أحسّ أن ليلته هذه تختلف عن سابقاتها، راوده إحساس بأنها ستكون الأخيرة......، الرياح العاتية تعبث بالأفق فتبدو الملامح كركام خلفته حرب ضروس...، الموت يطبق على المدينة وهي تحتضن البيوت المتهالكة فتظهر كمقبرة قديمة...، تخيّلها كأقفاص.. وتراءت له الملامح المتجعّدة الرثة خلف القضبان... الغبار يتصاعد فيغلف الفضاء... ويسدل ليلاً تكاثف بالسواد. وفجأة (رأى) البرق الخاطف يبدِّد الظلام ودوِّي الرعد يقصف الأرض ثم... تساقط المطر... كان دماً!! السماء تفيض بالدماء والأرض تموج وتضطرب! كأن القيامة قد قامت، تناهت إلى أسماعه أصوات السنابك وهي تدبُّ من بعيد، اضطرب جسده، وتسارعت دقّات قلبه وتعالت... أحسها كطبول الحرب!! يا إلهي ما هذه العجاجة؟ لاحت له الخيول وهي تتقدَّم كالسهام وتتراقص فوق أعناقها الأعنة كالأفاعي! ما هذه الرماح المشرعة..؟ وما فوقها..؟ وإلى أين تسير..؟ أمعن النظر رأى وجوهاً تعلو الرماح! ... إنه يعرفها جيداً...! أشرقت خلفها الشمس ثم مالت إلى الغروب فتوسّطها رأس وطافت حوله بقية الرؤوس كالكواكب حول الشمس، كانت سبعون رأساً نُصبت على الرماح، ثم رأى رمحاً لوحده..! رمح لم يكن فوقه رأس أخذ يدنو منه....ثم غابت الشمس كلياً وساد الظلام إلّا من وميض نور بثه سِنان ذلك الرمح.. أفاق من نومه فوجد نفسه كعادته في الظلام فاسترجع وتهيّأ للصلاة.
كان ما يزال مستيقظاً وقد مضى من الليل شوط طويل استنزف منه الكثير وهو يحاول أن يستقصي الأحداث التي مرّت به في حياته بصورة دقيقة قبل أن يستغرق في حلمه، استبدّ به التفكير في ما آل إليه مصيره فشعر بضيقٍ شديد حينما انتابه احساس بأنه سيمضي بقية حياته في هذا الظلام الدامس بعد أن تساوى عنده الليل والنهار لفقدانه بصره، انزاح تفكيره إلى وجوب القيام بعمل ما بدلاً من أن يبقى سجين هذه الأحاسيس، أي عمل يستطيع فيه أن يمنح نفسه بعض الرضا...، فالشعور القاتم الذي يخنقه ويتغلغل في ذهنه كلما حاول أن يجد منفذاً للتخلّص منه استطاع أن يثيره مرة أخرى في نفسه وهو البقاء في هذه الغربة القاتلة.
كان يؤمن بأن الحياة جولة لابد من إنهائها كما تحب وأنت مُصِرٌ على ما تؤمن به، وليس كما تحب هي وكما يفرضه عليك الواقع، لا بد أن أكون أنا لا أن أكون هو، وحتى ولو أصبحت على نقيض العالم كله فقل بأعلى صوتك: أنا لا أنتمي إلى هذا الواقع، واستبد به الضيق أكثر لدرجة أنه اختنق عندما صاحب إدراكه شعور بأنه لا سبيل إلى الإنفصال عن هذا الواقع.
مدَّ يدَه المتغضِّنة المُرتعشة وتحسَّسَ مسبحته فالتقطها وراح يسبِّح الله ويحمده ويسأله أن لا يخيب أمله في نيل الشهادة بعد هذا العمر الطويل الذي قضاه وهو يملأ حواسه ببريق السيوف والرماح ويسمع أصوات الصهيل وهمهمات الفرسان ويتنفّس غبار الحرب...
