زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) وتعظيمه حياً وميتاً ثابت بالكتاب والسنة

قال الله تبارك وتعالى : { وَلَوْ أَنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جاءوك فاستغفَرُوا الله واسْتَغْفرَ لهُمُ الرسولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّاباً رَحِيماً }. والمراد من هذه الآية ليس كما فهمه بعض الغالطين من انها مختصة في حال حياته(صلى الله عليه وآله) بل المراد انها شاملة للمجيء اليه(صلى الله عليه وآله) في حالة الحياة وحالة الوفاة ، وتخصيصها بالمجيء حال الحياة مما لا دليل عليه، والأصل حمل المجيء على العموم ما لم يرد مخصص, ودليل حمل المجيء على العموم هو أن الفعل (جاؤوك) واقع في سياق الشرط ، وبناء على ما قرر في علم الاصول من ان أعلى صيغ العموم هو ما وقع في سياق الشرط (1)؛لأن الفعل في معنى النكرة لتضمنه مصدراً منكراً ، والنكرة الواقعة في سياق النفي أو الشرط تكون للعموم وضعاً(2).

وذهب الى الذي ذكرناه جملة من علماء أهل السنة، مؤيدين ذلك بذكر حكاية العتبي الذي جاء للقبر الشريف, وممن أشار اليها ابن كثير في تفسيره, وابن كثير هذا قال عنه السيوطي في ذيل تذكرة الحافظ والزرقاني في شرح المواهب: " له التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله "(3)، ويقول أحمد محمد شاكر: « فإن تفسير ابن كثير أحسن التفاسير التي رأينا، وأجودها وأدقها، بعد إمام المفسرين أبي جعفر الطبري»(4), إذا عرفت هذا فهلم معي لتقرأ نص ما قاله في تفسيره, قال : «وقد ذكر جماعةُ منهم الشيخ أبو النصر الصَّباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العُتْبي قال: كنت جالساً عند قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : ﴿وَلَوْ أَنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جَاءُوك فاسْتغفَرُوا الله واسْتَغْفرَ لهُمُ الرسول لَوَجَدُوا الله تَوَّاباً رَحِيماً ﴾، وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه    فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه  فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي (صلى الله عليه وآله) في النوم فقال: يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له»(5).

وممن ذكر هذه الحكاية النووي في (المجموع) ، فزاد فيها البيتين التاليين:

أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته    على الصراط إذا ما زلت القدم

وساقها بقوله: «ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له»(6).

    وقال سعيد حوى: وشاهدنا أن ابن كثير ذكر هذه الحادثة دون تعليق مما يدل على أنه يعتبر أن الآية حكمها لا زال باقيا في جواز مخاطبة رسول الله ليستغفر الله لطالب ذلك(7).

ومن رواة هذه القصة أيضاً ابن قدامة في كتابه المغني (ج3 ص556)، ونقلها  أبو الفرج ابن قدامة في كتابه الشرح الكبير (ج3 ص495)، ونقلها أيضاً البهوتي في كتابه المعروف بكشاف القناع والذي يعد من أشهر كتب المذهب الحنبلي (ج5 ص30).

وذكر القرطبي قصة شبيهة بقصة العتبي في تفسيره المعروف بالجامع، قال: روى أبو صادق عن علي قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنَّا رسول الله(صلى الله عليه وآله) بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحثا على رأسه من ترابه فقال :   قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك وكان فيما أنزل الله عليك } وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ { .. الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر : إنه قد غفر لك .[تفسير القرطبي ج5 ص265]

فهذه هي قصة العتبى وهؤلاء هم نقلتها وأيا كانت قيمتها السندية، فإننا نتساءل ونقول هل نقل هؤلاء الاعلام الكفر والضلال للامة الاسلامية ؟ .. أو انهم نقلوا ما يدعو إلى الوثنية وعبادة القبور ؟ وإذا كان الأمر كذلك فأي ثقة بعد هذا فيهم أو في أقولهم وكتبهم ؟!.

ثم إني أعجب - ولا ينقضي عجبي - كيف يدعي بعضهم عدم صحة رواية العتبي وانها من الاكاذيب والموضوعات في حين ان تلك الابيات التي انشدها الاعرابي عند زيارته للنبي(صلى الله عليه وآله) ورواها العتبي مكتوبة على المواجهة النبوية الشريفة في العامود الذي بين شباك الحجرة النبوية يراها القاصي والداني منذ مئات السنين والى يومنا هذا !!

والابيات هي:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه  فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

فلو كان كما يقولون فلماذا لم يعمدوا الى ازالتها ومحوها الى الآن ؟!

دلالة (إذ) في قوله تعالى:{ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ }

ان قيل: أن  "إذ"  في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } هي ظرف لما مضى وليست ظرفا لما يستقبل حيث ان الآية تتحدث عن أمر وقع في حياة النبي(صلى الله عليه وآله).

