{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
الآية الأُولى في سورة الإِسراء تتحدَّث عن إِسراء النّبي(صلى الله عليه وآله)، أي سفره ليلا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إِلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف). وقد كان هذا السفر «الإِسراء» مقدمة لمعراجه(صلى الله عليه وآله) إِلى السماء. وقد لوحظ في هذا السفر أنّه تمَّ في زمن قياسي حيث أنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة الى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة.
وكانت هذه الحادثة في السنة الثالثة للهجرة و هو القول الراجح في الروايات الشريفة، حيث يذكر ايضا انها كانت في عام الحزن الذي توفي فيه ابو طالب عم النبي صلى الله عليه و آله الذي كان يجب عنه اذى المشركين من قريش و زوجته السيدة خديجة عليها السلام التي بذلت مالها في سبيل احياء الاسلام، ولذا فان فقدهم سبب حزنا شديدا له صلى الله عليه وآله.
السّورة المباركة تبدأ بالقول: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى).
وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإِعجازي هو (لنريه من آياتنا).
ثمّ خُتمت الآية بالقول: (إِنَّهُ هو السميع البصير). وهذه إِشارة إِلى أنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يختر رسوله(صلى الله عليه وآله) ولم يصطفه لشرف الإِسراء والمعراج إِلاّ لكونه مستعدا لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسوله(صلى الله عليه وآله) ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره لهُ في الإِسراء والمعراج.
واحتمل بعض المفسّرين في قوله تعالى: (إِنَّه هو السميع البصير) أن يكون تهديداً لمنكري هذا الإِعجاز، وأنَّ اللّه تباركَ وتعالى محيط بما يقولون وبما يفعلون، وبما يمكرون!
وَبالرغم مِن أنَّ هَذه الآية تنطوي على اختصار شديد، إِلاّ أنّها تكشف عن مواصفات هذا السفر الليلي «الإِسراء» الإِعجازي مِن خلال ما ترسمهُ لهُ مِن أفق عام يمكن تفصيله بالشكل الآتي:
أوّلاً: إِنَّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إِلى وقوع السفر ليلا، لأنَّ «الإِسراء» في لغة العرب يستخدم للدلالة على السفر الليلي، فيما يُطلق على السفر النهاري كلمة «سير».
ثانياً: بالرغم مِن أنَّ كلمة «ليلا» جاءت في الآية تأكيداً لكلمة «أسرى» إِلاّ أنّها تريد أن تبيّن أن سفر الرّسول(صلى الله عليه وآله) قد تمَّ في ليلة واحدة فقط على الرغم مِن أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدَّر بأكثر مِن مائة فرسخ، وبشروط مواصلات ذلك الزمان، كانَ إِنجاز هذا السفر يتطلب أيّاماً بل وأسابيع، لا أن يقع في ليلة واحدة فقط!
ثالثاً: إِذا كانَ مقام العبودية هو أسمى مقام يبلغه الإِنسان في حياته، فإِنَّ الآية قد كرَّمت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بإِطلاق وصف العبودية عليه، فقالت «عبده» للدلالة على مراقي الطاعة والعبودية التي قطعها الرّسول(صلى الله عليه وآله) لله تبارك وَتعالى حتى استحق شرف «الإِسراء» حيث لم يسجد جبين رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لشيء سوى اللّه، ولم يطع(صلى الله عليه وآله) ما عداه، وقد بذل كل وسعه، وخطا كل خطوة في سبيل مرضاته تعالى.
رابعاً: تفيد كلمة «عبد» في الآية، أنَّ سفر الإِسراء قد وقع في اليقظة، وأنَّ رسول اللّه سافر بجسمه وروحه معاً، وأنَّ الإِسراء لم يكن سفراً روحانياً معنوياً وحسب، لأنَّ الإِسراء إِذا كانَ بالروح ـ وحسب ـ فهو لا يعدو أن يكون رؤيا في المنام، أو أي وضع شبيه بهذه الحالة، ولكن كلمة «عبد» في الآية تدلَّل على أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قد سافر بجسمه وروحه، لأنَّ «عبد» معنى يُطلق على الروح والجسد معاً.
