قال ممثل المرجعية الدينية العليا، والمتولي الشرعي لحرم أبي الفضل العباس، عليه السلام، السيد أحمد الصافي، "إن الإنسان يحتاج إلى عقيدة قبل أن يعمل" مؤكداً أنه "إذا كان يعمل بلا عقيدة فلا قيمة لعمله".
وأضاف خلال خطبته الأولى من صلاة اليوم الجمعة، أن الإنسان إذا لم يتعلّم لا يُمكن أن يعمل أعمالاً موافقة لما أراده الله تبارك وتعالى.
وفي مورد شرحه لقول الإمام زين العابدين، عليه السلام، في حد أدعيته {اللهم اني أعتذر اليك من جهلي} قال ممثل المرجعية إن "الجهل نوعٌ من أنواع الذنب لأن الإنسان ارتكب الذنب بحماقةٍ ومخاطرة وعدم الاكتراث لما ينتظرنه من عاقبة".
وفي ما يلي النص الكامل للخطبة الأولى من صلاة يوم الجمعة بإمامة السيد أحمد الصافي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، اللهم لك الحمدُ بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام، ربّ الأرباب وإله كلّ مألوه، وخالق كلّ مخلوق، ووارث كلّ شيء، ليس كمثله شيء.
إخوتي أبنائي آبائي وفّقكم الله تعالى لمراضيه وسدّدكم للعمل بكتابه وسنّة رسوله وأوليائه، أخواتي بناتي أمّهاتي ألبسكنّ الله لباس العفّة والحياء وأغدق عليكنّ من نِعَمه التي لا تُحصى، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
أوصيكم أحبّتي ونفسي الآثمة بتقوى الله تبارك وتعالى في اللّيل والنهار، والخوف منه والرجاء الى ما عنده من الخير والبركات، وجعل أيّامنا كلّها في طاعته وأعاننا على أنفسنا كما أعان الصالحين على أنفسهم، بدءً أسعد الله أيّامكم وطيّب أعمالكم ورفع شأنكم، سائلين الله تعالى بمنّه أن يرفع الغمّة عن هذه الأمّة وأن ينتصر لشعبنا المظلوم، وأن يُبعد عنّا شرور الأشرار..
كنّا في خدمة الإمام السجّاد (صلوات الله وسلامه عليه) وهو يستعرض لنا حال التائب، كما تقدّم فيما مضى مفصّلاً في بعض فقرات الدعاء الشريف، ولا يخفى على حضراتكم أنّ تجديد التوبة من أفضل القُرُبات، وهي أنّ الإنسان دائماً في العلاقة بينه وبين الله تبارك وتعالى يُشعر نفسه تقوى الله تعالى والحاجة اليه والإنابة اليه، وتارةً يُبرز ذلك على شكل قول وأخرى يُبرزه على شكل عمل، تجديد التوبة وطلب الاستغفار أو الغفران من الله تبارك وتعالى هو من أفضل القربات، وقد مدح الله تبارك وتعالى بعض أوليائه وأنبيائه بأنّه (أوّاب) أي كثير الأوبة وكثير الإنابة وكثير الرجوع اليه تبارك وتعالى، وقد ورد في جملة من الأدعية الطلب من الله تعالى أن لا يكلنا الى أنفسنا طرفة عين أبداً، ومعنى ذلك أنّ هناك التفاتةً من الإنسان الى الله تبارك وتعالى وحاجته الى الله دائماً، فلا يُمكن أن يتصوَّر الإنسان فضلاً عن أن يعيش هذا الواقع أنّه في غنىً عن الله -والعياذ بالله- وإنّما حاجتنا الى الله تعالى حاجةٌ دائمة وحاجةٌ فطريّةٌ، مقتضاها أن نكون محتاجين اليه تبارك وتعالى، ولذلك -واقعاً- تتضمّن هذه الأدعية مضامين دقيقة وتؤثّر على أعمالنا حتى في العبادات، تعرفون أنّ مسألة العقائد ومسألة العقيدة تؤثّر على العمل، والإنسان إذا كان يعمل بلا عقيدة فلا قيمة لعمله، وكلّما كانت عقيدة الإنسان راسخة وقويّة ويستشعر ذلك كان أثر ذلك على عبادته أكثر، الإنسان عندما يُخاطب ربّه في صلاته ويقرأ (الحمد) وكلّ المسلمين يقرأون في الصلاة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لكن واقعاً ماذا تؤثّر هذه على سلوكيّات الجميع؟ قطعاً الأثر مختلف بحسب ارتكاز هذه المسألة في الأذهان ورسوخ هذه العقيدة قطعاً يؤثّر، هذه المضامين من الأئمّة الأطهار(سلام الله عليهم) هي ترسيخ لهذه القضية ألا وهي حاجة العبد الى الله تعالى، فالتوبة وتجديد التوبة والإنابة الى الله تعالى من ثمارها غير مسألة غفران الذنب –مثلاً- أو مسألة التجاوز عن الخطيئة، لا.. المسألة بنفسها تركّز على مسألة الحاجة الى الله تبارك وتعالى وتجعل الإنسان متواضعاً دائماً مستشعراً هذه الحاجة.