 قلنا: ان قصر "إذ"  على الزمن الماضي فقط فيه نظر؛ لأنها كما تستعمل في الماضي تستعمل في المستقبل أيضاً ، وقد ذكر ابن هشام في مغني اللبيب معان اخرى لـ(إذ).

  وقد نص الازهري في تهذيب اللغة على أن  "إذ" تستعمل للمستقبل, فقال: العرب تضع "إذ"  للمستقبل و "إذا"  للماضي قال الله عز وجل : ﴿وَلَوَ تَرَى إِذْ فزعوا ﴾ ولم يحدث ان فزعوا فيما مضى.

   قلنا: ومن استعمال إذ للمستقبل نحو قوله سبحانه: {ولو ترى إذ وُقِفُوا عَلَى النَّار }(8), لان الوقوف على النار مما سيكون في القيامة وليس هو بكائن فعلاً, وكذلك قوله عزّ ذكره:{ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم }(9), وقوله تبارك وتعالى:{ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات }(10), وقوله جل وعلا:{ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم}(11).

    وان اعترض معترض وقال: ان استغفار النبي(صلى الله عليه وآله) أمر متعذر لأنه إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث .

    قلنا: استغفاره (صلى الله عليه وآله) غير متعذر لأمرين نذكرهما تباعا :

   الأمر الأول : قوله(صلى الله عليه وآله) : « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ».

 أخرجه البيهقي في (حياة الأنبياء)(12), وأبو يعلى في مسنده(13)، وأبو نعيم في

(أخبار أصبهان)(14) ، وابن عدي في الكامل(15).

 وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد): « ورجال أبي يعلى ثقات»(16), وللحديث طرق.

 وقوله (صلى الله عليه وآله): «مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره ».

 أخرجه مسلم في صحيحه(17)، وأحمد بن حنبل في مسنده(18), والبغوي في شرح السنة(19), وغيرهم.

وقال ابن القيم في نونيته(20) عند الكلام عن حياة الرسل بعد مماتهم ما هذا نصه:

والرسل أكمل حالة منه بلا   شك وهذا ظاهر التبيان

فذلك كانوا بالحياة أحق من  شهدائنا بالعقل والبرهان

وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ   فنساؤه في عصمة وصيان

ولأجل هذا لم يحل لغـيره منهن واحدة مدى الأزمان

أفليس في هذا دليل أنــه حــي لمن كانت له أذنان

وقوله (صلى الله عليه وآله): « حياتي خير لكم  تُحدثون ويُحْدَثُ لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علىَّ أعمالكم فما رأيت  من خير حمدت الله عليه وما وجدت من غير شرٍ استغفرت لكم ».

وهذا حديث صحيح قال عنه الحافظ العراقي في طرح التثريب(21): «إسناده جيد» .

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: « رواه البزار ورجاله رجال الصحيح »(22).

وصححه السيوطي في الخصائص(23).

وكلام العراقي والهيثمي بالنسبة لإسناد البزار فقط  .

وإلا فالحديث صحيح كما قال الحافظ السيوطي ، وغيره ، وسيأتي الكلام عن الحديث بتوسع إن شاء الله تعالى .

الأمر الثاني : انّ استغفاره (صلى الله عليه وآله) حاصل لجميع المؤمنين سواء من أدرك حياته أو من لم يدركها لقوله تعالى : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات }, وهذه من خصوصياته (صلى الله عليه وآله) التي خصه الله عزّ وجل بها دون سواه من الانبياء والمرسلين.

ومن جميع ما تقدم اتضح جلياً أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية وهي :

1- المجيء إليه (صلى الله عليه وآله) .

2-  واستغفار المؤمنين منه (صلى الله عليه وآله).

3- واستغفاره (صلى الله عليه وآله) للمؤمنين.

أنّ هذه الأمور الثلاثة حاصلة في حياته ومماته من دون أدنى شك وارتياب .

    فان قيل: إنَّ الآية وردت في أقوام معينين .

قلنا: ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, كما فهمه المفسرون وغيرهم من الآية الشريفة لذا قالوا باستحباب قراءة الآية - محل البحث- لمن جاء إلى القبر الشريف, وهي قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جاءوك فاستغفَرُوا الله واسْتَغْفرَ لهُمُ الرسولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّاباً رَحِيماً}, ويستغفر الله تعالى .

ودونك التفاسير والمناسك التي صنفها علماء أهل السنة بمختلف مذاهبهم تصفحها وستجدها مشبعة بصدق دعوى الاستدلال بالآية .

