الشاعر السيد جعفر الحلي.. رسول الحزن العاشورائي

 

 

ولد الشاعر السيد جعفر الحلي وفي عينيه دمعة الحزن الكربلائي وعلى شفتيه لغة يوم الطف وآلامه فاقترن الحزن والألم عنده بروحه الحسينية النابضة المفرطة الحساسية, فمشاهد ذلك اليوم الحزين اتّحدت في مخيلته وعاشها بعمق فشكّلت صبغة من الحزن العميق في شعره, وامتد هذا الحزن ليكتسب وجهه الإنساني بعداً آخر وهو انتظار دولة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) والانتقام من الطغاة (قتلة الحسين) مستمداً مصداقه من الآية الكريمة: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين), فصُور معركة الطف حاضرة دائماً في وجدانه تثيره وتلهب مشاعره فيبث شكواه إلى بقية الله في أرضه والحجة على عباده الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) :                                                                                          

أتنامُ أعينُكُم وتلــــكَ ســــــراتُكم   ***   جعلتْ أميةُ في الصعيدِ منامَها

ويطيــــــــــبُ عيشكمُ وتلكَ أميةٌ   ***   قد لطّختْ بدمِ الحسينِ حسامَها

والشمسُ تصهرُ أوجهاً لغطارفٍ   ***   رَضّتْ خيــــولُ أميةٍ أجسامَها

بهذه الحرقة الممزوجة بالحزن والأسى يطلق الشاعر السيد جعفر الحلي هذه الصرخة بعد أن سخّن الألم كل خيالاته وأجّجت اللوعة رؤاه، وقد جاءت أغلب قصائده الرثائية لسيد الشهداء (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه على هذا المنوال :

بأبي القتيل وغســــله علق الدّما   ***   وعليه من أرج الثـــــــــنا كافورُ

ظمــــــــآن يعتلجُ الغليلُ بصدرِه   ***   وتبلّ للخطـــــــــــيّ منه صدورُ

وتحكمت بيـضُ السيوفِ بجسمِهِ   ***   والحكمُ في بيضِ السيوفِ يجورُ

وغدتْ تدوسُ الخيلُ منه أضالعاً   ***   سرُّ النبيِّ بطيِّها مستورُ

ويصوّر مصارع الشهداء الأبطال من أهل بيته وصحبه وقد أرخصوا النفوس من أجل العقيدة :

في فتيةٍ قد أرخصــــــوا لفدائه   ***   أرواحَ قدسٍ سومهنّ خطيرُ

ثاوينَ قد زهتِ الربى بدمــائِهم   ***   فكأنها نــــــوّارها الممطورُ

هم فتيةٌ خطبوا العلا بسيوفِــهم   ***   ولها النفوسُ الغالياتُ مهورُ

كما لا ينسى السيد جعفر الحلي صورة سبايا آل محمد يُطاف بهن من بلد إلى بلد وهن ربائب الوحي وحرائر النبوة فكانت الصورة التي طالما أرقته وأقضت مضجعه :

وثواكلٌ يُشجي الغيورَ حـنينُها   ***   لو كانَ ما بينَ العـــــداةِ غيورُ

حرمٌ لأحمدَ قد هتكنَ سـتورُها   ***   فهتكنَ من حــــرمِ الالـهِ ستورُ

كمْ حُرةٍ لمّا أحاطَ بـــها العدى   ***   هربتْ تخفُّ العَدْوَ وهيَ وقورُ

والشمسُ توقدُ بالهواجرِ نارَها   ***   والأرضُ يغلـــي رملُها ويفورُ

هتفتْ غداةَ الروعِ باسمِ كفيلها   ***   وكفيلها بثرى الطـــفوفِ عفيرُ

لقد أفنى الشاعر جعفر الحلي عمره من أجل قضية الحسين ورثائه .

في مدينة الشعر والشعراء الحلة الفيحاء وتحديداً في قرية (السادة) ولد الشاعر السيد جعفر بن السيد حمد آل كمال الدين الحلي النجفي عام (1277 هـ). من أسرة علوية شريفة ترجع في نسبها إلى زيد الشهيد بن الامام زين العابدين (عليه السلام) وقد عرفت هذه الأسرة بالانتماء إلى السيد كمال الدين بن منصور وهو جد الأسرة الكمالية المنتشرة في الحلة وضواحيها والنجف والكوفة وهو الجد السادس للسيد جعفر الحلي وقد كتب عنها مفصلاً الخطيب اليعقوبي في كتابه (البابليات) .