مرّ عندنا في هذه الأدعية الشريفة ما يتعلّق بمنهجيّة التائب، ماذا عليه أن يصنع مع الله تبارك وتعالى بعد أن اعترف بذنبه؟ الآن الإمام (عليه السلام) ينتقل معنا أو ننتقل معه الى فقراتٍ أخرى، قلنا سابقاً فيما يتعلّق بالتوبة والنيّة الحقيقيّة للتوبة وعدم جعل هذه التوبة عبارة عن لقلقة لسان لا قيمة لها، فقال (عليه السلام): (أَللّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ تَابَ إِلَيْكَ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ فَاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ، وَعَائِدٌ فِي ذَنْبِهِ وَخَطِيْئَتِهِ، فَإِنِّي أَعوُذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ كَذٰلِكَ...) وقد تقدّم الحديث عنه، الآن المقطع الجديد المتمّم هو (أَلّلهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ جَهْلِي، وَأسْتَوْهِبُكَ سُوءَ فِعْلِي، فَٱضْمُمْنِي إِلَىٰ كَنَفِ رَحْمَتِكَ تَطَوُّلاً، وَٱسْتُرْنِي بِسِتْرِ عَافِيَتِكَ تَفَضُّلاً...) وردت مجموعةٌ من المضامين في هذا المقطع من الدعاء الشريف، لاحظوا الإمام (عليه السلام) يقول: (اللهم إنّي أعتذر اليك من جهلي) قطعاً الإنسان عندما يعتذر لابُدّ أن يكون قد صدر منه عملٌ معيّن وهذا العمل المعيّن منافٍ لمن يريد أن يعتذر منه، مثلاً الآن فلانٌ استأجر فلاناً على أن يبني له حائطاً مستقيماً فلم يبنِهِ بالشكل الجيّد خلاف الشرط فيحاول أن يعتذر منه، لأنّك طلبت منّي شيئاً لم أفِ به، فعندما أعتذر لابُدّ أنّي قد فعلتُ فعلاً لا يُناسب الجهة التي أريد الاعتذار منها، الإمام (عليه السلام) يُبيّن الجهة التي نعتذر منها (اللهم إنّي أعتذر اليك..) فأوضح أنّ الجهة التي نعتذر منها أو نعتذر اليها هي الله تعالى، -المُعتَذِر اسم الفاعل للذي يطلب الاعتذار وهو أنا-، لكن ما هو الشيء الذي ارتكبتُهُ حتّى أعتذر منه؟ تارةً أقول: "اللهم إنّي أعتذر اليك من ذنبي" أو "اللهم إنّي أعتذر اليك من تجاوزي"، واضحٌ أنّ عندي ذنباً ومعنى الذنب أنّني خرجت عن رسم العبودية، الله تعالى أراد منّي أن ألزم الجادّة الوسطى لكنّني انحرفت يميناً أو شمالاً فإنّي أعتذر لأنّه أصبح عندي تجاوز، وهذا التجاوز أنا غير مرخّص به فأعتذر، وهنا يقول (اللهم إنّي أعتذر اليك من جهلي)، -أرجو الالتفات الى هذه النكتة- قطعاً الجهل في مقابله العلم، الإنسان الجاهل يقابله الإنسان العالم، من خلال ما قرأنا ومن خلال ما رأينا يبدو أنّ هذا الإنسان الذي يطلب التوبة من الله لم يكن جاهلاً، بمعنى أنّه يعلم أنّ هذه إساءة وإلّا كيف يطلب الاعتذار من الجهل!!! طبعاً الجهل يُراد منه ما ذكرناه ويُراد منه المعنى الآخر ولعلّ هذا المعنى هو المراد، (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ...) كما في الآية الشريفة، الله تعالى يجعل التوبة للّذين يعملون السوء قال (بجهالة)، هذه الجهالة إخواني نتعامل معها وفق