التفريط في الأهداف و المبادئ السياسية للنهضة الحسينية

قراءةٌ في الأسباب والمُبرّرات

 

كثيرة هي الغايات والأهداف والأسباب التي دعت الإمام الحسين عليه السلام  للقيام بوجه الطغاة والخروج على واقع المسلمين المنحدر والمتدهور آنذاك، وقد كُتبت جملة وافرة من البحوث والمقالات لإحصاء واستقصاء تلك الدوافع والغايات، واُحصيت في هذا المجال أهداف غيبية ورساليّة واجتماعيّة وسياسّية وغير ذلك.

لكننا نلمس في الوقت ذاته تفريطاً وإهمالاً واضحاً ـ عن قصد أو من دون قصد ـ في مجال دراسة وتحليل الدوافع السياسّية في المشروع الحسيني، فلا نرى الضوء مسلّطاً عليها في البحوث والدراسات العلمية والتخصّصية، مع أنها تشغل حيّزاً كبيراً في نصوص وتراث النهضة الحسينيّة.

والنقطة التي نهتمّ بدراستها في هذا المقال هي معرفة أسباب إهمال أو ضمور البحوث التحليليّة والكتابات العلميّة حول الدوافع السياسيّة في حركة الإمام الحسين عليه السلام ، وليس غرضنا ـ حاليّاً ـ الولوج مفصلاً في تحديد تلك الدوافع أو تفسيرها أو الاستدلال عليها، ولكننا مع ذلك سنعرض للقارئ الكريم في هذا المقال، لقطات سريعة وموجزة عن الأهداف والمبادئ الحسينيّة السياسيّة مع بعض شواهدها، لتشكيل صورة إجماليّة ننطلق من خلالها لمعرفة أسباب التغافل والإعراض عن الدراسات التحليليّة في هذا المجال.

الأهداف السياسيّة لنهضة الإمام الحسين عليه السلام :

الذي نعتقده ـ بنحو الإجمال ـ أن من الأهداف الأساسّية والمحوريّة لخروج الإمام الحسين عليه السلام  هي ما يلي:

أولاً: الإطاحة بالنظام الحاكم وإسقاط الحكومة الأمويّة الظالمة؛ لعدم شرعيتها، ولخروجها وانحرافها عن جادّة الدين القويم.

ثانياً: إعلاء معالم الدين، والتصدّي للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل في إطار التغيير والإصلاح الاجتماعي، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإجراء الحدود الإلهية، والالتزام بالقوانين والأحكام الشرعية.

ثالثاً: إقامة حكم الله في الأرض، وتشكيل حكومة الإسلام الشرعيّة بقيادة خليفة الله في خلقه، الواجد لجميع شرائط الإمامة والقيادة، وذلك ((بدافع من أداء المسؤولية المُلقاة على عاتق المعصومين عليهم السلام ))؛ لأن الخلافة واستلام الحكم والسطلة حقّهم المشروع، و((هو الطريق الشرعي بالنسبة للمعصوم لإقامة حكم الله في الأرض))[1].

هذه هي الأهداف السياسية الكبيرة والخطيرة والحسّاسة، التي كُتبت شعاراً بارزاً ونصّاً واضحاً على لوحات ولافتات النهضة الحسينيّة، وهي التي أثارت حفيظة الدولة الأموية وأقضّت مضاجع الساسة والحُكّام على مرّ الزمان.

وتندرج أيضاً تحت تلك الأهداف الكلّية أهداف سياسية ثانوية وتفصيلية، سنشير إلى أهمّها في ثنايا ما يأتي من بحوث وعناوين.

والشواهد والأدلة على تلك الأهداف السياسية كثيرة جدّاً، ذَكر جانباً منها بعض الباحثين[2]، ونستعرض فيما يلي بعضها بنحو الإجمال:

1ـ نصوص الإصلاح

لقد بيَّن الإمام الحسين عليه السلام  ـ في مطلع نهضته المباركة ـ أن من أهدافها إصلاح الأُمّة وتوعيتها، وإرجاعها إلى صوابها واستقامتها، بعد أن انحرفت وشطّ بها حُكّامها عن طريق الهداية، وكذا رفع الظلم والجور عنها، وإشاعة العدل والقسط فيها، وإلزامها بالحدود والأحكام والفرائض الإلهية.

