النهضة الحسينيّة بين انتكاسة الأمّة وإيقاظها ج1

كثيراً ما تُختزل أهداف الثورات والنهضات وحركات التحرر والانعتاق التي تُثار في وجه الظلم والجور والانحراف، في لون خاصّ ونمط مُعيّن من الأهداف والغايات التي تُعلَن عِبْر الشعارات المرفوعة والنداءات الموجّهة، وتظهر من خلال ممارسات القائمين عليها وأفعال المتصدِّين لها، وكثيراً ما تكون هذه الأهداف المُعلَنة أو المرفوعة محدودة من حيث الزمان والمكان، ومنصهرة بإطار نظرات وأُفق تفكير مَن يرفعها، وهذا ما تفرضه الظروف الموضوعيّة المرتبطة بحدود إمكانات قادتها وأُفق تصوراتهم، فتأتي أغلب هذه النهضات والانتفاضات ـ فيما لو نجحت ـ قليلة التأثير ومحدودة الفاعليّة، لاسيما إذا ما تقادم عهدها وامتدّ بها عمود الزمان، فتظل حينئذٍ من ذكريات التاريخ وتراثه القَيّم التي لا تخلو من فائدة لمَن اطّلع عليها ودرس تاريخها.

لكنّ هذا التصوّر والانطباع السالف الذكر عن الثورات وحركات الرفض لا ينسحب أبداً على النهضة الحسينيّة المباركة التي قادها الإمام الحسين عليه السلام ، من حيث أهدافها ونتائجها ومعطياتها، وخروجها عن قيود الزمان والمكان، وهذا لا غروَ به؛ لأنّ قائد النهضة سامي المقام وعالي الهمّة كجده النبي الأعظم محمد عليهما السلام ، كما قال الشاعر:

له هممٌ لا منتهى لكبارها *** وهمّتها الصغرى أجلّ من الدهر

 

أهداف النهضة الحسينيّة ودوافعها

إنّ المتّتبع لفصول النهضة الحسينيّة ومواقفها، وما بعثته من رسائل من بداية انطلاقها وتحركها من المدينة المنوّرة بعد موت معاوية، ومروراً بمكة، وانتهاءً بكربلاء، لا يسعه إلاّ أن يقرّ بأنّها نهضة شاملة، ذات نظرة بعيدة وأُفق واسع، وأهداف متعددة الأبعاد والأغراض والغايات الاجتماعية، والدينية، والأخلاقية والسياسية، حارت في معرفة كنهها ألباب المفكّرين، وعجزت عن الإحاطة بها عقول الألمعيّين.

 ولعل أوضح شاهد على اللافتة العريضة لأهداف النهضة الحسينيّة هو ما أطلقه الإمام الحسين عليه السلام  في واحد من شعارات نهضته ـ حينما قال في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية ـ: ((وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي صلى الله عليه وآله، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر))[1]، فعنوان الإصلاح ينطبق على كلّ هذه الأبعاد والأشكال المتعددة لأهداف النهضة الحسينيّة، فيشمل كلّ مظاهر الإصلاح الاجتماعي والديني، والسياسي والأخلاقي والتربوي، وغير ذلك.

ولسائل أن يسأل: لماذا حملت النهضة الحسينيّة كلّ هذه الأهداف؟ ما الذي حصل في الأُمّة؛ لكي يضطلع الإمام الحسين عليه السلام  بهذه المهمّة الجسيمة ويدفع هذا الثمن النفيس؟

وفي معرض الإجابة عن التساؤل نقول: من وجهة نظر الشيعة الإمامية ـ وقد يُشاركهم غيرهم من المسلمين ـ إنّ مسيرة الأُمّة الإسلاميّة قد أُصيبت بخلل كبير وانحراف خطير بُعَيد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، حينما وُضِعَتْ الأُمور في غير مواضعها التي أرادها الله تعالى لها، فجُعِلَت مقادير الأُمّة ومصائر المسلمين في أيدي أُناس أقلّ ما يُقال عنهم: إنّهم غير مؤهلين لذلك. ثمّ أخذت الهوّة تتسع والشرخ يزداد حينما أصبح طُلَقاء هذه الأُمّة رُعاة المسلمين وأمراءهم في عهد الخليفة الثالث[2]، ولم تسنح الظروف لأمير المؤمنين عليه السلام  ـ عندما آلت إليه الأُمور ـ إصلاح ما فَسُد ورَتْق ما فُتِق؛ لأنّ الأيادي الأثيمة اغتالته ليمضي شهيد الحقّ والعدل، وتُمنى الأُمّة بأفدح خسارة في تاريخها، ثمّ تتعمّق الجراح وتزداد مأساة الإسلام بتولي معاوية بن أبي سفيان السلطة وقيادة الأُمّة الإسلاميّة، مع أنّها محرّمة على آل أبي سفيان، كما روي عن الإمام الحسين عليه السلام  أنّه قال: ((ولقد سمعت جدّي يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان))[3]، ولم يكن يتصَّور أحد من عامّة المسلمين في العقدين الأولين للإسلام أن تقع الخلافة في أيدي أبناء أبي سفيان، ولكنّها سخرية القدر، ووهن الأُمّة وضعف إرادتها.