   فهذا ابن قدامة الحنبلي صاحب المغني، الذي يقول فيه ابن تيمية ما نصه: «ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من ابن قدامة», يذكر هذه الآية في المغني (3/590) في صفة زيارة المصطفى (صلى الله عليه وآله)

  فيقول: « ثم تأتي القبر فتولِّ ظهرك وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ... إلى أن قال بعد الثناء والصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله): اللهم إنك قلت وقولك الحق:{وَلَوْ أَنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جاءوك فاستغفَرُوا الله واسْتَغْفرَ لهُمُ الرسولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّاباً رَحِيماً }} وقد اتيتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربِّي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهم اجعله أول الشافعين ، وأنجح السائلين ، وأكرم الآخرين والأولين ، برحمتك يا أرحم الراحمين . ثم يدعو لوالديه ولإخوانه  المسلمين أجمعين » .

وقد زعم بعض الجهلة أن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يسمع ولا يرى ولا يعرف عنا ولا يدعو الله تعالى لنا ، لم نرى جراءة أعظم من هذه ؟ ولا جهل أقبح منه ؟ وغير هذا وذاك انطوائه على سوء الأدب والانتقاص من قدر النبي(صلى الله عليه وآله) ، مع ما تظافر من الأحاديث والآثار التي تثبت أن الميت يسمع ويحس ويعرف سواء أكان مؤمناً أم كافراً على حد سواء .

فقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة فقال: « ان الميت يسمع النداء كما ثبت في الصحيح "عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: انه ليسمع قرع نعالهم", وأنه قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم", وأنه أمرنا بالسلام على الموتى فقال: "ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه الا ردّ الله روحه حتى يرد عليه السلام"»(24).

وقال تلميذه ابن القيم في كتاب الروح : « وَثَبت عَنهُ صلى الله وَآله وَسلم أَن الْمَيِّت يسمع قرع نعال المشيعين لَهُ إِذا انصرفوا عَنهُ.

وَقد شرع النَّبِي لأمته إِذا سلمُوا على أهل الْقُبُور أَن يسلمُوا عَلَيْهِم سَلام من يخاطبونه فَيَقُول السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين وَهَذَا خطاب لمن يسمع وَيعْقل وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ هَذَا الْخطاب بِمَنْزِلَة خطاب الْمَعْدُوم والجماد وَالسَّلَف مجمعون على هَذَا وَقد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَنْهُم بِأَن الْمَيِّت يعرف زِيَارَة الْحَيّ لَهُ ويستبشر بِهِ»(25).

فإذا كان هذا في حق عامة البشر فما بالك بسيد الأولين والآخرين وأشف الانبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله)؟!.

وها نحن اليوم نشهد حجاج بيت الله الحرام وعلى مدى قرون عديدة يأتون لزيارة القبر الشريف قبل أو بعد المناسك ، متشرفين بالوقوف بين يدي المصطفى(صلى الله عليه وآله) يسلمون عليه ، ويدعون ويستغفرون ، وهذا يكفي لردَّ تلك الدعوى البائسة.

الكاتب: السيد مهدي الجابري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- ارشاد الفحول : 122 .

2- الردِّ المحكم المتين: ص44 .

3- ذيل تذكرة الحفاظ – لأبي المحاسن الحسيني-: ص361 , ط: دار الكتب العلمية – بيروت.

4- عمدة التفاسير- لأحمد شاكر- 1 : 9 , دار الوفاء, ط: الثانية, 1426 هـ - 2005م.

5- تفسير ابن كثير , 2 : 348 , تفسير الثعالبي, 2 : 257 .

6- المجموع شرح المهذب –للنووي- 8 : 274 .

7- الاساس في التفسير –لسعيد حوى- 2 : 1107 .

8- سورة الانعام: آية 27 .

9- سورة الانعام: آية 30 .

10- سورة الانعام: آية 93 .

11- سورة السجدة: آية 12 .

12- حياة الانبياء للبيهقي: ص15 .

13- مسند أبي يعلى الموصلي, ج6,ص147 .

14- اخبار اصبهان لابي نعيم, ج2,ص44 .

15- الكامل لابن عدي, ج2,ص739 .

16- مجمع الزوائد للهيثمي,ج8,ص211 .

17- صحيح مسلم, ج4,ج1845 .

18- مسند احمد بن حنبل, ج3, ص120 .

19- شرح السنة للبغوي, ج13, ص351 .

20- نونية ابن القيم مع شرح ابن عيسى,ج2, ص160 .

21- طرح التثريب للحافظ العراقي, ج3, ص297 .

22- مجمع الزوائد للهيثمي, ج9, ص29 .

23- الخصائص للسيوطي, ج2, ص281 .

24- ابن تيمية الحراني الحنبلي, الفتاوى الكبرى, نشر دار الكتب العلمية, ط: الأولى، 1408هـ - 1987م, ج3, ص24 .

25- ابن قيم الجوزية, الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة, نشر دار الكتب العلمية – بيروت, ص5 .