نزلت الدموع صامتة من عينيه اللتين لا تنبجسان بغيرها بعد أن طُمست فيهما الرؤية، تطلع الليل إليه من بين النجوم وهو يغط في وجوم تام، أنصت إلى الريح فأحسّها وكأنها تئن معه في هذه الوحدة التي تسبح في الظلام... سيّان عنده هذا الظلام مع الضوء بعد أن فقد الحاسة التي تنتفع بالسراج.. لقد بدا وجوده هنا وكأنه لم يكن معنياً بذاته، كان من المحتمل أن يكون في أي مكان آخر تجمعه صلة به، أي مكان يحمل معه سيفه رغم أنه (لا حرجٌ عليه) فقد أحسّ بأنه قد فقد صلته بهذه المدينة كما فقد بصره.
كان هذا دأبه في كل ليلة، فما إن يشلّ الظلام حركة المدينة حتى يستولي عليه الأرق، فيجلس وهو يتساءل بغموض عن مصيره في هذه المدينة التي فقدت ذلك الوجه الملائكي وهو يرتّل آياتِ بلاغته فوق منبرها وفي الليل كانت كفّه تمسّد رؤوس اليتامى وتمسح دموعهم بأرغفة يخفي خلفها دموعه.
فقدت ذلك القلب الذي ينبض بالحب كلما قست الدنيا على الناس، ويبذر فيهم الأمن والطمأنينة كلما هاجمهم هاجس الخوف، ويضيء لهم قناديل الأمل كلما داهمتهم غياهب الظلام.. يا الله كم هو بحاجة الآن إلى سماع ذلك الصوت الذي افتقده قبل أكثر من عشرين عاما؟
أحسَّ أن الكوفة تبكي معه على سيد قلوبها وكأنها أصبحت عمياء أيضاً لا ترى مثله... وتبقى هذه الصور والتأمّلات تنثال عليه في هدأة الليل الطويل الذي يزحف بطيئاً.. ثقيلاً يجترّ معه الذكريات التي تأبى مفارقة ذهنه ومخيلته، يسند رأسه إلى الجدار يناجي أحزانه، لا يبالي بالصبح إذا أسفر ولا بالليل إذا أدبر، ولا ينتفع بنور الشمس ولا بضياء القمر ولا تعنيه الوجوه بعد أن رحلت تلك الملامح التي يحبها فيحمد الله أن كفّ بصره وهو على طاعته. لقد انقطع عن كل ما يتعلق بالدنيا سوى عن صوت واحد يطرق سمعه وهو يملأ أرجاء المدينة فيثب ليقف بين يدي ربه.
لقد أفقده العمى رؤية منظرٍ ربما سيضفي إحساساً حزيناً آخر لديه.. فلم يكن ينظر إلى عينين كانتا تراقبانه وهما تنثران عليه الرفق والشفقة وتذوبان عليه تحنناً ورحمة، كانتا في كل يوم تراقبانه في ليله دون أن تنبس صاحبتهما بكلمة واحدة، كانتا عينا ابنته الوحيدة التي تعيش معه.
كان ليله يسعفه أحياناً حينما يحمل إليه تلك الذكريات قبل أن يفيق على مأساة الدنيا كلها، لقد بلغ من الكبر عتياً وصار شيخاً مريضاً عاجزاً أقعدته الشيخوخة وأنهكته العلة ولكنه مع كل هذه الآلام فقد كان مطمئن النفس هادئ الضمير أضفى عليه سنُّه وقاراً وجلالة، فكان يصارع مآسي الدنيا بطمأنينة وسكينة فيسترسل في نجوى هادئة يتضرّع فيها آناء الليل بالنوافل والدعاء وتتصاعد نفثاته من روحه المتأوّهة:
ــ لقد بلغتُ من الكِبَرِ عتيّاً فهل سأنالها وألتحق بهم؟
فقد إحدى عينيه يوم الجمل والأخرى يوم صفين وها هو بعد هذا التاريخ الطويل من الجهاد وقد فقد أصحابه وأحبته كُتب عليه أن يعيش ليسمع أن بني أمية ينزون على كرسي الخلافة والولاية نزو القرود، ويستأثرون بالثروات العظيمة، ويعيشون في القصور، وهم (يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع)، وقد (اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا)، بينما يعيش المسلمون جفاف الحياة والفقر والمكابدة والحرمان والمشقة ولا يجنون من تعبهم وعذاباتهم وأحزانهم وحرمانهم غير ازدياد الفاقة وتفاقم الفقر.
