في ظِلِّ آيةٍ أجمَلَتْ أمرَ الله ونهيه

 

قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}[النحل: آية 90].

ركزت الآية الشريفة على تبيان ما يقوم به صلب المجتمع الانساني ويصلح حاله, على اعتبار ان سعادة الفرد لا تتحقق الا بصلاح الظرف الاجتماعي المحيط به؛ إذ من الصعب جدا ان يهنئ انسان بطعم السعادة ونعيم الاطمئنان وهو يعيش في وسط مجتمع فاسد يحيط به الظلم والبغي من كل جانب.

 فجاءت هذه الآية لتضع الحجر الأساس لبناء مجتمع يسوده العدل والانصاف ليهنئ كل فرد فيه بالسعادة وينعم بالحرية والاطمئنان, فسعادة الافراد مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيشون فيه.

والغاية من تسليط الضوء على هذه الآية الكريمة هو لبيان ان الدين الاسلامي يهتم - أيما اهتمام – في اصلاح المجتمع الاسلامي والذي من خلاله يصلح حال الفرد, فضلا عن ذلك فهي تشكل رادعا قويا لمن يشكك في نبوة من جاء بهذا الشرع العظيم.

فجاءت هذه الآية صريحة واضحة الدلالة مجملة أمر الله و نهيه في إعجاز بليغ يسد على المشككين والجاحدين طرق الضلال والتشكيك في نبي الإسلام وتعاليم الدين الإسلامي.

 

والجدير بالذكر ان هذه الآية الشريفة في حقبة تاريخية صارت مستهلا لخطب الجماعة بعد ان كانت تستهل بشتم ولعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام, بعد ان بقي ذلك إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز فجعل بدل اللعنة في الخطبة قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}الآية»([1]).

وقال ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة: «والمنقول أنّ الَّذي أمر بقطع سبّه عمر بن عبد العزيز ، ووضع مكان سبّه من الخطبة « إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسانِ » الآية»([2]).

 

المعنى الاجمالي للآية:

ابتدأت الآية الشريفة بالأمر بالعدل والاحسان ثم النهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وما يلحق بذلك كالأمر بإيتاء ذي القربى.

فقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} معناه الانصاف بين الخلق ، والتعامل بالاعتدال الذي ليس فيه ميل ، ولا عوج.

وقوله تعالى: {وَالإحْسَانِ } أي: الإِحسان إلى الناس ، وهو التفضل . ولفظ الإحسان جامع لكل خير ،والأغلب عليه استعماله في التبرع بإيتاء المال ، وبذل السعي الجميل . وقيل : أنّ العدل هو التوحيد ، والإحسان هو أداء الفرائض ، وينسب هو القول الى ابن عباس ، وعطاء.

 وقيل : ان العدل فيما يخص الأفعال ، والإحسان فيما يخص الأقوال ، فلا يفعل إلا ما هو عدل ، ولا يقول إلا ما هو حسن .

 وقيل : ان العدل هو أن ينصف ، وينتصف ، والإحسان أن ينصف ، ولا ينتصف .

وقوله تعالى:{وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي : ويأمركم بإعطاء الأقارب حقهم بصلتهم ، وهذا عام .

وقيل : المراد بذي القربى قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين أرادهم الله بقوله : {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (سورة الأَنْفال 41)، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام قال : نحن هم .

وقوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}, إنما جمع بين الأوصاف الثلاثة في النهي ، مع أن الكل منكر فاحش ، ليبين بذلك تفصيل ما نهى عنه ، لأن الفحشاء قد يكون ما يفعله الانسان في نفسه من القبيح ، مما لا يظهره . والمنكر : ما يظهره للناس مما يجب عليهم انكاره . والبغي : ما يتطاول به من الظلم لغيره . وقيل : إن الفحشاء الزنا ، والمنكر ما ينكره الشرع ، والبغي الظلم والكبر ، كما عن ابن عباس([3]).

 

المعنى التفصيلي للآية:

ان حقيقة العدل في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} كما يقول صاحب الميزان: « هي إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغي ان يعطاه فيتساوى في أن كلا منها واقع موضعه الذي يستحقه فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق والعدل في فعل الانسان في نفسه ان يفعل ما فيه سعادته ويتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن باحسانه ويعاقب المسئ على إساءته وينتصف للمظلوم من الظالم ولا يبعض في إقامة القانون ولا يستثنى» .

ثم بين مساوقة العدل وملازمته للحسن فقال: «ان العدل يساوق الحسن ويلازمه إذ لا نعنى بالحسن إلا ما من طبعه ان تميل إليه النفس وتنجذب نحوه واقرار الشئ في موضعه الذي ينبغي ان يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الانسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان وان اختلف الناس في مصاديقه كثيرا باختلاف مسالكهم في الحياة ».

وألمحَ الى ان العدل ينقسم إلى قسمين:

الأول:- العدل الفردي: وهو عدل الانسان في نفسه.

الثاني:- العدل الاجتماعي: وهو عدل الانسان بالنسبة إلى غيره([4]).

والعدل لفظ مطلق الا أن ظاهر السياق يدل على ان المراد به في الآية الكريمة هو العدل الاجتماعي الذي يقتضي معاملة جميع أفراد المجتمع بما يستحقه ويوضع في موضعه الذي ينبغي ان يوضع فيه, فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أمر بخصلة اجتماعية متوجه إلى افراد المكلفين.

وبعبارة أخرى: «ان الله سبحانه يأمر كل واحد من افراد المجتمع أن يأتي بالعدل ولازمه أن يتعلق الامر بالمجموع أيضا فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة بما انها تتولى أمر المجتمع وتدبره» .