كان أبوه السيد حمد من تلامذة السيد مهدي القزويني, وكان معروفاً بالفضل والعلم والتقوى ، ولما ترعرع السيد جعفر اقتفى أثر أبيه في طلب العلم، ثم هاجر إلى مدينة النجف الأشرف وهو في سن مبكر وهناك أخذ يدرس مبادئ النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان وصار يتردد على مدارس العلماء وحوزاتها الحافلة.

وفيما هو يدرس هذه الدروس كان الشعر يجري على لسانه بسلاسة لا نظير لها، ولم يكد يبلغ الثلاثين من العمر حتى أصبح من الشعراء المشهورين الذين تلهج الألسن بذكرهم وتتغنى بشعرهم, وكان يعيش حياة الفاقة ولكن في عزة نفس وعلو همة ووقار, وكان يفرغ ألمه وحرمانه في شعره، ولا يشكو ذلك لأحد, وقد ألمت به الحاجة واشتد ضيقه خاصة بعد زواجه، فكان مرة يتصبر وأخرى يتبرم فليس له مصدر رزق سوى قلمه:

لي قلمٌ أخرسُ لـــــــــكنه   ***   ينطقُ عن معجــبِ أفكاري

برأته حيـــــــــــاً ولكنــه   ***   ما أحسنَ الشكر إلى الباري

حتى غدا رزقي به ضيقاً   ***   كأنه من شقّــــــــــه جاري

لقد كُتب على شاعرنا ألا يعرف معنى الراحة طول حياته، فما إن ابتنى داراً له أفرغ على بنائها جميع ما يملك ولم تبقِ عليه شيئاً حتى غدت عليه هذه الدار مصدراً للشؤم والنحس اذ لم يسترح بها أبداً, فما سكنها إلا ثلاث سنين كان في كل سنة يموت واحد من أولاده، حتى دفنهم كلهم بيده، كل هذه الحوادث جرت على شاعرنا وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره فكان يلجأ إلى الشعر متنفّسه الوحيد فكان يكثر من قوله رغم شدة محنه وابتلائه.

ولم يزل حاله هكذا حتى وافاه الأجل عام (1315هـ) ودفن في النجف الأشرف عند قبر أبيه أبي الحسين حمد قرب مقام الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وكان لوفاته دوي في النجف والحلة ورثاه الكثير من الشعراء .

بهذه الحياة التي مُلئت شقاءً وتعاسة كان شاعرنا نابغة الشعر ومرآته ولم يترك غرضاً من أغراضه إلّا سلكه ولا باباً إلّا طرقه وفي مقدمة هذه الاغراض وأوائل هذه الأبواب مراثيه ومدائحه لأهل البيت (عليه السلام) وبخاصة جده الإمام الحسين (عليه السلام) والشهداء من أهل بيته وصحبه (رض) .

وللسيد جعفر الحلي ديوان أطلق عليه اسم (سحر بابل وسجع البلابل ) قبل أن يجمع فجمعه أخوه السيد هاشم بعد وفاة الشاعر في شعبان سنة (١٣١٥هـ), وقد اهتم بجمع ديوانه المصلح الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء وأخذه بنفسه في سنة (١٣٣١هـ)‍ حين سافر إلى لبنان ومصر ووقف على طبعه في صيدا بمطبعة العرفان وصدره بمقدمة جزيلة وعلّق على الديوان حواشٍ هامة تتضمن بالإيجاز تراجم مَن جاءت أسماؤهم في الديوان مع تهذيب الديوان وتنقيحه.

وقد ذكر الشيخ محمد السماوي في كتابه (ظرافة الأحلام) عن حياة السيد جعفر الحلي قوله : (ولسهولة قول الشعر عليه على ما عرفت من شدة محنه وابتلائه إنه كان مكثراً منه فكان لا يجلس ولا يقوم على الأكثر إلا وقد قال الأبيات أو البيتين فما فوقها حسبما سنح في تلك المحاضرة والمحادثة من الدواعي...)

ثم يقول السماوي: (وإن ذلك يدل بل يؤكد على أن شعره (رحمه‌ الله) يبلغ ـ ولا شك ـ أضعاف ما نشر في ديوانه المطبوع وذلك لأن مثل تلك المقاطيع والنتف التي تتفق عرضاً وتجري عفوية مما لا يمكن تدوينها)

أبدع السيد جعفر في كل الأغراض الشعرية لا سيما روائعه في شهداء الطف التي امتازت على باقي أدبه، فكأن ذكرى أولئك الشهداء الذين كرهوا الذل وأنفوا من الضيم وجادوا بنفوسهم الزكية ودمائهم الطاهرة في سبيل الحق والكرامة توقظ بين جوانحه شعلة الثورة الهاشمية, ومما يدل على روحه الحسينية الخالصة أن إحدى هذه القصائد الحسينية بل أجودها وأشهرها نظمها بساعتين فقط، وهي رائعته التي مطلعها :