فتح يده ومسح بها جبينه وهو يسترجع
لابد من صوت يوقظ هذه الضمائر التي أوشكت أن تموت، لا بد من يد تقوّم الأود والاعوجاج، لا بد من رجل يوقف هذه المهزلة ويرجع الأمة إلى جادة الصواب، لا بد من ثورة...
وفجأة يتناهى إلى سمعه ذلك الصوت (الثورة) على هذا الواقع المزري! إنه الرجل المنقذ الذي نذر نفسه لله فقدمها قرباناً مكللاً بالدم، إنه الأمل الذي أنماه من قال: (الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين).
إنه الحسين يبث الحرية والكرامة في شريان الأمة بعد أن أهدرها بنو أمية فيلقّنها بأن اليد الطاهرة النقية لا تخضع لليد الآثمة الملوّثة وإلّا صارت مثلها: (إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله).
خرج صباحاً كعادته للصلاة في جامع الكوفة فسمع منادي الوالي عبيد الله بن زياد ينادي بالصلاة جامعة ليلقي عليهم خطبته، أدرك من تهامس الناس أن هناك أمراً مهماً وراء هذا النداء! الجلبة واللغط تملآن المسجد لكثرة الحاضرين، وفجأة ساد الصمت! عرف أن ابن زياد قد حضر فقرّت هذه النفوس المتطامنة التي أذلها الأمويون والتي لا تجرؤ حتى بالهمس أمام سطوة ابن زياد فعندما يسود السيف تخرس الألسن، وتناهت إلى أسماعه نفثات الشيطان من فم ابن زياد:
ـــ الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته!!!!
لم يكن يتوقع أنه سيبقى إلى زمن كهذا...!! الشياطين تعتلي منابر المسلمين الله أكبر، هذا ما لا يطيقه قلب المؤمن المسلم ولا يستطيع السكوت عليه حتى لو كلفه الرد عليه دمه، ولكن المجلس بقي صامتاً كأن على رأسه الطير فلم ينبس أي أحد ببنت شفة سوى صوت واحد زلزل المكان وجعل ابن زياد يخرس في مكانه.
ــ يا ابن مرجانة، إن الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك، ومن ولّاك وأبوه، يا عدو الله، أتقتلون أبناء النبيين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين ؟!!!
كان هذا الصوت هو صوته!! دارت الأرض بابن مرجانة... أصحيح ما يسمع! لقد عوَّده المتخاذلون من صغار النفوس على الطاعة العمياء وها هو يصطدم بهذا الجبل، أراد أن يعرف مصدر الصوت فقال:
ــ من هذا المتكلم؟
فجاء الصوت أقوى وأعنف: أنا المتكلم يا عدو الله، أتقتلون الذرية الطاهرة التي أذهب الله عنهم الرجس وتزعم أنك على دين الإسلام؟ واغوثاه أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا منك ومن طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين؟
غضب ابن زياد وأمر باعتقاله غير أن الشيخ انتفض بوجه ابن مرجانة ليؤكد له أن سيفه وسيوف قومه التي قاتلت بني أمية لا تزال مسلولة بوجوههم، أحسّ أن هذا الموقف قد أعاد إليه شبابه وقوته كلها وأرجعه إلى أيام صفين، فلا يزال ينتظر هذا اليوم الذي يردِّد شعار الأزد كما كان يردده فصاح: يا مبرور....
قام عدد كبير من قومه وانتزعوه من أيدي الشرطة وأتوا به إلى بيته
لكن ابن زياد (لم يكن ليترك لؤم القدرة) وأبى أن يترك هذا الشيخ الضرير فأرسل بالجنود إلى بيته لقتله.