وهذه كلّها مبادئ وأهداف سياسية، لا يمكن إنجازها والقيام بها من دون التصادم والمواجهة مع السلطات الحاكمة والظالمة آنذاك، ولا يمكن اختزالها بكونها أهدافاً اجتماعية ودينية فحسب.

والنصوص المُصرّحة بذلك كثيرة ومتنوّعة:

منها: شعار النهضة الخالد الذي رفعه الإمام عليه السلام  في منطلق نهضته، حينما قال: ((... وَأَنّي لَمْ أَخْرُجْ أشِراً وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي صلى الله عليه وآله، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأبي عَليِّ بْنِ أَبي طالِب عليهما السلام ، فَمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الحَقِّ فَاللهُ أَوْلى بِالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ، حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْني وَبَيْنَ القَومِ بِالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الحاكِمينَ))[3].

ولا شك أن من سيرتهما عليهما السلام  التصدّي للأُمور السياسية، وتشييد وبناء معالم الحكومة الإسلامية. كما أن الإصلاح في الأُمّة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل مطلق، لا يتيسّر من دون القيام بأعباء السلطة والحكم.

ومنها: ما روي عنه عليه السلام  أنه قال: ((اللّهُمَّ، إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ما كانَ مِنّا تَنافُساً في سُلْطان، وَلاَ الِتماساً مِنْ فُضُولِ الحُطامِ؛ وَلكِنْ لِنُرِيَ المَعالِمَ مِنْ دينِكَ، وَنُظْهِرَ الإصْلاحَ في بِلادِكَ، وَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبادِكَ، وَيُعْمَلَ بِفَرائِضِكَ وَسُنَنِكَ وَأَحْكامِكَ، فَإِنْ لَمْ تَنْصُرُونا وَتُنْصِفُونا قَوِيَ الظَّلَمَةُ عَلَيْكُمْ، وَعَمِلُوا في إِطْفاءَ نُورِ نَبِيِّكُمْ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْهِ أَنَبْنَا وَإِلَيْهِ المَصيرُ))[4].

يُعدّ هذا النص من غرر النصوص المنسوبة إليه عليه السلام ، وقد تضمّن مجموعة من الأهداف السياسية للنهضة المباركة، وهي:

أولاً: إن النهضة لم تكن من أجل التنافس الشخصي على السلطة والحكم، ولا لأجل نيل المنافع الدنيوية والفئوية الضيِّقة.

ثانياً: إن من أهداف النهضة إعلاء معالم الدين وشعائره.

ثالثاً: إظهار الإصلاح في البلاد.

رابعاً: محاربة الظلم ونصرة المظلومين.

خامساً: توجيه الأُمّة نحو الالتزام بالشريعة الإسلامية، والعمل بالفرائض والسنن والأحكام الإلهية.

سادساً: مطالبة الأُمَّة بالإنصاف من نفسها لنصرة أهل البيت عليهم السلام ، وشدّ أزرهم، وإضعاف جانب أعدائهم؛ لئلا يعمل الأعداء على إطفاء نور الله تعالى ونور نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله.

وهذه كلّها من أبرز المبادئ السياسية للنهضة، كما هو واضح.