وليت الأوضاع وقفت عند هذا الحدّ، بل تعدّت إلى أن يصبح يزيد بن معاوية ـ الفاسق وشارب الخمر وقاتل النفس المحترمة ـ خليفة على المسلمين، عندها دقّ ناقوس الخطر بشدّة، وأصبحت جهود النبي صلى الله عليه وآله في مهبّ الريح؛ الأمر الذي حدا بالإمام الحسين عليه السلام  أن يقول: (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُلِيت الأُمّة براعٍ مثل يزيد))[4]، ويقول: ((ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً حقّاً؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً))[5].

فهذه الحالة المتردّية التي وصل إليها وضع المجتمع الإسلامي على جميع الأصعدة ـ الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة ـ تحتاج بطبيعة الحال إلى نهضة إصلاحيّة متوازية وحجم الفساد والإفساد الذي أصاب الأُمّة جمعاء, نهضة تُراعي في أهدافها ورسالتها إصلاح كلّ أشكال هذا الانحراف، وتكون بمستوى المسؤولية وحجم المهمة؛ فلهذا كانت أهداف النهضة الحسينيّة بهذا الحجم الكبير والأبعاد المتعددة، وبه يتّضح جواب التساؤل المتقدِّم.

بقي أن نعرف الطريقة والأُسلوب الذي سلكه الإمام الحسين عليه السلام  للوصول إلى هدفه الإصلاحي، وهو ما نشير إليه فيما يأتي.

 

أُسلوب الإمام الحسين عليه السلام  وطريقته في تحقيق الإصلاح

يمكن أن تُذكر عدّة آراء ونظريات تفسّر الطريقة والأُسلوب الذي اتّبعه الإمام الحسين عليه السلام  في حركته التغييريّة؛ للوصول إلى مبتغاه في الإصلاح العامّ الشامل، إلاّ أنّنا سنقتصر على رأيين رئيسين في مسألة الأُسلوب والآلية والطريقة التي اتّخذها الإمام، وهما أُسلوب الاستيلاء على الحكم، وأُسلوب التضحيّة والاستشهاد:

الأُسلوب الأول: الاستيلاء على السلطة وإقامة الحكم الإلهي

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى إنّ الإمام الحسين عليه السلام  إنّما سعى إلى تحقيق أهداف نهضته عن طريق استلام زمام الخلافة الإسلامية، وإصلاح ما أفسده غيره، وإعادة الأُمّة إلى رشدها ووضْعِها على جادّة الصواب، من خلال السيطرة على أجهزة الدولة ومفاصلها، واستغلالها في سبيل أسلمة المجتمع بعد أن فقد هويته الإسلاميّة الحقيقيّة.

ولم يكن سعي الإمام عليه السلام  للحصول على السلطة والحكم هدفاً وغاية شخصيّة، بل كان وسيلة وطريقاً لتحقيق أهداف نهضته الكبرى[6]، وهذا ديدنهم في التعامل مع قضية الحكم والقيادة، وفي هذا الصدد يقول الإمام الحسين عليه السلام : ((اللهم، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك))[7].