وجه الصباح عليّ ليلٌ مظلمُ   ***   وربيع أيامي عليّ محرمُ

وكان ذلك في شهر المحرم وهو الجو المشبع بالحزن فلا تسمع إلّا ناعٍ وناعية ونادب لسيد الشهداء ونادبة، فمرّ الشاعر في هذا الجوّ وتمشى في الصحن العلوي واسترسل بقول هذه القصيدة التي تزيد على السبعين بيتاً وكلها من الشعر المنسجم مثل قوله في أصحاب الحسين :

متقلــــــــــــــــدين صوارماً هندية   ***   من عزمهم طبعت فليس تكتمُ

إن أبرقت رعدت فرائص كل ذي   ***   بأس وأمطر من جوانبها الدمُ

إن ارتباط الشاعر جعفر الحلي بالقضية الحسينية كانت له ملامح مميزة في شعره فالذي يربط شاعرنا – وكذلك شعراء عصره – بهذه القضية الخالدة هي الروح الإنسانية الكبيرة التي حملها الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء فنرى شاعرنا وقد هام بهذه الروح فراح يجسدها في شعره:

وردَ الحسينُ الى الطــــفوفِ يقودُ للعلياءِ حزبَه

شمختْ بهم تلك البقــــاعُ وقد علتْ شرفاً ورتبَه

فلكٌ بنو الزهرا له شــــــهبٌ وكان السبطُ قطبَه

أربتْ على الفلكِ المُـــــدارِ وشهبُه أخفينَ شهبَه

كلّ ابن معركةٍ يشقّ دجى الوغى في خيرِ أهبَه

لا يرهبنَّ وسيفه يلقي بقلــــــــــبِ الموتِ رهبَه

ويشير السيد جعفر الحلي إلى الوضع الظالم المظلم الذي كانت تعيشه الأمة الاسلامية في عهد يزيد وهو ما دفع الإمام الحسين (عليه السلام) لإعلان ثورته :

يوم وافى الحسين يرشد قوماً   ***   من بني حــــربٍ ليس فيهم رشيدُ

خافَ أن ينقضوا بناء رســــــــــــــــــول الله في الدينِ وهو غضٌّ جديدُ

وأبى الله أن يحكم في الخلـــــــــــــــــق طليقٌ مستعبــــــــــــــدٌ وطريدُ

كيف يرضى بأن يرى العــــــدل بادي الـــــنقصِ والجائرِ المضلُ يزيدُ

فغدا السبط يوقظ الناسَ للــــــــــــــــــرشدِ وهم في كرى الضلالِ رقودُ

ولقد كذبته أبناء حربٍ مثلــــــــــــــــــــــــــــــــــما كذّب المسيحَ اليهودُ

فدعا آله الكرامَ إلى الـــحــــــــــــــــــــــــــــربِ فهبُّوا كما تهبُّ الأسودُ

علويونَ والشجاعةُ فيـــهم ورثتــــــــــــــــــــــــــــــــها آباؤهم والجدودُ

ثم يتصاعد الحزن بوصف أحداث ذلك اليوم فالرجال قتلى .. والدماء تغطي الأرض والأطفال يصرخون من العطش والنساء تبكي وتنوح وهن مسبيات

ياوقعة الطفِّ ولـــــــم نَنْسها   ***   ما أظلمَ الليلُ وضــــــاءَ النهارْ

مثلُ بناتِ الوحــي بيـن العدا   ***   يُطافَ فيهنَّ يَميــــــــــــناً يسارْ

لم تدرِ في السيـرَ لمَـا راعها   ***   أنجدَ حاديـــــــــها بها أم أغارْ؟

حرائرٌ يُجلبـــــنَ جلـبَ الإما   ***   ظلماً وبالأمصـــــــارِ فيها يُدار

قد غادروا في الطفِّ فتيانكم   ***   تذري عليها الريحُ سافي الغبارْ

لقد كان السيد جعفر الحلي رسول الألم والحزن العاشورائي مجسداً في شعره صور تراجيدية عن ذلك اليوم المؤلم, فهو يتألم في نقله الحزن إلينا وهو يحكي عن مآسٍ تتفطر لها القلوب وشعره يتدفق من حزن ينبع في داخله ويصعد في الدم ضاجاً متألماً ذلك هو الحزن الحقيقي حزن أن تعيش المأساة فأي دم في ذلك اليوم قد سفك؟ وأي حريم قد انتهكت؟