2ـ إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة

لقد أرسل الإمام الحسين عليه السلام  إلى الكوفة ـ في أوائل أيام النهضة ـ ابن عمّه وثقته من أهل بيته مسلم بن عقيل، للتفاوض مع أهلها وأخذ البيعة منهم، حاملاً إليهم كتاب الحسين عليه السلام  الذي تضمّن كل مبادئ الثورة والتغيير السياسي والاجتماعي؛ حيث كتب فيه عليه السلام  إلى أهل الكوفة بعد مراسلتهم إياه: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، مِنَ حُسَيْنِ بْنِ عَليّ إِلىَ المَلأ مِنَ المُؤْمنينَ وَالمُسْلِمينَ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ هانِئاً وَسَعيداً قَدِما عَلَيَّ بِكُتُبِكُمْ ـ وَكانا آخِرَ مَنْ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ رُسُلِكُمْ ـ وَقَدْ فَهِمْتُ كُلَّ الَّذي اقْتَصَصْتُمْ وَذَكَرْتُم، وَمَقالَةَ جُلِّكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنا إِمامٌ فَأَقْبِلْ؛ لَعَلَّ الله أَنْ يَجْمَعَنا بِكَ عَلَى الهُدى وَالحَقِّ. وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ أَخي وَابْنَ عَمّي وَثِقَتي مِنْ أَهْلِ بَيْتي [مُسْلِمَ بْنَ عَقيل] وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيَّ بِحالِكُمْ وَأَمْرِكُمْ وَرَأيِكُمْ. فَإِنْ كَتَبَ إِلَيَّ: أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ، وَذَوِي الفَضْلِ وَالحِجى مِنْكُمْ، عَلى مِثْلِ ما قَدِمَتْ عَلَيَّ بِهِ رُسُلُكُمْ، وَقَرَأْتُ في كُتُبِكُمْ؛ أَقْدِمُ عَلَيْكُمْ وَشيكاً إِنْ شاءَ اللهُ، فَلَعَمْري، مَا الإْمامُ إِلاَّ العامِلُ بِالكِتابِ، وَالآخِذُ بِالقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالحابِسُ نَفْسَهُ عَلى ذاتِ اللهِ، وَالسَّلامُ))[5].

وقد أمره الإمام عليه السلام  ((بتقوى الله، وكتمان أمره واللطف))، وبعد أن نزل مسلم بن عقيل الكوفة، وقرأ على أهلها كتاب الحسين عليه السلام  وهم يبكون، بايعه ثمانية عشر ألفاً؛ ((فكتب مسلم إلى الحسين بن علي عليه السلام  يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً))[6]، ويحثُّه على القدوم.

ولا شك أن هذه كلها خطوات سياسية وعسكرية مهمّة لنيل السلطة وإقامة الحكم الإلهي بقيادة خليفة الله في الأرض.

وكتاب الإمام عليه السلام  واضح في أنه إنما أرسل مسلم بن عقيل لتلبية طلب أهل الكوفة، وأخذ البيعة منهم؛ ليكون خليفة هدًى لهم وإماماً عليهم، وقد أكّد عليه السلام  هذا المطلب الكوفي بقوله لاحقاً: ((مَا الإْمامُ إِلاَّ العامِلُ بِالكِتابِ، وَالآخِذُ بِالقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالحابِسُ نَفْسَهُ عَلى ذاتِ اللهِ))، ويتمثّل ذلك بشخصه المبارك؛ لأنه الإمام المعصوم، الحائز على جميع الكمالات، والعامل بكل تلك الأُمور.

وقد تضمّنت كتب أهل الكوفة ـ التي استجاب لها الإمام الحسين عليه السلام ـ ملامح الثورة والتغيير ولغة السلاح وعسكرة المجتمع للخروج بوجه النظام الأُموي الفاسد؛ حيث كتبوا إليه عليه السلام  بعد هلاك معاوية: ((الحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأُمَّة؛ فابتزَّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضًى منها ... إنه ليس علينا إمام، فأقبِلْ لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك أقبلت إلينا أخرجناه حتى نُلحِقه بالشام))[7]. وفي رسالة أُخرى كتبوا: ((فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك))[8]. وفي نص ثالث: ((فأقدِمْ على جند لك مجنّدة))[9].