وبإمكاننا أن نقرِّب هذه الرؤية من خلال استعراض بعض المعطيات والشواهد التي تصبّ في صالح مَن يتبنّاها، وهي أنّه بعد أن نصّب معاوية ابنه يزيد ـ الذي لم يكن لائقاً بهذا المنصب ولو بالحدّ الأدنى ـ أميراً على المسلمين قبل موته وجدت هناك موجة من الاستياء العامّ في أوساط المسلمين، ورفض بعض زعماء المسلمين البيعة، فرأى الإمام عليه السلام  أنّ الأجواء مهيأة لأخذ زمام المبادرة، وهو مَن يمتلك كل المقوّمات المطلوبة في الحاكم الإسلامي، فأعلن شعاره الأول الذي حمل دلالات واضحة على توجهاته ((وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام ، فمَن قبلني بقبول الحقّ، فالله أوْلى بالحقّ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر، حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين))[8].

وساعد على ذلك مكاتبة أهل الكوفة له ودعوتهم إياه إلى القدوم واستعدادهم للدفاع عنه ومبايعته بالخلافة؛ فبعث إليهم مسلم بن عقيل لتقويم الأُمور، والتمهيد للدولة الجديدة التي عاصمتها الكوفة، كما أنّه كان بالإمكان أن يضمن ولاء المدينة المنوّرة ومكة؛ فأخذ يدعو كلّ مَن لقيه إلى نصرته والالتحاق به، بل بعث كُتباً ورسائل إلى زعماء القبائل يدعوهم إلى الانضمام إليه في حربه ضدّ السلطة الظالمة، ومن كُتبه تلك ما أرسله إلى زعماء البصرة الذي جاء فيه: ((إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيِّه؛ فإنّ السنّة قد أُميتت، فإن تُجيبوا دعوتي، وتُطيعوا أمري أهدِكم سبيل الرشاد))[9].

هذا، وممّا يدعم هذا الرأي ما كتبه الإمام الحسين عليه السلام  في رسالته الجوابية عن كتاب مسلم بن عقيل، حين أخبره بأنّ الأُمور في صالح أهل البيت عليهم السلام  وأنّ أهل الكوفة قد اجتمعت كلمتهم على نصرة الحسين وأهل بيته عليهم السلام ، فقال: ((أمّا بعد: فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبر فيه بحُسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر))[10].

بل بناءً على بعض الأخبار أنّ الإمام عليه السلام  قد مارس صلاحيّاته كحاكم سياسي فعلي، حين صادر ـ وهو في الطريق ـ أموالاً بعثها إلى يزيد عامله على اليمن، قال السيد ابن طاووس: ((ثمّ سار حتى مرّ بالتنعيم، فلقي هناك عِيراً تحمل هديّةً قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية، فأخذ الهدية؛ لأنّ حكم أُمور المسلمين إليه))[11].

وظل هذا الأمر نُصب عين الإمام عليه السلام  حتى بعد أن انقلبت أوضاع الكوفة، واستُشهد مسلم بن عقيل، وتفرّق الناس الذين التحقوا به إلاّ ثلّة من خُلّص أصحابه، فما زال يذكّر الناس بأنّه أحقّ بالخلافة وأوْلى من يزيد بن معاوية، ويحثّهم على طاعته، وذلك حين خطب بجيش الحرّ عندما التقى به في الطريق على مقربة من كربلاء، فقال: ((أيها الناس، فإنّكم إن تتَّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد، وأوْلى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان))[12].

 بل إنّه لم ييأس من دعوة أهل الكوفة ـ ممّن كتبوا له ـ إلى نصرته وترك جبهة الباطل، فعندما وصل إلى كربلاء دعا بدواة وقرطاس، فكتب إليهم كتاباً جاء فيه: ((وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، وإنّي أحقّ بهذا الأمر؛ لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد أتتني كتبكم، وقَدِمت عليّ رسلُكم ببيعتكم، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم))[13].

ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ الإمام كان يرى بعلمه العادي أنّ هذا الشيء سوف يتحقق، فاندفع إلى ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وآله يرى أنّه سوف ينتصر على الكفار في أُحد، وكذلك الحال في خروج الإمام علي عليه السلام  إلى معركة صفّين، فالتصدّي والتخطيط لاستلام الحكم من قِبَل إمام ما، لا يعني بالضرورة أنّ ما خُطّط له سوف يتحقق؛ فالأئمة عليهم السلام  لا يخرجون عن الجانب البشري في عملهم الاجتماعي والسياسي، ولا يستخدمون الوسائل الغيبيّة إلاّ في حالات خاصة[14].

