة فلا بد للقلب أن يينع من جديد

هطل الليل علينا ثقيلاً هذه المرة، والسماء لا تزال ترسل لنا هاجساً مجهولاً، والأرض المشبعة برائحة الخوف والدمار والقتلى تفصح لنا عن مشيمتها المفتوحة والتي تحوي كل مطبات الحياة، الأرجل الراكضة فوقها تنتقل بخفة أو بخطىً ثقيلة وهي تجرجر جراحها المكلومة أو المقذوفة بحمم متشظية أبداً.

عانقت صديقي الذي فارقته يوم كنا نركض بلا اتجاه في وسط المدينة. الطرقات التي كانت تكتظ بالمارّة والزوّار والباعة والمتسوقين أصبحت خالية من رائحة الناس، إلا من جثث ملقاة كيفما أسلمت روح صاحبها، دلفت إلى السوق القديم في المدينة، السوق المسقّف بطبقة من الصفائح المعدنية وبزوايا مائلة مشكلة أشبه ما يكون بمثلث أو برأس خيمة، السوق الذي احتوى ذكرياتنا وأنا أقف على أطلاله. اجتاح رأسي قلق مشبع بالخوف.. استراحة محارب لدقائق وجلة، تراقصت أمامي أشباح الناس وهي تنساب بضجيجها الأزلي وتراشق الباعة بكلمات مازحة وفي فسحة من الوقت تراءت لي صورة صديقي الذي كنت طالما أقف معه هنا ونحن نتبادل أحاديثنا لا أزال أذكر يوم هربنا من بعض أزلام النظام ذات ظهيرة وهم يحاولون سوقنا إلى محرقة الحرب فقادتني قدماي وصديقي إلى باحة أحد الأزقة الضيقة والمحاذية للسوق. قفز كل منا باتجاه ونحن نسمع وقع أحذيتهم السوداء الثقيلة تتجه خلفنا. دلفت إحدى الأبواب المواربة وقفزت من أعلى السطوح المتقاربة وهذه من حسنات أحيائنا الشعبية، فيما بعد وأنا أحضن صديقي حدثني بأنه فيما يهم بالخروج من السطح رأى الباب مغلق في الوقت الذي داهم به العسكر المنزل المختفي به، كانوا يهمهمون بالأسفل وأنا أصلي وأدعو وأرى أمي بهيأة سحابة غامقة تمسح بردائها عرقي المتصبب من كثرة القلق، لكنهم لم يصعدوا.

الليل أجثم على المدينة والبساتين، والظلام ينثر لونه القاتم على عيوننا ونحن نتخبط في دروبه بحثاً عن مجموعة كانت تحاول اصطياد الثوار بنيرانها، طوقنا المكان بعد أن هدانا إليه بصيص شمعة خافتة وأخرجنا من به وسقناهم أمامنا كخراف لغرض المحاكمة كان من بينهم أحد العرب القادمين ليقاسموننا الخبز وليضعوا في نصف رغيفنا الذي نأكله سماً إرضاء لكروشهم المتهدلة, لا بأس سوف نرسلهم للقيادة وهي التي تبت بالأمر.

الصباح يتلوى كثيراً أو قليلاً على وقع القنابل المتشظية والمستبيحة للمدينة ونحن نواصل إفطارنا ونطرد إغفاءتنا ونمسح عن وجهنا حزننا المستمر وبين فسحة الحزن والقتال والدم كانت تتلوى كأفعى بعض ضحكاتنا مرة عن خوفنا ومرة عن خوفهم وأنا أتجول بصمت وخفة في المدينة، رأيت أحدهم... كان مجروحاً وهو يئنّ من جرحه الذي زاده ألماً شدة البرد الذي هطل عليه كضربة أو كرشقة رشاش ونحن ندثره بكل الغطاء الذي نملكه. كان يريد قليلاً من الشوكلاته والنسكافه التي كانت ممنوعة علينا إلا للحالات الضرورية فانتهزناها فرصة أن شربنا وأكلنا معه جميعاً.