ولا شك أن هذا التحرّك وحالة التجاوب الحسيني / الكوفي المتبادل، يُعدّ في لغة السياسة ـ بل أبجديّاتها ـ شروعاً في الانقلاب على السلطة الحاكمة؛ حيث تضمّنت خطوات ومشاهد ساخنة، وخطابات سياسية بالغة الخطورة وحساسّة للغاية، وقد سجّلها التاريخ وثيقة للثورة، وشاهداً كبيراً على الحركة السياسية الواسعة والأُسلوب العسكري المنظّم والمدروس في مفاصل وآفاق النهضة الحسينية.

3ـ أقوال الإمام الحسين عليه السلام وتصريحاته ومكاتباته ورسائله السياسية

لقد احتوت نصوص النهضة وتراثها أقوالاً للإمام عليه السلام ، وتصريحات ومكاتبات ورسائل سياسية مناهضة للحكم الأُموي الفاسد، وداعية الأُمّة لدعم ومساندة مشروع الخلافة والإمامة الإلهية، المتمثّل بشخصه المبارك. وهي كثيرة ومتنوّعة المضامين، وجديرة بالدراسة والتحقيق:

منها: رسائله عليه السلام  إلى أهل الكوفة

وهي رسائل عديدة، قد أشرنا إلى بعضها في نصّ سابق، ومن تلك الرسائل أيضاً ما كتبه عليه السلام  إلى أهل الكوفة، بعد أن حثّه مسلم بن عقيل على القدوم والمجيء إليها؛ حيث كتب فيها عليه السلام : ((أَمّا بَعْدُ، فَإنَّ كِتابَ مُسْلِمِ بْنِ عَقيل جاءَني يُخْبِرُني فيهِ بِحُسْنِ رَأْيِكُمْ، وَاجْتِماعِ مَلَئِكُمْ عَلى نَصْرِنا، وَالطَّلَبِ بِحَقِّنا، فَسَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الصُّنْعَ، وَأَنْ يُثيبَكُمْ عَلى ذلِكَ أَعْظَمَ الأجْرِ، وَقَدْ شَخَصْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَكَّةَ يَومَ الثُّلاثاءِ لِثمان مَضَيْنَ مِنْ ذِي الحَجَّةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَإِذا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَسُولي فَاكْمِشُوا[10] أَمْرَكُمْ وَجِدُّوا؛ فَإِنّي قادِمٌ عَلَيْكُمْ في أَيّامي هذِهِ إِنْ شاءَ اللهُ))[11].

فالإمام عليه السلام  بكتابه هذا قد حيّى في أهل الكوفة حسن رأيهم واجتماع سادتهم وكبرائهم على نصرة أهل البيت عليهم السلام ، والمطالبة بحقّهم الشرعي في الخلافة الإلهية وقيادة الأُمَّة وإدارة شؤونها بالقسط والعدل والمساواة.

ثم حثّهم عليه السلام  أيضاً على أن يُهيّئوا الأرضية الصالحة والظروف المناسبة لذلك التحرّك، وأن يمضوا في أمرهم هذا، ويُسرعوا في إتمامه وإنجازه بعزم وجدّ واجتهاد، وأخبرهم بأنه سيُلبّي دعوتهم، وأنه قادم إليهم في الأيام القليلة المقبلة.

وما نفهمه من هذا النص هو أن الإمام عليه السلام  يستنهض أهل الكوفة، ويُشجّعهم ويحثّهم على الشروع في تنظيم وتشكيل معالم الحكومة المقبلة، وأن يمضوا في أمرهم بعزم، وأمرهم هو ـ كما تقدّم ـ عبارة عن طرد واليَ الكوفة وحاكمها من قِبَل الأُمويين النعمان بن بشير والبيعة له عليه السلام  حاكماً وإماماً وقائداً لحركتهم ومسيرتهم، وتشكيل قوّة عسكرية وجنود مجنّدة لمواجهة قادة الشام وجيوشها.

وهذا يكشف عن طبيعة التحرّك السياسي المنظّم الذي بدأه الإمام عليه السلام  مع أهل الكوفة، والذي اتسع وظهر حتى بلغ صداه الشام.

ومنها: مكاتباته عليه السلام  إلى أشراف البصرة ووجهائها

بعث الإمام عليه السلام  في إطار حركته ونهضته مجموعة من الكتب إلى أشراف البصرة ووجهائها، يحثّهم على طاعته وامتثال أوامره؛ حيث كتب فيها: ((وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلى كِتابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وآله؛ فَاِنَّ السُنَّةَ قَدْ أُميتَتْ، وَإِنَّ البِدْعَةَ قَدْ أُحيِيَتْ، وَإِنْ تَسْمَعُوا قَوْلي وَتُطيعُوا أَمْري أَهْدِكُمْ سَبيلَ الرَّشادِ))[12].

وهذه دعوة صريحة منه عليه السلام  إلى إطاعة أوامره، والعمل على إقامة حكم الله في الأرض، في ضوء الكتاب والسنَّة، بقيادة الخليفة الشرعي المنصوب من قِبَل الله تعالى.

وهذا ما فهمه يزيد بن مسعود النهشلي حينما قرأ كتاب الإمام الحسين عليه السلام ؛ فخاطب قومه قائلاً: ((وهذا الحسين بن عليّ، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا يُنزف، وهو أوْلى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه وقِدَمِه وقرابته، يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير؛ فأكرمْ به راعي رعيَّة، وإمام قوم وجبت للّه به الحجّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل؛ فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله ونصرته، والله، لا يقصّر أحد عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا ذا قد لبست للحرب لامَتَها، وادّرعت لها بدرعها، مَن لم يُقتل يمت، ومَن يهرب لم يفت، فأحسنوا ـ رحمكم الله ـ ردّ الجواب))[13].

ومن كلامه هذا نفهم بوضوح أن الكتاب الذي بعثه الإمام عليه السلام  إلى أهل البصرة، كان يدعوهم فيه إلى نصرة ولي الأمر، والدفاع عن حريم الإمامة الإلهية، وإقامة حكم الله في الأرض بقيادته عليه السلام ؛ لأنه الأحقّ والأجدر بذلك.

ثمّ كتب النهشلي إلى الإمام الحسين عليه السلام  في جواب كتابه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له، من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرض قطّ من عامل عليها بخير، أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها، وأنتم فرعها، فأقْدِمْ سعدت بأسعد طائر؛ فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم...))[14].

إن هذا الكلام من النهشلي يكشف عن أفقه الواسع، وقراءته السياسية الدقيقة للأحداث، وفهمه العميق لمضامين الكتاب الذي بعثه له الإمام الحسين عليه السلام ؛ حيث فهم منه وجوب البيعة والطاعة والنصرة لحجة الله على خلقه؛ فأبدى استعداده لذلك، وهيّأ الناس وجيّش الجيوش، ثم دعا الإمام عليه السلام  للقدوم وتولّي الأمر.

ومنها: أقواله وأحاديثه  عليه السلام  في طريقه إلى الكوفة

وهي كثيرة جدّاً، نذكر منها للاستشهاد على سبيل الإيجاز:

قوله عليه السلام  لعبد الله بن مطيع العدوي حينما سأله عن سبب قدومه إلى الكوفة: ((إِنَّ أَهْلَ الكُوفَةِ كَتَبُوا إِلَيَّ يَسْأَلُونَني أَنْ أَقْدِمَ عَلَيْهِمْ؛ لِما رَجَوا مِنْ إِحْياءِ مَعالِمِ الحَقِّ وَإِماتَةِ البِدَعِ))[15].

وهذا النص صريح أيضاً في كون تولّي الخلافة والقيادة لإدارة شؤون البلاد، وإحياء معالم الحقّ فيها، والقضاء على الباطل وإماتة البدع، من أهم الأهداف التي دعت الإمام عليه السلام  للقيام بنهضته الإصلاحية.

