دروسٌ من دعاءِ الأستسقاءِ للنبي محمد صلى الله عليه وآله

عن عرفطة الجندعي قال : بينا أنا بالبقاع من نمرة ( 1 ) ، إذ أقبلت عير من أعلى نجد حتى حاذت الكعبة ، وإذا غلام قد رمى بنفسه من عجز بعير ، حتى أتى الكعبة ، وتعلق بأستارها ، ثم نادى : يا رب البيت أجرني ، فقام إليه شيخ جسيم وسيم ، عليه بهاء الملوك ووقار الحكماء.

فقال : ما خطبك يا غلام ؟ فقال : إن أبي مات وأنا صغير ، وإن هذا النجدي قد استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم فجاء النجدي فجعل يسحبه ويخلصه من أستار الكعبة، فأجاره القرشي ومضى النجدي ، وقد تكنعت ( 2 ) يداه .

قال عمرو بن خارجة : فلما سمعت الخبر قلت : إن لهذا الشيخ لشأنا ، فصوبت رجلي نحو تهامة حتى وردت الأبطح ( 3 ) وقد أجدبت الأنواء ، وأخلقت العواء ، وإذا قريش حلق قد ارتفعت لهم ضوضاء ، فقائل يقول : استجيروا باللات والعزى ، وقائل يقول : بل استجيروا بمناة الثالثة الأخرى ، فقام رجل من جملتهم يقال له ورقة بن نوفل - وهو ابن عم السيدة خديجة بنت خويلد - فقال : إني نوفلي وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل ، فقالوا : كأنك عنيت أبا طالب ؟ قال : هو ذاك ، فقاموا إليه بأجمعهم وقمت معهم ، فأتينا أبا طالب فخرج إلينا من داره ، فقالوا : يا أبا طالب قد أقحط الواد ، وأجدبت العباد ، فقم واستسق لنا ، فقال : رويدكم دلوك الشمس ، وهبوط الريح ، فلما زاغت الشمس ، أو كادت ، وإذا أبو طالب قد خرج وحوله أغيلمة ( 2 ) من بني عبد المطلب ،

وفي وسطهم غلام يافع كأنه شمس ضحى تجلت عن غمامة قتماء ، فجاء حتى أسند ظهره إلى الكعبة ، فاستجار بها ولاذ بإصبعه ، وبصبص الأغيلمة حوله . وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا حتى لت ولف ، وأسحم ،وأقتم ، وأرعد ، وأودق ، وانفجر به الوادي ، وافعوعم ( ونزل الغيث كأفواه القرب ) ، وبذلك قال أبو طالب شعراً يمدح به النبي ( صلى الله عليه وآله ) :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تطوف به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل

بميزان صدق لا يخس شعيرة * ووزان حق وزنه غير عائل

بعد أمعان النظر في  دعاء الاستسقاء المتضمن لقول وفعل النبي الخاتم "صلوات الله وسلامه عليه" الذي يُدعى به  بعد جَدب الأرض وموتها وتعسرها في أخراج نباتها المونق وضيق القوت وتدهور الاحوال  فيَحسُن حالها  بعد أستنزال الغيث وأحياء ماقد مات بسقيٍ نافعٍ دائم غُزْرُهُ واسِع دَرَرُهُ , بعد رفع يد الرحمة الرحيمية للحقيقة المحمدية .

نستخلص عدة آداب وشرائط لإستجابة الدعاء منها ماهو مستخلصٌ من فعله وحركته  في آختيار  المكان وموطن الاستجابة  المناسب وآخرى من خلال كلامهِ الشريف وكيفية دعائه المبارك . وهذه الشرائط أستخلصتها في عدة نقاط :

1- منها ما هو في الدَّاعي : ان يكون  الشخص الداعي ممن صوته معروف عند الله عز وجل وومن له صلة بالله تعالى  وأن يكون رجلٌ أواه  أي كثيرُ الدعاء وهذا مما أمتاز به الانبياء والاوصياء صلوات الله وسلامه  قال إمامنا الباقر صلوات الله وسلامه عليه في تفسير الآية المباركة   (إن إبراهيمَ لَأَواهٌ حَلِيم ) قال "صلوات الله عليه " الْأَوَّاه هو الدَّعَّاءُ .(الكافي ج2ص715)