الله أيَّ دمٍ في كربـــــــــــلا سُفكا   ***   لمْ يجرِ في الأرضِ حتى أوقفَ الفلكا

وأيَّ خيلِ ضلالٍ بالطفوفِ عَدتْ   ***   على حريمِ رسولِ اللهِ فــــــــــــانتهكا

يوم بحاميةِ الإسلامِ قد نهــــضتْ   ***   به حمية ديـــــــــــــــــن الله إذ تــركا

فكانَ ما طبّق الأدوارَ قـــــــاطبةً   *** من يومهِ للتـــــــــــــــلاقي مأتماً وبــكا

ولم يغـــــادرْ جماداً لا ولا بشراً   ***   إلا بكاهُ ولا جِناً ولا مَــــــــــــــــــــلكا

فان تجدْ ضـــاحكاً منا فلا عجبٍ   ***   إذ ربما بَسَمَ المغبــــــــــونُ أو ضحكا

في كلِّ عامٍ لنـــــا بالعشرِ واعيةً   ***   تطبِّق الدورَ والأرجــــــــــاءَ والسِّكَكَا

وكلُّ مسلمةٍ ترمـــــــــي بزينتِها   ***   حتى السماءِ رمتْ عن وجــهِها الحبكا

يا ميتاً تركَ الألـبابَ حــــــــائرةً   ***   وبالعـــــــــــــــــراءِ ثلاثاً جسمه تُركا

تأتي الوحــــــوشُ له ليلاً مسلّمة   ***   والقومُ تجري نهـــــــــاراً فوقه الرمكا

ولعنوان الوفاء ورمز الشجاعة أبي الفضل العباس عليه السلام حيز في ديوان السيد جعفر الحلي أو بالأحرى مكاناً في داخله وعميق احساسه ذلك البطل الذي زعزع الجيش الأموي :

حتى إذا اشتبكَ النزالُ وصرَّحت   ***   صيدُ الرجـــــــــــــــــــالِ بما تجنُّ وتكتمُ

وقعَ العذابُ على جيـــــــــــوشِ أميَّةٍ   ***   من بـــــــــــاسلٍ هو في الوقائعِ مُعلَمُ

ما راعهم إلّا تقـــــــــــــــــحّمَ ضيغمٍ   ***   غيرانَ يعجمُ لفظــــــــــــــــه ويدمدمُ

عبستْ وجوهُ القومِ خوفَ الموتِ والـــــــــــــــعباسُ فيهمْ ضــــــــــــــــاحكٌ متبسّمُ

قلبَ اليمينَ على الشمالِ وغـاصَ في   ***   الأوساطِ يحصدُ في الرؤوسِ ويحْطمُ

بطلٌ تورّثَ من أبيهِ شجـــــــــــــاعةً   ***   فيها أنوفُ بنــــــــــي الضلالةِ ترغمُ

وهناك سمة تغلب على أكثر قصائد السيد جعفر الحلي الحسينية وهي كثرة ندبه للإمام المهدي المنتظر والتعجيل له بالفرج من كثرة الظلم والجور والقتل من قبل السلطات منذ عهد الأمويين والعباسيين والجرائم البشعة التي ارتكبوها بحق أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم والإنسانية جمعاء وهي ما جعلت الشاعر يلجأ إلى الرمز الأعلى والأمل الأكبر في إنقاذ الامة من الطواغيت والجبابرة وهو الامام المهدي (عجل الله فرجه) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً :

ياقمر التمَّ الى مَ الســـــرارْ؟   ***   ذابَ محبُّوكَ مـــــــــــن الانتظارْ

لنا قلوبٌ لك مشتــــــــــــاقةٌ   ***   كالنبتِ إذ يـــشتاقُ صوبَ القَطارْ

فيا قريباً شفّــــــــــــنا هجرُه   ***   والهجرُ صعبٌ من قريبِ المزارْ

دُجـــــــى ظلامِ الغيِّ فلتجله   ***   يا مـــــــــرشدَ الناسِ بذاتِ الفقارْ

يستنظرُ الديـــــنُ ولا ناصرٍ   ***   وليسَ إلّا بـــــــــــــــكمُ الانتصارْ

متى نرى بيضَكَ مشحـــوذةً   ***   كالمـــــــاءِ صافٍ لونُها وهيَ نارْ

متى نرى خيلكَ موســــومة   ***   بالنصرِ تعــــــــــــدو فتثيرُ الغُبارْ

متى نرى الأعلامَ منشــورةً   ***   على كماةٍ لم تســــــــــــعها القفارْ

متى نرى وجهَكَ ما بيننــــا   ***   كالشمسِ ضاءتْ بعد طولِ استتار

 

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار