الخَلْق المدهش لعيسى بن مريم(عليه السلام) في القرآن الكريم:-

يقول الله تعالى في الآية (59) من سورة آل عمران:

{إنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

على هذه الآية، فإنَّ ولادة عيسى دون أب لا يدل على الوهيته.

الشرح والتفسير:

  يقول الله في هذه الآية: إنَّ خَلْق عيسى(عليه السلام) يشبه خَلْقْ آدم(عليه السلام) في أنَّه خلق من تراب دون دخالة أب وأم في ذلك، بل وجد بمجرد ان قال له الله: كُن.

  تحدث القرآن المجيد في الايات 45 إلى 59 من سورة آل عمران عن عيسى بن مريم(عليه السلام)وحكى مراحل حياته المختلفة من قبيل كيفية الولادة والتربية ونموه وبعثته ورسالته وكراماته ومعاجزه وعروجه إلى السماء، وقد سعى القرآن خلال هذه الآيات أنْ يرفع الشبهة المثارة حوله.

سؤال: كيف يمكن أنْ يولد انسان من أم فقط دون أب ؟ أو كيف يمكن أو يولد إنسان من دون تركيب بين الأسبرم والبويضة؟

  هل الآية في صدد الاجابة على هذه الشبهة، بحيث تقول: ألم نخلق آدم دون دخالة أب؟ أي كأنها تريد القول بأنَّ خلق آدم اصعب من خلق عيسى; لأنَّ في خلق عيسى توسطت الام، أمّا في خلق آدم فلا واسطة، من قبيل أُم أو أب، فكان أصعب خلقاً من عيسى(عليه السلام).

  إنَّ أفعالا من هذا القبيل ليست صعبة بالنسبة لله; فإنَّ الله ما إن قال لشيء (كُنْ فَيَكُونُ)(1) إنَّ الخلق عند الله لا يفرق فيه بين الصغير والكبير والصعب والسهل.

  إنَّ الله إذا اراد أنْ يَخلق عالماً كعالمنا الحالي بمجراته ونجومه - الذي كشفت الاحصائيات والاكتشافات العلمية عن سعته وعظمته - فإنَّه سينخلق بمجرد أنْ يأمر.

  إنّ الإنسان عند الصلاة إذا تصور امامه خالقاً بهذه القدرة والعظمة وشعر بأنَّه (لا شيء) يتحدث مع (كل شيء) لكانت صلاته وحالاته فيها تختلف بالكامل.

قدرة الله في كلام أمير المؤمنين(عليه السلام)

  تحدث الامام علي(عليه السلام) في الخطبة 185 من نهج البلاغة عن قدرة الله وأشار اليها بجمل جميلة كما نرى هنا: «لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه واتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر..»، ثم يتعرض إلى خلق النملة وظرافة ما تحتويه هذه الخلقة.

  من الحجب التي تحول دون التفات الإنسان إلى عجيب الخلقة، هو حجاب العادة، وذلك لأنَّ العادة تنسي الإنسان عظمة الشيء. فالنملة، مثلا، اصبحت عادية باعتبار كثرتها وتعوّدنا على رؤيتها، الأمر الذي يجعل الإنسان غافلا عن عظمة خلقها، وهي إذا قيست مع أهم صناعات الإنسان لاتضحت عظمتها.

إنَّ صناعة الطائرة صناعة تعتمد تقنية متقدمة جداً، فهي تحمل في الفضاء أناساً وسلعاً، ولها اجزاء مختلفة تشبه المدينة الصغيرة.

  وهذه الطائرة - التي تكشف عن ذورة التقنية والصناعة البشرية - إذا قيست بالنملة - التي هي من اصغر صناعات قدرة الله اللامتناهية - لكانت النملة اكثر عظمة من الطائرة; وذلك لأنَّ النملة تضم كل شيء رغم جثتها الصغيرة والنحيفة، ففيها أجهزة من قبيل: الباصرة والسامعة والرجل واليد وجهاز الهضم والدفع والتناسل وتعلم بهندسة بناء البيت وتهيئة الاغذية وخزنها بشكل يحول دون فسادها و.. ويا ترى كيف يمكن لموجود صغير أن يضم هذه الاجهزة جميعها؟!

