اصطدمتْ الكلماتُ التي سمعها (وحده) بحاجزِ الإنسانِ الذي استفاقَ في داخلهِ فتوقف مندهشاً وتساءل مع نفسه: ــ أنا الذي جعجع واعترضَ (عليه) الطريقَ يوم ظلّتْ بي بوصلةُ الوعي.. وسقطتُ في غيبوبةِ الضمير.. فما معنى هذا النداء؟
ـ يا الله.. ما هذا الصوتُ الذي أسمع..؟!!
ـ من أنت؟
أرهف سمعه فأصغى... إنه فعلاً سمع هذه الكلمات:
ـ أبشرْ يا حُرّ بالجنَّة!!!
ـ أصحيحٌ أنه ذكر اسمي... أنا؟!!
سادَ الموقفُ صمتٌ رهيبٌ سوى كلمةٍ ظلَّ ذلك الإنسان يرددِّها في داخلهِ (يا حرّ....)... وكأنه يمدُّ يدَه لينتشله من جرفِ سيلٍ عارمٍ، أو شفا وادٍ سحيق.
سألَ ذلك الإنسان: أيكون هذا هو المكانُ المناسبُ والسليم؟
فأجاب: بل هو الواحة المنقذة من التيهِ، والسَّكينة التي تخلّصكَ من هذا التقريعِ المُفرط للذات، بل هو الرَّوْحُ الذي يخلّصكَ حتى من ضغطِ الهواءِ الملوّث الذي تتنفّس...
قوىً عظيمة تدفعه أعظمُ من قوىً تتواثبُ وتعوي، وصوتٌ أعلى من صوتِ المهمةِ التي أنِيطتْ به، فيجدُ فيهما (جاذبية) وانتماءً لنفسهِ وقلبهِ وروحهِ و..... مجدهِ الذي يأبى عليه انتماءً يقومُ على امتلاكِ العبيد.
انتبَه.. لا وقتَ للتراجع فالوقتُ يمرُّ وليسَ كل سحابةٍ مُمطرة..، وفي هذه اللحظاتِ عليه تحديد المصير...
انزوى عن الحشودِ ووقفَ يرقبُ الموقفَ عن كثبٍ.., لم يعبأ بأصواتِ الفرسانِ والرجالةِ والصهيلِ و....الجلبة، وأطبقَ جفنيهِ عن هذا المشهد لتنثالَ في رأسهِ مشاهدُ كثيرةٌ كان آخرَها يومَ جعجعَ بالركبِ الحسيني.......
(ذات حسم)....... ألفُ فارسٍ في ذلكَ اليومِ القائظِ وسطَ الصحراءِ اللاهبة كان ـ هو ـ يقودُهم وقد نفدَ ماءَهم، وأضرَّ بهمُ العطشُ، ولا يُنقذهم مما هم فيه سوى معجزة..... ولما أشرفوا على الهلاكِ لاحتْ لهم تلك الواحة النبويِّة..
كان الحسينُ نازلاً هناك في طريقهِ إلى الكوفة فأمر (عليه السلام) أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا خيولَهم فسقوهم عن آخرِهم في تلك الصحراءِ التي تعزّ فيها القطرةُ من الماء......
في تلك اللحظات التي لا تفصلُ الإنسانَ عن موتهِ سوى بضعِ ساعاتٍ ولا ينقذه من الموتِ المحتّمِ سوى رشفاتٍ من الماء، يكون فيها ـ أيُّ إنسان ـ في أشدِّ حالاتِ الحرصِ على الماءِ، ولا يعبأ فيها سوى بنفسهِ، فالماءُ هو (الحياة) والـ (حياة) هي الماء.
في تلك اللحظاتِ المصيرية ارتوى هو مع ألفِ فارسٍ من تلك الواحة، ونزلَ علي بن الطعان المحاربي ـ أحدُ أصحابهِ ـ عن جوادهِ ليشرب وقد أفقده العطشُ وحرارةُ الشمسِ الرؤية، فلم يَعد يرى ما حوله، فرأى الحرّ يدينِ تغرفانِ الماءَ وتُدنيانهِ من فمِ المحاربي ليشرب، فشربَ حتى ارتوى....!!
كانتْ تلكُما اليدانِ يدَي الحسين!
يا الله... أصحيحٌ أنهم يمنعون عنه الماء الآن؟
عنه (هو) الذي يجب أن يُحرمَ الماءُ ويطوفُ حولَ يديه!!