وقد نجد هذا الرأي في كلمات السيد المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء، فإنّه ذكر عدّة تساؤلات حول نهضة الإمام الحسين عليه السلام ، وتحركه من المدينة حتى كربلاء، منها: أنّه ما المبرر لخروجه إلى الكوفة وهي بيد أعدائه، وهو يعلم صنيع أهل الكوفة بأبيه وأخيه؟ ولماذا لم يأخذ بنصيحة أصحابه بعدم الخروج، وإلاّ فسوف يُقتل؟ ثمّ لماذا لم يرجع بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل؟ وغير ذلك من التساؤلات. فيُجيب عنها بقوله: (( إنّ الإمام متى غلب في ظنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوِّض إليه بضرب من الفعل؛ وجب عليه ذلك، وإن كان فيه ضرب من المشقّة يُتحمّل مثلها، تحمّلها، وسيدنا أبو عبد الله عليه السلام  لم يَسر طالباً للكوفة إلاّ بعد توثُّق من القوم وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه عليه السلام  طائعين غير مكرهين، ومبتدئيِن غير مجيبين... ورأى عليه السلام  من قوّتهم على مَن كان يليهم في الحال من قِبل يزيد، وتشحّنهم عليه وضعفه عنهم، ما قوّى في ظنّه أنّ المسير هو الواجب؛ تعيّن عليه ما فعله من الاجتهاد والتسبُّب، ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق بما اتّفق من الأُمور الغريبة...))[15].

وبغضّ النظر عمّا يُورَد على هذا الرأي من إشكالات؛ فنحن لسنا بصدد محاكمة الآراء بقدر ما نبتغي عرضاً لهاتين الرؤيتين فقط.

الأُسلوب الثاني: طريق التضحية والاستشهاد

هناك مَن ينظر إلى القضية من نافذة أُخرى، فيرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام  لم يكن له بدٌّ في تحقيق أهدافه العظيمة إلاّ ركوب الصعبة وسلوك طريق التضحية والاستشهاد؛ لأنّ ((الدنيا قد تغيّرت وتنكَّرت، وأدبر معروفها... حتى لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالكلاء الوبيل))[16]، فيزيد بن معاوية لا يمتلك ما عند أبيه من سياسة المراوغة والطرق الملتوية، وإنّما تغلب عليه الحماقة والغباء والغرور مع فقدانه الوازع الديني والأخلاقي، فقرَّر تصفية خصومه ومعارضيه جسدياً، فكتب إلى عامله على المدينة: ((فإذا أتاك كتابي هذا فعجِّل عليَّ بجوابه، وبيّن لي في كتابك كلّ مَن في طاعتي، أو خرج عنها، وليكن مع الجواب رأس الحسين بن علي))[17]، كما كان لا يتوانى في ارتكاب الفظائع والجرائم، وانتهاك الحرمات والمقدّسات إذا ما حال ذلك دون تربّعه على سدّة الحكم، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فإنّ المجتمع الإسلامي قد جفّت فيه القيم الإسلامية الأصيلة، وتغيّرت فيه المفاهيم، فأضحى المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والشريف مبعَّداً مهمّشاً، والدني مقرَّباً محترماً، كما وصف ذلك الإمام الحسين عليه السلام  ((ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً حقّاً))[18]، وفي قوله عليه السلام : ((فإنّ السنّة قد أُميتت))[19].

فخطط الإمام عليه السلام  ـ ومن ورائه السماء ـ أن يقوم بعمليّة التغيير الشامل بتقديم نفسه وأهل بيته وأصحابه قرابين على مذبح الإصلاح، وحمله عياله وثقله ليلاقوا أهوال السبي ويقاسوا أنواع المصائب؛ ذلك ليحدث هزّة عنيفة تصعق وجدان الأُمّة، وصرخة مدويّة تصكُّ آذانها؛ لترجع عن غيّها وتستفيق من غفلتها، وتلتفت إلى ما وصل إليه حالها.

ولعلّ هذا ما كان يُلمح إليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله في الرؤيا التي رآها الإمام الحسين عليه السلام  عندما زار قبر جده، قال صلى الله عليه وآله: ((يا بني، يا حسين، كأنّك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أُمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم؟! لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيام! فما لهم عند الله من خَلاق))[20].

