قصة ميلاد

قصة ميلاد

محمود محمّد الحبيب

*********************************************

كانت طلائع الفجر العسجدية تتسلل بهدوء من بين الكثبان الرملية والجبال العالية , فتدحر أمامها فلول الليل الموهنة. ولم تمضِ ساعة واحدة حتّى كانت الشمس قد استوت على عرشها ضاحكة الأنوار , وقد أحالت الصحراء إلى معبد قدسي ارتفعت منه الأناشيد والتراتيل الجميلة المنبعثة من موسيقى الأنسام , وحداء أدلاء القوافل , واُغنيات الرعاة , وثغاء الشياه , وزقزقة العصافير , وشدو الحمائم , فاستيقظت المدينة الراقدة , ونفضت أبناءها إلى رحاب الشوارع وأروقة المساجد , وزحمة العيش وصيال الكدح.

وفي إحدى دور بني هاشم كان الداخل يرى شخصاً مهيب الطلعة , وضّاح الجبين , وفي سيماه عنفوان الرجولة , وفي إهابه صولة الليث , وقد أفاضت عليه حلاوة الإيمان هالة من مهابة , وإكليلاً من وداعة هادئة تسري إلى القلب , فتودّ لو أطلت إليه النظر دون أن يدركك الملل.

كان ذلك الشخص جالساً وهو ينكث الأرض بعود في يده , وقد انصرف بخواطره عن كلّ شيء , اللهمَّ الاّ ما شغل باله , واستحوذ على مشاعره وهيمن على كلّ رجاحة فيه.

كان قلقاً يرمق السماء ذات الأديم الأزرق والصافي أحياناً كشاعر حالم , ثمَّ يرتدّ ببصره إلى ما حوله , فيلمح ابن عمّه المصطفى جالساً إلى جانبه , وقد التفّ حوله فتيان بني هاشم وشيوخهم وهم ينظرون إليه بأعين تنطق بالتشجيع ، وتلطّف ثورته الحبيسة , ثمَّ ترصّع شفاهم ابتسامات ألذّ من النسيم , وأعذب من الماء السلسبيل في فم صاد ضلّ في بيداء قاحلة. 

 كان الرجل يحاول بدوره أن يغتصب ابتسامة ردّاً عليهم , ولكنها وإن رصّعت فاه فهي لا تخلو من شحوب لما يُحسّه من اضطراب داخلي. كان الموقف حرجاً , وقد أدرك الجالسون ما فيه من توتر في الأعصاب , ووجيب في القلوب , واندفاعات في الخواطر التي تأبى الاستقرار إلاّ من شخص واحد هو النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فهو الرجل الوحيد الذي شعر نحوه باطمئنان عميق يؤنسه في هذا الجو الملبّد بالأزمات النفسية ، فالاتصال الروحي بالسماء كشف أمام ناظريه ما استغلق على سواه من أسرار المجهول.

 التفت (صلّى الله عليه وآله) إلى ابن عمّه علي (عليه السّلام) قائلاً: ( (تشجّع يا أبا الحسن , فالله معنا)).

 فردّ عليه الإمام (عليه السّلام) بصوت متهدّج: ( (إنّ قلبي شاعر بما يحسّه المؤمن في هذه الساعات , ولكنه قلب الزوج الحنون العالم بما يعتور قسيمة حياته من آلام المخاض القاسية , فاعذرني)). ثمّ غمره صمت عميق حدا بالجالسين إلى السكوت حتّى لتكاد تسمع دبيب الأنفاس في الصدور.

 كان ما حدث شيئاً مخالفاً لسنن الطبيعة التي ألفها الناس , بل أمراً غريباً جداً ، فزوجة الإمام علي ـ فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ـ قد أحسّت بالمخاص وأوجاعه في شهر حملها السادس , وهذا حدث لم يقع في تاريخ النساء إلاّ في ولادة واحدة لنبيٍّ كريم.

 كما إنّ علم الطبّ الحديث يؤكد لنا أنّ الطفل الذي يولد في مثل هذه الحالة لا يلبث أن يموت بعد دقائق من ولادته ، لنقص في نموّه المتناظر ، إذ لن يستكمل نموّه وخلقه التامّ إلاّ في الشهرين السابع والتاسع...

 إذاً فما الذي ينتظر هذا المولود القادم قبل الأوان إلى الحياة ؟ هذا ما دعا الإمام (عليه السّلام) إلى الاستجابة إلى العوامل النفسية المتضاربة , فتملّكته الأفكار ولم يقر له قرار. ومع ذلك فكلّما صافحت عيناه عيني المصطفى (صلّى الله عليه وآله) , ولاحظ توهّجهما الغريب , وتلك الغبطة التي ترفّ على محياه الزاهر شعر بالراحة , ورانت عليه لذاذات هنيئة , ومتع روحية عميقة الأثر تطرد عن اُفقه ما يغزوه من أشباح سوداء , فينقلب بعواطفه وجوارحه إلى ألف اُذن واُذن.

 ويمدّ السمع مرهفاً نحو غرفة زوجته , فلا يسمع إلاّ أصوات النساء النامّة عن التشجيع وطلب الصبر والدعاء وغيره , فيودّ لو تصرّمت هذه الدقائق السائرة ببطء ليحسّ من بعدها بسلامة المآب وروعة الخاتمة , وليطبع على جبين مولوده قبلة عميقة يودعها هذا الخضمّ من الشوق الزاخر في أعماقه كصخب شلال مندفع.