أرادَ أن يتأكّدَ فتقدَّم من ابن سعد وسأله:
ـ أمقاتلٌ أنتَ هذا الرجل؟
فجاءَ الجوابُ الذي نطقَ به الوحشِ داخل نفسِ المُجيب: إي والله... قتالاً أيسرُه أن تسقطَ فيه الرؤوسُ، وتطيحُ فيه الأيدي!!
تلقى آخر كلمتين كمن أفاق من غيبوبة: (وتطيحُ فيه الأيدي)!!!
انهالَ عليه منظرُ (اليدين الواحتين) في تلكَ الصحراءِ وهما تسقيانِ المحاربي.
أمِنَ المُمكنِ أن يقطعوا اليدَ (الواحة)، ويذبحوا النبعَ النبويِّ الوحيدِ في الأرض؟!!
أشاحَ بوجههِ نحو الأفقِ البعيدِ، دارتْ برأسهِ عاصفةٌ من الأسئلةِ، وهيّجت الريحُ مساراتِ انتمائه فلاحت له عن بُعد ملامحٌ تنظرُ إليه بعينِ التأنيب.., انتبَه إلى أنه قد حادَ عن هذه المسارات، تصاعدَ الدمّ في وجههِ.
لم يقطعْ استغراقَه هذا سوى صوتِ أحدِهم:
ـ هل سقيتَ فرسَكَ اليوم؟
لم ينتبه حتى إلى أنه كان على الماء، كما لم يدرِ هل شرِبَ فرسُه أم لا، فأجاب:
ـ لا
ـ فهل تريدُ أن تسقِيْه؟
سكت....
عرفَ السائلُ أنَّه يريدُ أن يبقى (وحدَه) ويكون (حُرَّاً) بعيداً عنهم فتركه....
خطا أولَ خطوةٍ في تصحيحِ مسارِه.. خطوتين... ثلاث، مسافة أقدامٍ بين الماءِ الذي فقد معناه ولم يعد قادراً على إرواءِ الضميرِ العَطِش، وبين العروجِ إلى نبيِّ الماءِ الظامئ، مسافة أقدامٍ هي أطولُ من هذا النهرِ العقيم وأقصرُ من نبضةٍ في هدأةِ ليلِ العاشق، مسافة أقدامٍ تفصله عن المسارِ الصحيحِ الذي يقودُه نحو اسمهِ، وكيانهِ، وانتمائه....
لم يكُ واثقاً طوالَ حياتهِ بخطواتٍ يخطوها كهذه، أحسّ أن حتى فرسه كان يحثّه على ما نوَى عليه، كانتْ سنابكُ فرسهِ تسابقُ دقّاتِ قلبهِ فيها....
رآه المهاجرُ بن أوس فظنَّ أنه يريدُ أن يهجمَ على معسكرِ الحسينِ فقال له:
ـ أتريدُ أن تحمل؟
كان وقعُ تلكَ الكلمةِ عليه شديداً.... أحسَّ بطعنتِها في قلبهِ..
واستطردَ المهاجر:
ـ (لو قيلَ لي من أشجعُ أهلِ الكوفة لمَا عدوتُك)
نعم فما جرى...
ـ (فما هذا الذي أراه منك)؟؟
ما هذه الرعدة؟؟
لم يكُ محتاجاً إلى شهادةِ الشاهد، وقربِ البعيدِ، وحضورِ الغائبِ، فالشمسُ تعرفُ وجهَه أكثرُ من المرايا.., ونسبُه يصدحُ به صليلُ السيفِ وصهيلُ الخيلِ قبل الأفواهِ فأوضحَ موقفه:
ـ (إنِّي أخيِّرُ نفسي بين الجنّةِ والنار).....،
في تلك اللحظاتِ كان قد حدَّدَ مصيرَه.......
بدأ بخطواتٍ بطيئة ثم بدأ يُسرع قليلاً نحو... الواحةِ الأبديةِ التي لا يظمأ من لاذَ بها أبداً.
كان صوتُه يعجُّ بآلافِ الصورِ والأصواتِ، وهو الآن قد أصغى لأحدِها كما يصغي الفيلسوفُ إلى الحكمة، أو كما يختارُ الشجاعُ موتَه:
ـ (واللهِ لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً.., ولو أحرِقتْ..)
ـ إن من يرى النورَ لا يستطيعُ العيشَ في الظلام..
ـ هاهي الواحةُ تشيرُ إليَّ بأفيائها وسطَ هذا التيهِ......
هكذا قالَ الفارسُ (الحرُّ) المخضَّبِ بالعشقِ وهو يُشيرُ إلى قلبهِ.
تلكَ كانتْ لحظةٌ من برزخِ الذاتِ بين الخلودِ والفناء، بين الخمولِ والمجد، بين السموِّ والوضاعة.
الريحُ ترفعُ خصلاتِ الرمالِ, فتُمطرُه بصوتِ العشق.
ملامحٌ تتخطّى حاجزَ التبعية، وتتحرَّرُ من قيودِ العبوديةِ فتأتلقُ.. وتُشرق
دوِيُّ الضميرِ يقرعُ في أنفاسهِ كناقوسٍ يدعوه إلى صلاةِ التوبة، وصدى الإنسانِ (الحرِّ) يردِّدُ نداءَه، فإذا الإرادةُ الحرَّةُ تنبلجُ فيه.
عندما يرنّمُ المطرُ لحنَه تُصغي الأرض , وعندما تتغازلُ العصافيرُ تبتسمُ الأشجار , وعندما يُغرِّدُ العشقُ يسكتُ الشعر.
هي استفاقة المعنى كما يستفيقُ الصبحُ على أشعةِ الشمسِ فتُشرقُ الألوانُ على حقيقتِها..
إنه الهاجسُ بالإنتماء الذي يتحوَّلُ إلى الضميرِ المحاور.
رفعَ الأشرعةَ بوجهِ الرياح، وتخطّى الأمواجَ، وانتصبَ كالصخرِ أمامَ الشاطئِ الأمين..، وكهيامِ نبيٍّ بصلاة، أو كعشقِ أرضٍ للمطر باحَ بقلبه:
ـ (يا أبا عبدِ اللهِ إنِّي تائبٌ.... فهل ترى لي من توبة)؟
تراءى له ذلكَ الإنسانُ في داخلهِ وهو يبتسم، أما تلكَ الملامحُ فقد كانتْ تترقّبُ الجوابَ لكي تأذنَ له باللحاقِ بهم...
ـ نعم أن تُبتَ تابَ اللهُ عليك....
كان شلالُ الطمأنينةِ ينسابُ إلى قلبهِ الوالهِ مع هذه الكلمات... إنَّها الراحة الأبدية...، إنّه صميمُ الإنتماء.., كانتْ الملائكة تظللّه بأجنحتِها, والعشقُ يغسلُ قلبَه الواجف, والريحُ تحملُ ندى الصباحِ لتتلألأ على شفتيهِ وهو يبوحُ بهذا العشقِ الذي لا زالَ مشرقاً في عينيهِ حتى أسرى.
إنّه النهرُ الذي يغسلُ الروحَ من عذاباتِ الأرض.....
إنّه الحبُّ الذي يُورقُ سنابلَ النجوى.....
إنّه الأملُ الذي يشعُّ في عتمةِ الروح.
انطلقَ الصوتُ (الحرُّ) بهويتهِ الصريحةِ وانتمائهِ المتسلسلِ من سمائهِ السامقة في ذلك اليوم.
وهل سمتكَ أمُّك حراً إلّا لهذا اليوم؟
وهلْ الحرّ من يقبعُ في زوايا الذلِّ، ويركنُ إلى النفوسِ الصغيرةِ، ويُطربُ لقعقعةِ الأغلال؟
إن من ينشأ على صهواتِ المجدِ لا يختارُ لحياتهِ سواها، ولا يموتُ إلّا وهو شامخٌ عليها، ولو اقتحمَ الشمسَ وخاضَ الأعاصيرَ ونازلَ الجبال.
كانت نفثة في صدرهِ أو نصيحة لعلَّ بين القومِ (حرَّاً) مثله يطمحُ إلى كسرِ أغلالِ العبوديةِ.
فما كان الجواب إلّا سهام الغدر التي ريشتها الخيانة.
كان يحاولُ أن يصحِّحَ بوصلاتِهم ويوجِّهها نحو الحريةِ ولكنهم أبَوا إلّا الإذعان لعبوديتهم وذلهم فأحس بصِغَرِهم
ــ أصحيحٌ أنه كان معهم؟!!
حتى فرسه أبى وأنِفَ أن يُنزله إلّا وهو في سوحِ الشرفِ والمجدِ مضرَّجاً بدمائهِ.
هو الحرّ كما توسَّمَتُه وسمَّتْه أمُّه، وكما باركَ قولها الإمام الحسين: (أنت حرٌّ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة).
اترك تعليق