وفي روايةٍ أخرى عن إمامنا الصادق "صلوات الله وسلامه عليه"

قال :قال أمير المؤمنين "عليه السلام" أحب الاعمال الى الله عز وجل في الارض الدعاء ,وأفضل العبادة العفاف ,قال : وكان أمير المؤمنين عليه السلام رَجُلاً دَعَّاء. (الكافي ج2 ص716)

ولذلك رأينا كيف أن أبا طالب صلوات الله عليه لمّا أوكلوا أليه الأمر أي رُشح ان يكون هو الداعي وهو ممن له مقام رفيع عند الله عز وجل وهو من  بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل  صلوات الله عليهم اجمعين .وهم ما جاءوه  إلا بعد أن أطمئنوا الى أيمانه ودينه

إلا أن أبا طالب عليه السلام بدوره رّشح ان يكون الداعي ممن صوته معروف عند الله عز وجل و أواه بل ممن له كلام مع الله تعالى وومن يوحى أليه وما ينطق عن الهوى وهو النبي الخاتم "صلوات الله وسلامه عليه وعلى أله " ولهذا تقدمهم النبي عليه السلام في الدّعاء .

2- اختيار الوقت المناسب : وهذا ما رأيناه جلياً في حركة أبي طالب "عليه السلام" بعد ان استعجلوه بالدعاء حيث قال  : رويدكم دلوك الشمس ، وهبوط الريح ... وقد أكدت الروايات الشريفة على مثل هذه الساعات .ففي الرواية الشريفة عن زيدٍ الشَّحَّام قال : قال ابو عبد الله "عليه السلام" :أطلبوا الدعاء في أربع ساعات : عند هبوب الرَّياح , وزوال الافياء , ونزول القطر , وأول قطرة من دم القتيل المؤمن ,فإن أبواب السماء تُفتَّحُ عند هذه الاشياء .

تظهر لنا حقيقة تكوينية وهي ان للسماء ساعات تفتح فيها أبوابها وهي الساعات الاربع اتي ذكرتها الرواية الشريفة وأولى هذه الساعات هي ساعة هبوب الرياح .

وفي روايات أخر اشارة  ان من ساعات استجابة الدعاء وقت الزوال  وفي رواية اخرى عند الأسحار . 3- الاجتماعُ في الدعاء : وهو شرطٌ من شرائطِ استجابة الدعاء ,لذك أبو طالب  تشير الحادثة أنه  قد خرج وحوله أغيلمة أي مجموعة من الشباب وكان قد تقدمهم النبي الخاتم "عليه السلام"

وقد اشارت مجموعة من الروايات الشريفة الى أهمية الجماعة في الدعاء ومدى فاعليتها في استجابة الدعاء أذكر لكم راوية رواها شيخنا الكليني في الكافي الشريف عن أبي عبد الله "عليه السلام" امامنا الصادق الاطهر قال :ما اجتمع  أربعة رهط قط على أمرٍ واحد فدعوا الله ‘لا تفرقوا عن إجابةٍ . (ج2 ص728 الكافي الشريف)

وهنالك روايات أخر تبين أجر الداعي والمُؤمِّن بأنهم شريكان في الأجر  .

4- المكان المناسب : للمكان المناسب أهمية كبيرة في استجابة الدعاء وكما يقال المكان بالمكين .وهو ايضا درس يضاف الى بقية دروس شرائط استجابة الدعاء وقرأنا كيف ان النبي الاعظم "صلوات الله عليه"  جاء حتى أسند ظهره إلى الكعبة ، فاستجار بها ولاذ بإصبعه. وفي هذه الحركة المباركة أشاره واضحة الى أهمية المكان الداعي .

الدروس في هذه الحادثة المباركة كثيره  جداً منها ما يدخل في ولاية الداعي , وعلمه بمفاتيح استجابة الدعاء , ومقامه السامي , ودروس أُخر لا يحدها قلم ولا بيان ولا يحصرها عقلي القاصر .

الكاتب: ميثم العتابي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) منطقة البقاع بطريق مكة بعد العقبة المتوجه إلى مكة .

( 2 ) تكنعت يداه : تقيضت ويبست .

( 3) البطحاء - الأرض المنبسطة بين الجبال - وهي مكة .

( 4 ) جمع غلام شباب .