وأما قوله تعالى: {وَالإحْسَانِ } فالكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه, فالمراد به الاحسان إلى الغير دون الاحسان بمعنى اتيان الفعل حسنا, وهو ايصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه ويقابل الشر بأقل منه كما تقدم ويوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء .

والاحسان على ما فيه من اصلاح حال من أذلته المسكنة والفاقة أو اضطرته النوازل وما فيه من نشر الرحمة وإيجاد المحبة يعود محمود اثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع وجلب الامن والسلامة بالتحبيب([5]) .

وقوله تعالى: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي اعطاء المال لذوي القرابة وهو من افراد الاحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير كما أن مجتمع الازدواج الذي هو أصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة انما ابتدأت من مجتمع بيتي عقده الازدواج ثم بسطه التوالد والتناسل ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة ولم يزل يتزايد ويتكاثر حتى عادت أمة عظيمة فالمراد بذي القربى الجنس دون الفرد وهو عام لكل قرابة كما ذكروه .

وفي التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام إن المراد بذي القربى الإمام من قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, والمراد بالإيتاء اعطاء الخمس الذي فرضه الله سبحانه في قوله : {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}[الآية الأنفال :41], ... ولعل التعبير بالافراد حيث قيل ذي القربى ولم يقل ذوي القربى أو أولي القربى كما في قوله :{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} [النساء : 8 ] , وقوله : {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ } [البقرة : 177] يؤيد ذلك .

واحتمال إرادة الجنس من ذي القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى والمساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوي القربى أو اليتامى والمساكين تقضى بالفرق .

على أن الآية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالإيتاء هو الاحسان ثم بالإحسان مطلق الإحسان والله أعلم .

وقوله تعالى : {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} قال الراغب الأصفهاني في المفردات: «الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الافعال والأقوال»([6]) .

وأردف السيد الطباطبائي قائلا: ولعل الأصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغي, يقال: غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل والصبر والسكوت .

والمنكر: ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أو اثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الاسلامية .

والبغي: الأصل في معناه الطلب وكثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى الاستعلاء والاستكبار على الغير ظلما وعتوا وربما كان بمعنى الزنا والمراد به في الآية هو التعدي على الغير ظلما .

وهذه الثلاثة أعني الفحشاء والمنكر والبغي وان كانت متحدة المصاديق غالبا فكل فحشاء منكر وغالب البغي فحشاء ومنكر لكن النهى انما تعلق بها بما لها من العناوين لما ان وقوع الأعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله فينقطع بعضها من بعض ويبطل الالتيام بينها ويفسد بذلك النظم وينحل المجتمع في الحقيقة وان كان على ساقه صورة وفي ذلك هلاك سعادة الافراد .

فالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي أمر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف اجزاؤه وتتلاءم أعماله لا يستعلى بعضهم على بعض بغيا ولا يشاهد بعضهم من بعض الا الجميل الذي يعرفونه لا فحشاء ولا منكرا وعند ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والألفة وترتكز فيهم القوة والشدة وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة وكل خصلة سيئة تؤدى إلى التفرق والتهلكة([7]) .

فهذه الآية جماع التقوى كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ففي روضة الواعظين أنه صلى الله عليه وآله قال : «جماع التقوى في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ»([8]).

ويقول السيد الخوئي (قدس سره) : والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال ، وأمره بالعدل والاستقامة قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة ، وتكفل بما يصلح الأولى ، وبما يضمن السعادة في الأخرى ، فهو الناموس الأكبر جاء به النبي الأعظم ليفوز به البشر بكلتا السعادتين ، وليس تشريعه دنيويا محضا لا نظر فيه إلى الآخرة ، كما تجده في التوراة الرائجة ، فإنها مع كبر حجمها لا تجد فيها موردا تعرضت فيه لوجود القيامة ، ولم تخبر عن عالم آخر للجزاء على الأعمال الحسنة والقبيحة . نعم صرحت التوراة بأن أثر الطاعة هو الغنى في الدنيا ، والتسلط على الناس باستعبادهم ، وأن أثر المعصية والسقوط عن عين الرب هو الموت وسلب الأموال والسلطة . كما أن تشريع القرآن ليس أخرويا محضا لا تعرض له بتنظيم أمور الدنيا كما في شريعة الإنجيل . فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر إلى صلاح الدنيا مرة والى صلاح الآخرة مرة أخرى ... هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه ، تتفقد مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك ، ما يعود منها إلى الدنيا وما يرجع إلى الآخرة .

 فهل يشك عاقل بعد هذا في نبوة من جاء بهذا الشرع العظيم ([9]) .

 

الكاتب: السيد مهدي الجابري

_____________________________________________

[1] - مناقب آل أبي طالب/ لابن شهر آشوب: ج3/ص22.

[2] - شرح نهج البلاغة / ابن ميثم البحراني/ ج2/ص150.

[3] - ينظر: تفسير مجمع البيان/ للشيخ الطبرسي /ج6/ص192.

[4] - ينظر: تفسير الميزان / للطباطبائي .

[5] - ينظر: المصدر نفسه.

[6] - المفردات في غريب القران/ الراغب الاصفهاني / ص:626.

[7] - ينظر: تفسير الميزان /ج12/ص329- 333.

[8] - روضة الواعظين / الفتال النيسابوري/ ص437.

[9] - ينظر: البيان في تفسير القران/ ابو القاسم الخوئي/ ص60-66.