ثمّ جاءت بياناته عليه السلام  من بدايات تحرُّكه تُشير إلى تصميم على الشهادة، وبالكيفيّة التي أرادها وخطَّط لها، ولعل أوضح تصريح له بتلك الكيفيّة عند قوله عليه السلام  لأُمّ سلمة حين همَّ بالخروج من المدينة: ((يا أُمّاه، قد شاء الله عزَّ وجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظُلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرَّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيَّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً))[21].

وهكذا حين أراد الخروج من مكة إلى العراق أكّد هذا المعنى في كتاب أرسله إلى محمد بن الحنفية وسائر بني هاشم ((أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يدرك الفتح))[22]. وتوجد شواهد أُخرى كثيرة تعضد هذا المعنى.

من هنا؛ نرى أنّ الذين نصحوا الإمام بعدم الخروج أو الذين اقترحوا عليه أُموراً معيّنة، لم يفهموا مغزى قرارات الإمام عليه السلام  وتصرفاته، كالتوجّه بكلّ إباء وشجاعة إلى الكوفة التي عُرفت بعدم الوفاء، وبهذا العدد القليل من الأنصار والأصحاب لملاقاة جيوش بني أُميّة، وكذلك حمل الأطفال والنساء؛ لأنّ أُولئك الناصحين والمشفقين أنى لهم معرفة هذا التخطيط الإلهي، وهذه النظرة الإلهية الواسعة الأُفق، التي لا تصدر إلاّ من إمام معصوم، وقائد مرتبط بالسماء.

ونحن سواء قلنا: إنّ الحسين عليه السلام  ارتأى أن يُحقّق أهدافه بواسطة استلامه الحكم والسلطة، أم أنّه اختار سبيل التضحية والشهادة، فإنّ الإمام عليه السلام  لا شك في أنّه سعى لوضع الإصلاح موضع التطبيق؛ عملاً بتكليفه الإلهي ووظيفته الشرعية؛ كونه إمام هذه الأُمّة، وقائدها الشرعي المسؤول عن مصيرها ودينها ومقدراتها.

ثمّ بعد كلّ هذه التضحيات الجسيمة التي بذلها الإمام عليه السلام  في سبيل نهضته، ووقوع هذه المأساة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في شناعتها وبشاعتها، لنا ولغيرنا أن يتساءل عن التأثير الذي أحدثته عاشوراء في واقع الأُمّة ومستقبلها.

فهل تمكَّنت النهضة الحسينيّة أن توقظ الأُمّة من غفلتها، وتبعث الحياة في إرادتها، بعدما أصابها الوهن والضعف؟ وهل استطاعت أيضاً أن تُعيد لها بعض مبادئها وقيمها المفقودة؟ أو أنّ القضية على النقيض من ذلك؛ فإن الأُمّة بخذلانها الإمام الحسين عليه السلام  وموقفها السلبي والمشين تجاه ثورته ألبسها الله تعالى ثوب الذلّ والهوان، وأُصيبت بانتكاسة كبيرة على الأصعدة كافّة.

(وهنالك رؤيتان نوضحهما في الجزء القادم إن شاء الله)

الكاتب: د.السيد حاتم البخاتي

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد الثالث

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________________

 

[1] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329. الخوارزمي، مقتل الحسين عليه السلام : ج1، ص88.

[2] اُنظر: العصفري، خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط: ص133.

[3] الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص15.

[4] ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص18.

[5] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص381.

[6] عدّ بعض المفكرين مسألة استلام الحكم من دوافع وأهداف الثورة الحسينيّة، في معرض حديثه عن الأهداف والدوافع المتصوّرة وما هو الصحيح منها. اُنظر: الشاهرودي، محمود، محاضرات في الثورة الحسينيّة: ص50 وما بعدها.

[7] الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول: ص239.

[8] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329ـ330.

[9] المصدر السابق: ج44، ص340ـ341.

[10] المفيد، الإرشاد: ج2، ص70. اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ج3، ص167.

[11] ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص42.

[12] المفيد، الإرشاد: ج2، ص79.

[13] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص382.

[14] اُنظر: الشاهرودي، محمود، محاضرات في الثورة الحسينية: ص51ـ58.

[15] الشريف المرتضى، تنزيه الأنبياء: ص228ـ229.

[16] الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2، ص242.

[17] الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الأمالي: ص216.

[18] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص381.

[19] ابن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص170. الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص17.

[20] الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص19.

[21] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص331ـ332.

[22] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص157.