حين دفنَّا الأصدقاء

قصة قصيرة من وحي الإنتفاضة الشعبانية المباركة

لا تذرف دموعك كلها مرة واحدة، احبس منها دمعة ربما تسقطها فوق جسد صديق آخر..... لعلّ هذه الكلمات التي لا أتذكر أين قرأتها ولمن هي كانت أفضل ما يفسّر ذلك اليوم.

الصباح رائع قديم كمدينتي، وأشعة الشمس تتلألأ فيه وتفترش المساحات الشاسعة وتتسرّب بين سعفات النخيل الشامخة التي تسوِّر المدينة. كنت أراقب انعكاس أشعة الشمس على القباب الذهبية مكوِّنة شعلة متوهّجة تبعث في نفسي البهجة والراحة فتحثني على التوغّل في دروب لا مرئية بعيدة عن ضجّة الناس والقنابل والموت والعويل، أنا ورغيف خبز حار أخرجه بتأنٍ من تنور أمي الذي يتوسّطه اللهيب، كنت أنصت من خلال الصمت المطبق الذي غلف مدينتنا إلى نشيج متقطع يأتي مع النسمات الهادئة والمنبعثة من أعلى المنارتين، وفجأة تحوم فوقنا غيمة خجولة تحاول أن تحجب أشعة الشمس لتكوّن ظلالاً يزيد من ظلال الموت المخيم على المدينة، كنت أنا ورفاقي نرنو بعيونٍ متوسّلة صوب الشرق ننتظر جيوشاً لن تأتي.

هكذا كنا نتأمل أو نسمع باستمرار الأيام الأخبار في مدينتي التي لم يدخل في قلبها الفرح. جفلنا عند سماعنا أصوات انفجارات متتالية كسرت سكون قلوبنا الخافقة وبأمِّ عينيَّ نظرت إلى السماء رأيتها تنثر مع المطر دخاناً أسوداً يخنق القبتين.

جاء والد صديقي ليخبرنا أن ابنه مسجىً في الخندق المحاذي للبساتين القريبة من حدود المدينة، كنا جالسين في تابوت للموت هكذا أخبرني صديقي والذي كان يقود السيارة بسرعة فائقة متخطياً زخم القنابل، والتي كانت تسقط بلا رحمة كأمطار شتاء قاس.

رأيته بخصلة شعره الأسود المنسدل فوق عينيه الداكنتين والباعثتين ألف سؤال وسؤال وهو نائم يحتضن سلاحه المغطى بطبقة من التراب ويغطي جسده كمية من الطين، أثار انفعالي أطلاقه النار على القطط والكلاب التي كانت تتنقل على الجثث فرحة بوفرة الطعام بعد القحط، الأجساد المتناثرة هنا وهناك كصور من المعركة التي كنت أشاهدها ذات يوم.

كان يغفو غفوته الأبدية... حملناه بسرعة ودويّ القذائف يلاحقنا أينما مررنا والمدينة تصفر فيها الريح والرؤوس تظهر وتختفي وتأتي إلينا عبر الأثير أصوات استغاثة أو حركة هروب.

وصلنا إلى مكان آمن وفي تلك اللحظة توسّعت الغيمة وتجاوزت خجلها بأن غطت ما تبقى من روح الشمس لتكمل لنا مشاعر الحزن ولتعزف لنا لحن الموت ولتنثر السماء رذاذاً يغسل ما تبقى من آهاتنا.

كنت وأنا أحفر تلك الأشبار والتي سوف تحوي ذلك الطول الشامخ. كانت الريح الهادئة تقلع الدمع من عيوني وكأنها تحاول توديعه بتلك الدموع البسيطة فجرتني الذاكرة نحو مطباتها المؤلمة فخاطبته:

- إيه عبد الله

كنت في الحياة نكهة عراقية حزينة وللصداقة والحب أسطورة نحكيها... كنت تمشي وتجرُّ خطاك الواثقة، كنت أرى القلوب فرحة لبسمتك الندية وكان لنظراتك الحالمة غموض الألم.... كنا أنا وأنت نبكي الأيام الراحلة، نجدد أفكارنا كلما فشلنا في مشروع للحياة أو للأمل نضحك لليوم للناس للحرية المقيدة.

- إيه عبد الله

لم يكن في خلدي أن أحفر قبرك بهذه العجالة.. هاأنت الآن هنا بين يديّ.. أحملك.. أجرُّك جرَّاً بيديَّ التي طالما عانقتك بها.. أرسلك نحو النسيان لتتركني أحمل عبء الذكرى والألم.. وحدي أنا المثقل بالفجائع، بالزمن المر، بالضحكة المسروقة، بغفلة أعمارنا القصيرة، بامتداد الأمل بخذلانه وتراجعه.

نبهني من ذكراي الحزينة صوت انفجار في قلب المدينة فرأيت الدخان المتصاعد مكوّناً غيمة أخرى أشد رعباً من غيمتي الخجولة.

صرخنا جميعاً في عمق الفجيعة..

إيه يا أيها... أنت...  يا من لا ترى الجمال إلا بعيون قبيحة.. ارحم تلك القباب.. يا من قلبك لا يخفق إلا للخديعة ارحم تلك المنائر الشامخة والتي سوف تبقى شامخة ما دام هنالك أرواح كروح صديقنا جميلة عطرة تحلق فوق آفاق لا تراها حتى يظل يسمع ذلك الصوت الرخيم مستمراً حاوياً كل جمال المدينة.

بدأت أقرأ بصوت متهدّج باكٍ حزين يا.. س.. ين والقر .. آن الحكيم... لم أستطع أن أكمل.. تهاويت كورقة خريف صفراء فوق صديقي في حفرته الضيقة بكيته، بكيتُ أيامنا.. بكيتُ مدينتنا، ولكني وأنا أودعه، رأيت أشعة الشمس تسطع بوجل دافئ، ورأيت ذلك اللمعان الذهبي يغطي القباب فغزا روحي شعور مفاجئ غمرني بالرغبة بأن أحمل سلاح صديقي الميت وأسير إلى قلب مدينتي النابض.

 

أحمد طابور

: أحمد طابور