ومن ذلك أيضاً قوله عليه السلام  مخاطباً جيش الحرّ بن يزيد الرياحي: ((أَمّا بَعْدُ: أَيُّهَا النّاسُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا وَتَعْرِفُوا الحَقَّ لأِهْلِهِ يَكُنْ أَرْضى لِلهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ البَيْتِ وَأَوْلى بِوِلايَةِ هذَا الأْمْرِ عَلَيْكُمْ مِنْ هؤُلاءِ المُدَّعينَ ما لَيْسَ لَهُمْ، وَالسّائِرينَ فيكُمْ بِالجَوْرِ وَالعُدْوانِ))[16].

وخاطبهم أيضاً قائلاً: ((أَلا وَإِنَّ هؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأَظْهَرُوا الفَسادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالفَيءِ، وَأَحَلّوُا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ. قَدْ أَتَتْني كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لا تُسْلِمُوني وَلا تَخْذُلُوني؛ فَإِنْ تَمَّمْتُمْ عَلىِّ بَيْعَتَكُمْ تُصيبُوا رُشْدَكُمْ، فَأَنَا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله، نَفْسي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلي مَعْ أَهْليكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتي مِنْ أَعْناقِكُمْ، فَلَعَمْري، ما هِيَ لَكُمْ بِنُكْر))[17].

وفي نص آخر: ((وَأَنَا أَحَقُّ مِنْ غَيْري بِهذاَ الأْمْرِ؛ لِقَرابَتي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله))[18].

إن هذه النصوص الشريفة قد استوعبت مجموعة من المبادئ والأهداف السياسية المهمّة، التي ابتنت عليها النهضة الحسينية المباركة، نؤشّر فيما يلي بعضها بنحو الإجمال:

1ـ إن أهل البيت عليهم السلام  هم الأحقّ والأوْلى بالخلافة والولاية على الناس من ولاة الجور الحاليين، وهم بنو أُميّة وولاتهم.

2ـ وجوب معرفة هذا الحق، والدفاع عنه، وانتزاعه من أيدي الطغاة، والعمل على وضعه في أهله ومحلّه، وهم أهل البيت عليهم السلام .

3ـ إن الإمام الحسين عليه السلام  هو الأحقّ بالعمل على تغيير الحكم، وإقامة الحكومة الإلهية العادلة، ورفع الظلم والجور والفساد، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإجراء الحدود والأحكام الشرعية، وتحسين الظروف المعيشية والاقتصادية، بتقسيم الفيء والموازنة المالية بالقسط بين الناس.

4ـ تذكير أهل الكوفة بكتبهم، وبيعتهم له عليه السلام ، وحثّهم على الاستمرار والثبات عليها، وأن في ذلك رشدهم وصلاح أمرهم، كما حذّرهم أيضاً من نقض البيعة والتنصّل عنها.

5ـ إن الخلافة القائمة المتمثّلة بيزيد بن معاوية، ليست شرعية، وهي خلافة جور وعدوان، ينبغي الخروج عليها لإسقاطها.

إن هذه الأُمور وغيرها كلّها أُسس ومبادئ مهمّة ساهمت في رسم خارطة التغيير السياسي آنذاك؛ ينبغي بحثها ودراستها والتدقيق فيها.

ومنها: أقواله وأحاديثه عليه السلام  في كربلاء

وهي أقوال وأحاديث كثيرة أيضاً، من جملتها قوله عليه السلام  لعمر بن سعد، قائد الجيش الأُموي: ((فاتْرُك هؤُلاءِ وَكُنْ مَعي؛ فَإِنَّي أقْرّبُك إلى اللهِ عزّ وجلّ))[19]. وكان ذلك في إطار التفاوض مع ابن سعد؛ لكي يثنيه عن الحرب والقتال، بل يدعوه هو وجيشه ـ كما في بعض النصوص اللاحقةـ للانضواء تحت راية الإصلاح الحسينية.

ولك أن تتصور النتائج وما سيحدث لو أن ذلك الجيش الكبير بقادته وجنوده قد سمع الموعظة، وعاد إلى رُشده وصوابه، وانضمّ إلى حركة الإمام الحسين ونهضته!