الشمس الخائفة تبزغ وتظهر من وراء ستار, الغيمة تحاول أن تحنو على أطراف المدينة لتعجل بقدوم المساء. المساء الحامل للآهات والسكينة والأحلام قبل أن يحل الأصيل ليناوب فترته اليومية, طلب منا في المدينة عدد من المقاتلين مدداً لهم، صعدت إلى الباص مع أخي الذي كان يقود المجموعة رغم الجرح الذي يعلو جبهتي، وقبل أن يتحرك الباص صعد صبي لا يتجاوز عمره الثانية عشر عاماً نهرناه وأمرناه أن ينزل لكنه أبى إلا أن يفصح عن رجولته المبكرة أو ليرى قراصنة الموت كيف تتشكل أنيابهم.

لن أنسى ذلك المشهد... الصبي حمل بعض العتاد مع أحدنا ليعينه في القتال.. كنت أنظر إليهما من الطرف الآخر للشارع المحترق كومضة نار وهو يتأهب للإطلاق..، أخطأ صاحبنا الهدف...، يضع له الصبي الإطلاقة ويخطئ مرة أخرى! وفوهة الدبابة تدور نحوهما وأنا رأسي بدأ بالدوران فاختلطت اليقظة بالحلم وأنا أراهما يتهاويان أمامي إثر القذيفة التي قذفت بعتادهما عالياً عالياً.. وهاهو الصبي يتدحرج نصف رأسه كصحن فارغ...!! لم أفقه ما الذي أصابني وأنا أحلق بين القذائف ألملم أجزاء الصبي المتناثرة وأحتضنه وأنظر إلى مرقد الحسين القريب مني وأنثر دمه السائل بين كفّي, إن هذا نذرك المقدس.. هذه هي صلاة الناسكين والعاكفين والطالبين الخلاص هاهي طفولتنا تتصاعد نحو الأعلى كما طفلك الرضيع وأحلامنا تتشظى أبداً فوق المستحيل.. صرخت: خذوا تلك الدماء وأسلبوا تلك الأرواح الحالمة ودعونا نغفو فوق بساط الحرية...

أما صديقنا الآخر فسحبته أنا وصديقي لننقله إلى إحدى الدور التي كانت كمستشفى حربي مؤقت... وهو يلم أشلاء بطنه بيديه حدّق بي وأوصاني أن أخبر أهلي بأني ما مت إلا من أجلهم وأن أعتذر عن كل شيء ارتكبته بحقهم، وأنا أمسح دموعه المنسابة وهو يضغط على يدي كمن يحاول أن يتشبث ببقايا حياة وأخبر زوجتي.... هكذا استرسل بصوت ضعيف بأنني وأنا أرى الموت أراها تنظر إلي نظرتها الرائعة العذبة آه.. آه.

وقل لأخي حمودي أن يسمي اسم ابنه على اسمي لأني وإن ذبلت روحي فأحبّ أن أعيش بينهم دائماً وأبداً باسمي وروحي والتي أراها تود التحليق الآن, أنا أموت.. الآن لا تتركوني في العراء وحيداً أريد أن أرى أهلي قبل أن أحلق مع روحي المرفرفة فوقي!.. وعدناه ولكننا أخلفنا الوعد وتركناه للمعالجة وخرجنا بعد أن داهمنا الليل نخف الخطى إلى مأوانا ونحن نتجه إلى الأمام داهمنا المطر ليمتزج مع دمعنا وهدوئنا ليغسل لنا آهاتنا ونحن بدأنا نركض احتماءً من المطر وأنا أركض أحسست بأن لي جناحين أطير بهما فوق أفق المدينة أعبّئ فيهما ملء صدري الحزين الهواء والدمع والمطر ليدبّ في جسدي رويداً.. رويداً

احمد طابور

 

 

 

: أحمد طابور