  أمّا الطائرة فاضافة إلى أنَّها تفقد الكثير من هذه الاجهزة مثل جهاز التناسل وغيره، فهي بنفسها غير قادرة على تحريك نفسها، وتستعين لأجل الحركة بطاقم من التقنيين والمهندسين.

  نعم، إن الإنسان سيهتدي ولا يتعجب من خلق إنسان بلا أب إذا فكر في خلق الله وتدبّر فيه. ينبغي السجود لربّ قادر مثل هذا، كما ينبغي الصلاة والسلام على الإنسان الكامل (الإمام علي(عليه السلام)) حيث استطاع توصيف هذه القدرة اللامتناهية وبشكل بديع ورائع.

قصة خلق الإنسان:

هناك نظريتان رئيسيتان في خلق الإنسان:

1 - (تنوع الأنواع)، يعتقد أصحاب هذه النظرية أن الإنسان خلق مستقلا كما خلقت الحيوانات الاخرى. وقد يُسمى هذا التصور وهذه النظرية (ثبوت الانواع).

2 - (تبدّل الانواع)، وهي النظرية المشتهرة بين علماء الطبيعة والقائلة بأنَّ الخلقة بدأت بموجود أحادي الخلية كان يسبح في البحار، نمى هذا الموجود بشكل تدريجي ليتبدل إلى سمكة، تكاثرت هذه السمكة، ثم ألقت أمواج البحر ببيض من أفراد فصيلتها خارج البحر، لتتبدل تدريجياً إلى حيوانات بريّة ومنها القرد، ثم تكاملت بعض أصناف القرد لتتبدل إلى إنسان.

هل يمتلك أصحاب نظرية (تبدل الانواع) أدلة قاطعة على كلامهم؟

  كلا; وذلك لأنّ كلامهم يرجع إلى ملايين من السنوات الغابرة، إلى زمن لم يكن فيه إنسان أبداً، إلى زمن لم تصلنا عنه معلومات دقيقة، وما لدينا من تلك العهود هو شواهد وقرائن أثرية جمعت من قبل منقبي الآثار.

الاختلاف بين (الفرضية) و (القانون):

  إنّ مجموعة القضايا التي يسعها المختبر ويمكن أن تُحلل وتقع في طريق التجربة العلمية تتبدل إلى قانون إذا ثبتت صحتها، كالقضية القائلة بأنَّ سرعة الضوء 300/000 كيلومتر في الثانية. أما مجموعة القواعد التي لا يمكن اخضاعها للتجربة، ويُتمسك لأجل إثباتها بالعقل من خلال القرائن والشواهد الموجودة فهي فرضية.

  وعلى هذا; فإنَّ (تبدّل الانواع) فرضية لا قانون. ومن خصائص الفرضية أنَّها تحتمل التبدّل والتغيير والبطلان، كالفرضية القائلة بأنَّ الإنسان قبل أربعين ألف سنة يختلف عن الإنسان الحالي، فإنَّ علماء الآثار وجدوا جماجم تتعلق بمليوني سنة قبل عصرنا هذا كشفت عن شباهة الإنسان في ذلك العصر مع الإنسان الحالي، وبهذا بطلت الفرضية السابقة.

رأي القرآن في خلق الإنسان:-

  إنّ نظرية (تنوّع الانواع) هي المستفادة من القرآن المجيد، ويبدو أنَّ القرآن يؤيد هذا الرأي وهذه النظرية، أمَّا (تبدّل الانواع) فلا يمكن النظر إليها كقانون ثابت يستحيل الخدش فيه.

على أي حال، سواء كانت النظرية الأولى صحيحة أم الثانية، فإنَّ تفسير الآية لا يتغير، وحتى لو قلنا بتبدّل الأنواع فإنَّا سنقول:

  إنّ الذي استطاع أن يخلق الموجود أحادي الخلية يستطيع أن يخلق عيسى(عليه السلام) دون حاجة إلى أب وأُم. هذا اضافة إلى أنَّ العلماء عثروا على موجودات يمكنها التكاثر دون حاجة إلى التلاقح، وهي حيوانات تستطيع الانثى منها التكاثر دون حاجة إلى لقاح من الذكر. وإذا كان عالم كهذا ممكناً فان ولادة عيسى(عليه السلام) لا أنّه أمر غير عجيب فحسب، بل قد حصل ما هو أعجب منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر/امثال القرآن_الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.