عناصر المجتمع وعلاقاته على ضوء القرآن الكريم

المُستخلِف.. الخليفة.. المُستخلَف عليه: قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30). هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية: أوّلاً: الإنسان. ثانياً: الأرض أو الطبيعة على وجهٍ عام (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً). ثالثاً: العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض (بالطبيعة)، وتربط من ناحية أخرى الإنسان بأخيه الإنسان، وتُسمّى بـ(الإستخلاف). والمجتمعات البشرية جميعاً تشترك بالعنصرين الأوّل والثاني، ولكنّها تختلف في العنصر الثالث، كونه العنصر المرن والمتحرِّك من عناصر المجتمع، وبذلك تكون عناصر المجتمع هي: (المُستخلِف) وهو الله سبحانه وتعالى، و(المُستخلَف) وهو الإنسان، و(المُستخلَف عليه) وهو الأرض. - المحتوى الداخلي هو الأساس في التغيير الإجتماعي: يتمثّل المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان في (الفكر) و(الإرادة)، وهو الأساس لحركة التغيير والبناء الإجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات وأنظمة وأفكار وتفاصيل، وتغير البناء العلوي وتطوّره مرتبط بالقاعدة التي هي المحتوى الداخلي للإنسان، والعلاقة بينهما علاقة تبعيّة تتمثّل في سنة تأريخية في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). ولهذا سمّى الإسلام عمليّة بناء المحتوى الداخلي إذا اتجهت اتجاهاً صالحاً بـ(الجهاد الأكبر)، وسمّى عمليّة البناء الخارجي إذا اتّجهت اتجاهاً صالحاً بعملية الجهاد الأصغر، واعتبر أنّ الجهاد الأصغر إذا فُصِلَ عن الجهاد الأكبر فقد محتواه، وفقد مضمونه، وفقد قدرته على التغيير الحقيقي. - المثل الأعلى منطلق لبناء الإنسان: إنّ المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو (المثل الأعلى)، فهو الذي يُحدِّد الغايات التفصيلية التي تُعتبر محرِّكات للتأريخ. فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً، وعالياً، وممتدّاً، تكون الغايات صالحة وممتدّة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً ومنخفضاً، تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً. والمثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية، وهو الذي يقدِّم وجهة النظر العامة إلى الحياة والكون، ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى، ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون، تحقِّق الجماعة البشرية إرادتها للسير نحو هذا المثل وفي طريقه. وكل جماعة اختارت مثلها الأعلى، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها، ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق، قال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6). هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفاً أعلى للإنسان، والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككلّ، فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى، وهذا السير ليس اعتيادياً، بل هو إرتفاعي، تصاعدي، تكاملي، تسلّقي، فالإنسانية حينما تكدح نحو الله، فإنّما هي تتسلّق إلى قمم كمالها وتكاملها وتطوّرها إلى الأفضل باستمرار. وكل سير وكل تقدّم للإنسان في مسيرته التأريخية الطّويلة الأمد، فهو سير وتقدّم نحو الله سبحانه وتعالى. فحينما تتقدّم الإنسانية في هذا المسار واعيةً لمثلها الأعلى وعياً موضوعيّاً، يكون التقدم تقدّماً مسؤولاً، يكون عبادة – بحسب لغة الفقه – حتى أولئك الذين ركضوا وراء سراب اجتماعي، وراء المُثل المنخفضة، حينما يصلون إلى هذا السراب لا يجدون شيئاً ويجدون الله سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم. الله سبحانه وتعالى هو المطلق، وبحكم كونه كذلك، فهو موجود على طول الطريق، كما أنّه يمثِّل نهاية الطريق، وبقدر زخم الطريق والتقدم فيه، يجد الإنسان مثله الأعلى، وبحكم مطلقيّة الله، فالطريق أيضاً لا ينتهي، بل هو اقتراب مستمرّ بقدر التقدّم الحقيقي نحو الله، وهو اقتراب نسبيّ لأنّ المحدود لا يصل إلى المطلق والفسحة بينهما لا متناهية، أي أنّه ترك له الإبداع إلى اللانهاية. - أثر المثل الأعلى الحقيقي على المسيرة البشريّة: حينما توفِّق المسيرة البشرية بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة، بوصفها سائرة ومتّجهة نحو الله، سوف يحدث تغيير كمي وكيفي على هذه المسيرة، أي أنّ مجال التطور والإبداع والنمو قائم دائماً وأبداً ومفتوح للإنسان باستمرار ومن دون توقّف. وحين يُتبنى هذا المثل الأعلى، فسوف تُمسح والتي تقف عقبة بين الإنسان وبين وصوله إلى الله سبحانه وتعلى، وهي لا تصنع الشعور بالمسؤولية، بل تصنع قوانين وعادات كلّما وجد الإنسان مجالاً للتحلّل منها تحلّل. - شروط تبنِّي المثل الأعلى الحقيقي: تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة للمثل الأعلى، تُعلِّمنا أن نتعامل مع صفات الله، وأخلاق الله، لا بوصفها حقائق عينيّة منفصلة عنّا، وإنّما نتعامل معها بوصفها رائداً عمليّاً وهدفاً لمسيرتنا العملية، ومؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه وتعالى. ولابدّ أيضاً من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الأعلى، لكي تكون رصيداً ووقوداً مستمراً للإرادة البشرية على مر التأريخ، وهذا الوقود يتمثّل في عقيدة يوم القيامة التي تُنعش إرادة الإنسان وتحفظ له دائماً قدرته على التجديد والإستمرار. كما لابدّ من صلة موضوعية بين الإنسان وبين مثله الأعلى، وهي تتجسد في النبي ودور النبوة، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركِّب بين الشرط الأوّل (التوحيد) والشرط الثاني (المعاد). وعندما تدخل البشرية مرحلة يُسمِّيها القرآن الكريم بمرحلة الإختلاف التي تنتصب فيها المثل المنخفضة أو التكرارية، فلابدّ من معركة ضد هذه الآلهة المُزيّفة، ولابدّ من قيادة تتبنّى هذه المعركة وهي الإمامة، ودور الإمامة يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتدّ أيضاً حتى بعد النبي إذا ترك النبي الساحة وبعدُ لا تزال المعركة قائمة. وبكلمة مختصرة، فإنّ المثل الأعلى يوحِّد المجتمع البشري ويلغي كل الفوارق والحدود، باعتبار شمولية هذا المثل الأعلى، فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق، ويهضم كل الاختلافات، ويصهر البشرية كلّها في وحدة متكافئة، لا يوجد ما يميِّز بعضها عن بعض، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقيّة. يقول تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92).

المرفقات