في العام المنصرم كنتُ قد كتبت مقالاً تحت عنوان (رَبِّ ارجعونِ .. لَعلّي أصومه باحتسابٍ وإيمان) وتناولت فيه حال الصائم الذي يهمُّ في شهر الصوم بالمرح والفرح وكأنه شهر احتفالٍ وأنس ولهوٍ فإذا انقضى الشهرُ خرج منه وهو خالي الوفاض لا نصيبَ له من الصوم إلا الجوع والعطش .
وها نحن اليوم في شهر صومٍ جديد أعاده الله عزّ ذِكرُه علينا تحنُّناً منه ورحمة؛ ليُلقي بظلاله على الأمة الإسلامية جمعاء.. لك أن تسميه الشهر المنتظَر الذي ينتظره عبادُ الله الصالحين، من العام إلى العام، يترقَّبون أيامه ولياليه كما يترقَّب المزارع غيث السماء، والحُصَّاد يوم حصاده.. ويكفي الالتفات إلى أنّ الله جلّ جلالُه أضاف هذا الشهر إلى اسمه المبارك، لنعلم جلالة وقدسية هذا الزمن، فهو "شهر الله"..
وأود أن أتمّ ما بدأتُه في العام الماضي منوِّهاً إلى ما هو غير خافٍ عليك ، ولكنه إلفات نظر إلى الآتي:
يتربَّص بالصائمين وشهرِهم سُرّاق ولصوص، لا يستهدفون الأموال؛ وإنَّما هدفهم سرقة روحانيَّة الشهر المعظَّم وتجريده من قدسيّته وإهدار طاقاته التي من شأنها التغلغل في قلوبِ المؤمنين؛ وذلك بفَتح أبواب الوِزْر بدل الأجر من خلال تحويله إلى مَوسمٍ للَّهو والمادِّيات وأنواع الانحراف .
أقول: إن لهذا الشهر حرمةً وإن لهذا الشهر كرامةً وإن لهذا الشهر مميزاتٍ ميّزته عن بقية أشهر السنة فضلاً عن الليلة التي تتخلّله ، وهي ليلة القدر التي يفوق فضلها ألف شهرٍ لقوله سبحانه: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } (القدر 3).
وإن لهذا الشهر أسماءَ قُرنت به ، منها: شهر الصيام، وشهر القيام، وشهر الدعاء وشهر المغفرة، وشهر التوبة، وشهر الدعاء، وشهر القرآن، وشهر العبادة، وشهر الإنابة، وشهر الخير، وشهر الصبر، وشهر الطاعة.
وهنا يجب أنْ نُسطِّر هذه الحقيقة المؤسفة، وهي أن معظم وسائل الإعلام باتت تعدّ العدة لبثِّ سمومها قبل قدوم شهر رمضان بأشهرٍ معلِنةً أنّ ما سيتم عرضه حصراً في رمضان ليتاح لها بشكل أو بآخر تشويه الوجه الحقيقي للشهر المعظم، وصرف أنظار الناس عن الدعاء والاستغفار في أيامه ولياليه عن طريق تصويره لهم بأنه ضيفٌ ثقيل، يحتاج مستضيفوه إلى كثيرٍ من الترويح عن النفس حتى يستطيعوا تحمّل وطأته لتنقضي أيامه ويمرّ بسلام.
إن استعدادات بعض وسائل الإعلام – كما لا يخفى على أحد - الجارية على قدمٍ وساق في حالة تسابقٍ وتزاحم على أبواب رمضان قبل قدومه بأشهر؛ ليس ذاك استنهاضاً لهمم الصائمين ؛ بل هو لصرفهم وحَرْفهم عن توجُّههم .. فالشاشة الفضية ومتابعة ما يدور في قنواتها دونما فائدة تسلب الرائي روحانية الشهر المعظم بل إنها تغيِّر مسار الحياة فيه من تقاليد للعبادة إلى انقيادٍ خلف جهاز الريموت والالتهاء عن العبادات.
ألا ترى عزيزي القارئ أنّ هذه المؤسسات الإعلامية العربية والغربية على حدٍّ سواء حريصة على إعادة ما يتم عرضه في المساء في فترة النهار ، وهي الفترة التي يكون فيها الصائمون أقرب إلى الله عزّ ذِكرُه, فمن كان منهم منشغلاً في الليل بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن وفاتته عروض الدراما والأفلام في الليل يستوفي نصيبه منها في أفضل فترةِ عبادةٍ ، وهي فترة النهار ، وبذلك نكون قد حققنا مرام وسائل الإعلام حتى يُذهب لغوُ الليل بثواب النَّهار ولغو النهار بثواب الصوم ويَفقد رمضان محتواه الروحي وبُعده الربَّاني.
تحتل بعض وسائل الإعلام مرتبة الريادة في تقديم أفكارٍ وسلوكيات وقيم لها تأثير مباشر على المجتمع، وقد أثبتتْ بعض النظريات الاجتماعية النفسية أن سلوكيات الأفراد ليست فقط مجرد أفعالٍ في المواقف، بل إن هذه السلوكيات نتاجُ قدرة الفرد على إدراك المعاني في تفسير المواقف, فبدلاً من أنْ يتمّ تركيز المؤسسة الإعلامية العربية (الإسلامية) في شهر رمضان على تبليغ أحكام الدين وتصحيح العقائد وإيضاح المفاهيم وإثراء المعرفة، قامت بعكس المتوقَّع منها فعمدتْ إلى هدم القيم الإنسانية وإثارة كل ما من شأنه أنْ يكون سبباً في انحراف المجتمع الإسلامي.
الكاتب: السيد مهدي الجابري
اترك تعليق