 ولكن الدقائق تنطوي على مهل حتّى ليخالها شيخاً يدبّ , موهن الخطى , وهي تسجّل في طريقها آلاف الهواجس المرفرفة على محيّا الوالد الذي ينتظر بشوق وحنين.

 

ما أروع هذه الصور الفنية الدقيقة الخيوط , الرائعة الظلال التي نطق بها وجه الإمام (عليه السّلام) , ففيها يرى الناظر فرحة الأب بطفله الجديد , وجزع الزوج الخائف على مصير زوجته , ورهبة الإنسان العاجز أمام قوة المجهول , واطمئنان المؤمن إلى عطف الخالق , ثمَّ صبر العبد على امتحان الله.

وهكذا اصطخبت عوامل الألم بالأمل , والخوف بالرجاء , والصبر بالإيمان , والضعف بالتجلّد , والعجلة بالأناة والتريّث , وظل مسرحاً تمثّل عليه أعنف الفصول , وهو مع ذلك الرجل العظيم , الكاظم لعواطفه , المنصرف إلى ربّه في دعاء خافت وصلاة فكر وتلاوة آي محكمات.

 وبينا هو يغمغم بما يمنحه هدوء البال , واستقرار العاطفة إذ تعالت الأصوات من الداخل , وارتفع دعاء الهاشميات

يبعث الرعشة في الأجسام ، لحرارته وانبعاثه من قلوب صادقة الولاء , فيّاضة المحبّة.

 فأحسّ أبو الحسن بأن قلبه يكاد يثب من بين ضلوعه لفرط وجيبه , وتدفّقت الدماء حارة في عروقه , وتفصّد جبينه بقطرات العرق البارد , فراح يمسحها بكفّ مرتجفة وهو يتضرّع في سرّه إلى الله تعالى أن يخفف عن زوجته ألمها ومتاعبها , ويكشف عنها هذه السحابة الثقيلة. وأخذت روحه الحنون ترفرف حول الدار رفيف الطير حول وكناتها وفراخها.

هبطت إرادة السماء فدوّت في الدار الأغاريد , وعلا صوت البشير يهتف بمولد الطفل شبل حيدر (عليه السّلام) وحفيد محمد (صلّى الله عليه وآله) , فارتفع للهاشميات هتاف عالٍ وتسبيح ذو نغم عذب , هذا والفرحة الكبرى تسكب عليهم طراوة الحياة ومسرّاتها , وولد عيد سعيد في تأريخ آل محمّد مولد السبط.

أمّا الإمام , أمّا الأب المشوق فقد أمّ زاوية في الدار شاكراً لله إحسانه , ثمَّ هرول إلى الداخل والحنين الطاغي يسبقه خطوات , فهنّأ زوجته بالسلامة ثمَّ انحنى على المولود , والتقت الشفاه الظامئة بالجبين الزاهر في قبلة خُيّل للحاضرين أنها قد استمدّت قوّتها من أعماق روح الإمام (عليه السّلام).

اهتزّت المدينة لوقع المعجزة الكبرى , واكتظّت دور بني هاشم والمساجد بالمسلمين المغتبطين بهذا العيد , وسرى النبأ يغزو الأمصار , ففرح المحبّون. أما الذين تحجّرت أفئدتهم فقد رجّ الخبر أفئدتهم رجّاً.

وتمرّ بضعة أسابيع , وفي ذات مساء في جلسة عائلية كان النبي (صلّى الله عليه وآله) جالساً يحفّ به ابن عمه وابنته فاطمة , وصفوة من ذوي قرباه , وقد أجلس الحسن والحسين (عليهما السّلام) في حجره , وراح ينظر إلى الأخير نظرة طويلة بهت لها الجميع , ثمَّ أخذ يقبّله والدموع تنهمر من عينيه , فهتفت فاطمة: ( (أبتي , ما يبكيك؟!)).

ونظر عليّ (عليه السّلام) إليه والسؤال يتراقص على لسانه... نظر النبي (صلّى الله عليه وآله) إليهم وإلى الطفل , وسبحت خواطره إلى المستقبل البعيد تلج أبوابه , وتكشف عن أسراره وغوامضه في حياة البشر , فإذا للحفيد قصّة سطورها من دماء ودموع.

أمّا فاطمة وزوجها , أمّا الحاضرون فلبثوا ينتظرون الجواب , ولكنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) انطوى على نفسه , وانصرف بكافّة جوارحه لقراءة سطور المجهول...

وارتمت الشمس خلف الجبال في ثوبها المعصفر وهي تلقي أهدابها الوردية على الاُفق , ثمَّ احتضن الكون ليل داج ترصّعه ذات بصيص خافت.. هذا والنبيّ لا يزال مستغرقاً في صمته العميق...

ــــــــــــــ

*اُلقيت في جامع (المظفر) احتفالاً بيوم عيد ميلاد الحسين (عليه السّلام) , الذي أعدّه ونظمه شباب العشار سنة 1367 هـ.

 

المرفقات

: محمود محمد الحبيب