وسمع الشيخ صوت جلبة الجنود فتدفّق دم الحماس في وجهه، ألم يكن منتظراً هذا اليوم وهذه الفرصة منذ سنوات طوال بعد أن آيس منها... هذه الفرصة التي ستمنحه كرامة الشهادة ومرافقة من أحبهم ومفارقة من أبغضهم، فقال لابنته: ناوليني سيفي..
التفَّ الجند حوله وهو يقاتلهم، فكانت ابنته ترشده إلى مكان الجنود وتقول له: عن يمينك وعن يسارك وهي ترى والدها الشيخ الأعمى وحده يقاتل هذه الزمرة فقالت: يا أبتاه...! ليتني كنت رجلاً أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة !!
كانت هذه الكلمات تقوّي من عزيمة الشيخ وإصراره على القتال حتى آخر رمق، ثم تكاثروا عليه وأخذوه أسيراً إلى ابن زياد
وأخيراً هي الشهادة... وقف الشيخ أمام ابن زياد وكأنه يطل من سمو نفسه على وضاعة ابن زياد كان مستعداً لأي شيء، سأله ابن زياد عدة أسئلة فأنف الشيخ أن يتحدث معه في أمور هي أكبر من حجم ابن مرجانة ووجه له طعنة في الصميم:
ــ وما شأنك أنت وفلان وفلان ولكن سلني عن أبيك وأمك!!!
اضطرب ابن زياد لدى سماعه الشيخ وهو يذكر أباه وأمه، فقد وضعه في حجمه الطبيعي وعرفه على نسبه المشبوه وأشار إلى عنصره الموبوء الذي تزدريه الأرض، لقد نسي ابن زياد أو أنسته السلطة إنه من أبناء ذوات الأعلام من العواهر اللواتي كان لهن تاريخ عريق في إنجاب إبنٍ مُتنازعٍ عليه بين أربعة رجال أو خمسة أو أكثر! حتى اختارت كل واحدة منهن (واحداً) لتلحق ابنها به واضعة في حسابها حالته المادية والإجتماعية، فاختارت مرجانة أن يكون عبيد الله إبناً لزياد..!!
وكانت (مرجانة) أم عبيد الله بن زياد أوفر حظاً من (أم زياد)، فألحقته بزياد سريعاً، بينما بقي زياد (الأب) فترة طويلة يُدعى بـ (ابن أبيه) حتى ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان في مجلس علني ورسمي أمام الناس، وأعلن أن أبا سفيان عاشر سمية فانجبت زياداً من سفاح، وهي كانت في نفس الوقت زوجة رجل آخر يدعى عُبيد وهو عبد للحارث بن كلدة الطبيب المشهور!
ولم يخجل زياد من ذلك الإدّعاء الذي يندى له جبين أي إنسان شريف، ورجّح المغانم التي ستدرّها عليه هذه الأخوّة على كشف نسبه المثلوم وعرضه المخزي أمام الناس، فالسلطة كانت عند هؤلاء أهم كثيراً من سلامة العرض.
لم يتحمل ابن زياد وهو يسمع هذه الحقيقة التي لم يستطع إنكارها وقد واجهه بها هذا الشيخ فقطع عليه كلامه وأمر بضرب عنقه.
تبسم الشيخ ابتسامة المنتصر.....، لقد حظي بها أخيراً....، إنها الشهادة، لقد تحقق حلمه الآن بعد أن يئس منه فأفصح عما في داخله من شعور لازمه لسنوات طوال: (الحمد لله أما أنّي قد كنت أسأل الله ربّي أنْ يرزقني الشهادة من قبل أنْ تلدك اُمّك ، وسألت الله أنْ يجعل ذلك على يدَي ألعن خلقه وأبغضهم إليه، فلمّا كُفَّ بصري يئست من الشهادة، والآن فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الإجابة بمنّه في قديم دعائي)، ثم ضُربت عنقه وصُلب في السبخة.....
أغمض الشيخ عينيه كلياً على الشهادة متخطياً عتبة العالم الفاني إلى العالم الذي اختاره وهو ينعم فيه بالنور الأبدي الذي ليس له انطفاء.
اترك تعليق