ومن ذلك أيضاً قوله عليه السلام  لجيش عمر بن سعد: ((وَاللهِ، ما أَتَيْتُكُمْ حَتّى أتَتْني كُتُبُ أَماثِلِكُمْ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ أُميتَتْ، وَالنِّفاقَ قَدْ نَجِمَ، وَالحُدُودَ قَدْ عُطِّلَتْ؛ فَأَقْدِمْ لَعَلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِكَ الأُمَّةَ))[20].

إذن؛ بموجب هذا النص يكون الحسين عليه السلام  قد خرج لإقامة حكم الله في الأرض، وقيادة الأُمَّة الإسلامية إلى ما فيه رشدها وصلاحها.

وكذا قوله عليه السلام لهم: ((تَبّاً لَكُمْ أَيَتُهَا الجَماعَةُ وَتَرْحاً وَبُؤُساً لَكُمْ! حينَ اسْتَصْرَخْتُمُونا وَلهينَ، فَأَصْرَخْناكُمْ مُوْجِفينَ، فَشَحِذْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً كانَ في أَيْدينا، وَحَمَشْتُمْ عَلَيْنا ناراً أَضْرَمْناها عَلى عَدُوِّكُمْ وَعَدُوِّنا، فَأَصْبَحْتُمْ إِلْباً عَلى أَوْلِيائِكُمْ))[21].

هذه المواقف والنصوص المتضافرة وغيرها الكثير، قد صدرت كلّها في إطار البُعد السياسي للنهضة، وهي تكشف بوضوح عن كون الأهداف السياسية من أهم الدوافع التي دعت الإمام الحسين عليه السلام  لأن يخرج وينتفض بوجه الطغاة من بني أُميَّة وأعوانهم.

ونحن من هذا المنبر المبارك ندعوا العلماء والكتَّاب والباحثين والمفكّرين للتوجّه إلى هذا التراث الشريف، والنظر إليه بجدّية وموضوعية، والعمل على جمعه وتنظيمه وفهرسته ودراسته والتدقيق في مضامينه ومحتوياته، للخروج بأبحاث ونتائج وتوصيات تُناسب تراث تلك النهضة المباركة، وترسم لنا خارطة طريق في سبيل الثورة والتغيير والانقلاب على الحكومات الفاسدة والظالمة. خصوصاً ونحن اليوم بحاجة ماسّة إلى مثل هذا التراث، لما نعيشه من متغيرات وتحوّلات سياسية في أغلب البلدان العربية والإسلامية.

وأما البحث في علل وأسباب الإهمال والإعراض عن مثل هذا التراث الحسيني، المرتبط بالدوافع والأهداف السياسية للنهضة الحسينية، وضمور البحوث العلمية والتحليلية في هذا المجال، فقد كان هو الباعث الأساس لكتابة هذا المقال، وسنترك الحديث عنه إلى عدد مقبل من أعداد هذه المجلّة المباركة.

 

الكاتب: الشيخ قيصر التميمي

مجلّة الإصلاح الحسيني – العدد الثالث

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

1] السَّيِّد محمود الهاشمي، الثَّورة الحسينيَّة دراسة في الأهداف والدوافع، مجلة المنهاج، السنة الثامنة، ربيع 1424هـ ـ 2003م.

[2] المصدر السابق.

[3] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[4] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: ص239.

[5] الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص262.

[6] الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص173.

[7] المفيد، الإرشاد: ج2، ص37.

[8] الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص173.

[9] المصدر السابق.

[10] كمش: أسرع ومضى في أمره بعزم. اُنظر: الجوهري، الصحاح: ج3، ص1018.

[11] الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص297.

[12] المصدر السابق: ج4 ص266.

[13] ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص27.

[14] المصدر السابق: ص27ـ 28.

[15] الدينوري، الأخبار الطوال: ص246.

[16] الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص303.

[17] المصدر السابق: ج4، ص304.

[18] ابن أعثم الكوفي، الفتوح: ج5، ص81 ـ82.

[19] المصدر السابق: ج5، ص92.

[20] الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج3، ص301.

[21] الطبرسي، الاحتجاج: ج2، ص24.