أمّا الأشخاص الذين لا يستطيعون هضم معجزة الإِسراء والمعراج، ولم تستطع عقولهم أن تتعامل مَع هذه المعجزة كما هي، فقد عمدوا إِلى توجيهها بعنوان الإِسراء الروحي في حين أنّه لو قال شخص لآخر: إِني نقلتك إِلى المكان الفلاني فإِنَّ المفهوم الصريح للمعنى لا يمكن تأويله باحتمال أنَّ هذا الأمر قد تمَّ في حالة النوم، أو أنّه تعبير عن حالة معنوية تمتزج بأبعاد مِن الوهم والتخيُّل.
خامساً: لقد كان مُبتدأ هذا السفر هو المسجد الحرام في مكّة المكرمة، ومنتهاه المسجد الأقصى في القدس الشريف.
بالطبع هناك كلام كثير للمفسّرين عن المكان الدقيق الذي انطلق مِنهُ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وفيما إِذا كان هذا المكان بيت أحد اقربائه (باعتبار أنّ المسجد الحرام قد يطلق احياناً ومن باب التعظيم على مكّة المكرمة بأجمعها) أو أنَّهُ انطلق مِن جوار الكعبة، ولكن ظاهر الآية بلا شك يفيد أنَّ المنطلق في سفر الإِسراء كان مِن المسجد الحرام.
سادساً: لقد كان الهدف مِن هذا السفر الإِعجازي أنْ يشاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)آيات العظمة الإِلهية، وقد استمرَّ سفر الإِسراء إلى المعراج صعوداً في السماوات لتحقيق هذا الغرض، وهو أن تمتلىء روح رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أكثر بدلائل العظمة الرّبانية، وآيات اللّه في السماوات، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخماً إِضافياً يوظَّفهُ(صلى الله عليه وآله) في هداية الناس إِلى ربّ السماوات والأرض!
وبذلك فإِنَّ سفر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في رحلة الإِسراء والمعراج لم يكن ـ كما يتصوّر البعض ذلك ـ بهدف رؤية اللّه تبارك وتعالى ظناً منهم أنّه تعالى يشغل مكاناً في السماوات!!!
وبالرغم من أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله) كان عارفاً بعظمة اللّه سبحانه، وكان عارفاً أيضاً بعظمة خلقه، ولكن «متى كان السماع كالرؤية؟!».
ونقرأ في سورة (النّجم) التي تلت سورة الإِسراء وتحدثت عن المعراج قوله تعالى: (لقد رأى مِن آيات ربّه الكبرى).
سابعاً: إِنَّ تعبير الآية (باركنا حوله) تفيد بأنَّه علاوة على قدسية المسجد الأقصى، فإِنَّ أطرافه أيضاً تمتاز بالبركة والأفضلية على ما سواها. ويمكن أن يكون مُراد الآية البركة الظاهرية المتمثلة بما تهبه هذه الأرض الخصبة الخضراء مِن مزايا العمران والأنهار والزراعة.
ويمكن أن تُحمل البركة على قواعد الفهم المعنوي فتشير حين ذاك إِلى ما تمثِّله هذه الأرض في طول التأريخ، مِن كونها مركزاً للنبوات الإِلهية، وَمُنطلقاً لنور التوحيد، وأرضاً خصبة للدعوة إِلى عبودية اللّه.
ثامناً: إِنَّ تعبير (إِنَّهُ هُو السميع البصير) إِشارة إِلى أنَّ إِكرام اللّه لرسوله(صلى الله عليه وآله)بمعجزة الإِسراء والمعراج لم يكن أمراً عفوياً عابراً، بل هو بسبب استعدادات رسول الهدى(صلى الله عليه وآله) وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله، هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها اللّه ويحيط بها.
تاسعاً: إِنَّ كلمة «سبحان» إِشارة إِلى أنَّ سفر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في الإِسراء والمعراج دليل آخر على تنزيه اللّه تبارك وتعالى من كل عيب ونقص.
عاشراً: كلمة «مِن» في قوله تعالى: (من آياتنا) إِشارة إِلى عظمة آيات اللّه بحيث أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ـ على علو مقامه واستعداده الكبير ـ لم ير مِن هذه الآيات خلال سفره الإِعجازي سوى جزء معين مِنها.
تفسير الامثل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ بتصرف
إعداد / قيس العامري
اترك تعليق