الآتي، كما في مضامين الأدعية وكما ورد أنّ الإنسان يُخاطر بارتكاب الذنب جهلاً بالعاقبة، لا المقصود أنّه لا يعلم العاقبة وإنّما هذه مجاهرته بالذنب ومجازفته بالذنب كأنّ هذا العلم الذي عنده لا يؤثّر فيه، فهو يجهل ما سيقع عليه من العقوبة، لا نقصد بالجهل هنا أنّه لا يعلم العقوبة، وإنّما الذنب الشهوات الموبقات قد غرّته وأصبح في حالةٍ لا يلتفت الى جزاء العمل، هذا المقدار يعبّر عنه (بالجهالة) وهو ليس بجاهل في الحقيقة، ولكن الجهالة عندما لا يستخدم ما علمه في عمله، ولذلك في هذا المقدار نعم.. الإنسان ملتفت عندما يرتكب المعصية أنْ ما هي عاقبة هذا الأمر، لكنّه عندما يُقحم نفسه ويُخاطر بمعصية الله تبارك وتعالى كأنّه لم يعلم، قطعاً أنّ هذه المسألة نوعٌ من أنواع التجرّؤ على الله تبارك وتعالى، أنت جاهل بمعنى لستُ قاصداً أنّك غير عالم بل أنت جاهل بمعنى أنّك أقحمت نفسك في مورد وأنت تعلم سوء العاقبة التي سترتكبها، وكأنّ هذا العلم الذي عندك لا قيمة له، وواقعاً علم الإنسان ينفعه في مورد الحاجة.
الإمام (عليه السلام) يقول (اللهم اني أعتذر اليك من جهلي)، -لاحظوا- هذا الجهل نوعٌ من أنواع الذنب لأنّني أعلم لكنّني ارتكبتُ الذنب بحماقةٍ ومخاطرة وعدم الاكتراث لما ينتظرني من عاقبة، ولا شكّ أنّ الإنسان يعتذر عن هذا، نعم.. الجهل الآخر في مقابل العلم على الإنسان الذي يلتفت الى نفسه أنّه جاهل -المعبَّر عنه في بعض العلوم بالجهل البسيط- أن يتعلّم، وعليه أن يسدّ هذا النقص فالجهل نوعٌ من أنواع النقص وعليه أن يسدّ هذا النقص بماذا؟ يسدّه بالعلم. ولذلك الإنسان إذا لم يتعلّم لا يُمكن أن يعمل أعمالاً موافقة لما أراده الله تبارك وتعالى، إذن (اللهم إنّي أعتذر اليك من جهلي وأستوهبك سوء فعلي) لاحظوا إخواني من جملة أسماء الله تعالى هو الوهّاب أو الواهب، فالله تعالى هو الوهّاب وأنا أريد كداعٍ أن أُناجي ربّي باسمٍ من أسمائه ألا وهو الوهّاب، فماذا أطلب منه وهو الوهّاب؟ لاحظوا المناسبة التي نحن فيها هي مناسبة التوبة من ذنب، وهذا الدّعاء مكرّس لهذه المسألة مسألة التوبة، فماذا أطلب منه؟ قطعاً الله تعالى بيده جميع أسباب الخير ففي يده المال وفي يده النعم والدنيا وكلّ شيء، لكن المناسبة التي وقفتُ بها هنا لأن أطلب منه وهو الوهّاب ماذا أطلب منه؟ لاحظوا العبارة (إنّي أستوهبك) يعني أطلب منك أن تهبَ لي، كما تقول لأحدٍ ما: إنّي أستوهبك هذا الخاتم أي هبني هذا الخاتم، أستوهبك هذا الثوب أي هبني هذا الثوب أو أعطِني إيّاه بلا مُقابل، إنّي أريد منك هذا بلا مقابل، فقوله: (وأستوهبك) أي أطلب منك أن تهبَني بلا أيّ مقابل، ماذا يهبني الله تعالى وأنا في مورد الحاجة الى هبته؟؟ قال: (وأستوهبك سوء فعلي)، كيف نستوهب سوءَ الفعل؟ قطعاً الفعل السيّئ تترتّب عليه آثار، وهذا الأثر ما هو؟ هناك أثرٌ فيه عقوبةٌ يوم القيامة وفيه آثارٌ وضعيّة في الدنيا، بالنتيجة هذا الفعل فعلٌ سيّئ، لاحظوا النكتة والدقّة في كلمات الأئمّة الأطهار(صلوات الله وسلامه عليهم)، الإمام(عليه السلام) لم يقل: اللهم إنّي أستوهبك آثار الفعل وهبني هذه الآثار أي لا تعاقبني، وإنّما قال: أستوهبك سوءَ الفعل، بمعنى هذا الفعل كأنّه لم يكن، على الرغم من أنّه عندك وسُجّل وثبّته الحَفَظة وأنت عالمٌ به فأصبح الآن شيئاً عندك أنت تملكه، هو فعلي لكن أنت تملكه بمعنى تملك الآثار والجزاءات المترتّبة عليه، اللهم إنّي أستوهبك ذلك أي هبني هذا وكأنّي لم أفعل، لاحظوا رحمة الله تبارك وتعالى، الله غفور رحيم ورحمته أوسعُ ممّا نتصوّر وأكبرُ، وورد في الدعاء (اللهمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء) واقعاً لا توجد عبارة أخرى تعبّر عن هذه السعة غير كلّ شيء، الإنسان يستوهب سوءَ الفعل من الله تعالى وكأنّ هذا الفعل لم يكن أصلاً، لا أنّه يُسجّل ثمّ يترتّب عليه أثر وهذا الأثر فقط يوهب، الإمام أراد مرتبةً أعلى من ذلك بحسب ظاهر اللّفظ (وأستوهبك سوء فعلي) أي أنّ هذا الفعل كلّه هبني إيّاه يا إلهي وكأنّ هذا الفعل لم يصدر منّي أصلاً، ومرّ علينا سابقاً أنّ الله تعالى عندما يعفو هناك مراتب للعفو والمنّة والتفضّل تختلف، قرأنا في بعض الروايات أنّ الله تعالى يأمر الأرض أن تنسى هذا الفعل الذي ارتُكِب على ظهرِها، ويأمر الملائكة أن ينسوا هذا الفعل، وتارةً لا.. الله تعالى يمحو الذنب رغم بقائه لكن هناك عفوٌ من الله تعالى، فأنت مذنب لكنّ الله تعالى عفا عنك.
ولذلك إخواني إنّ الله تعالى أوعَدَ ووَعَدَ بمعنى عنده وعدٌ وعنده وعيد، الله يلتزم بوعده كجزءٍ من الرحمة، الله وعدنا على أفعال بجزاءات طيّبة لأفعالٍ خاصّة يلتزم بها، لكن الله تعالى قد لا يلتزم بوعيده رأفةً منه علينا وبنا، الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) أعطونا نوعاً من الأدب مع الله تعالى، الله تعالى من صفاته العدل وقطعاً لا يُمكن أن يظلم عباده وإنّما يحتاج الى الظلم الضعيف، لكن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) علّمونا فيما ورد قالوا: عندما تدعون لا تقولوا اللهم عاملنا بعدلك، هذا أمرٌ صعب لا نستطيع أن نفي به، الله يغلبنا إنْ عامَلَنا بعدله وتكون الحجّة له علينا مع أنّه عادل، ولكن قولوا اللهمّ عاملنا برحمتك اللهم عاملنا بعفوك، العبد أمام سيّده لابُدّ أن يعترف لابُدّ أن يتملّق اليه تملّق الضعيف إزاء القويّ، الله تعالى إنْ عامَلَنا بعدله سنكون من الخاسرين، الله يحتجّ علينا (ولله الحُجّةُ البالغة) نعم.. أنت مذنب أنت ارتكبت ذنباً أنت وأنت، وتستحقّ عليه العقاب لكن الله تعالى لسعة هذه الرحمة يعفو ويتجاوز، لذا إخواني لاحظوا طريقة التناغم ما بين المذنب وما بين الله تعالى، (وأستوهبك) أي هبني هذا بلا مقابل، ما هو المقابل؟ المقابل فقط لأنّك أنت الله فإنّك تهب لأنّك أنت الله فإنّك تعفو فنعم الربُّ ربُّنا، الله تعالى يهب والله يرحم والله يرأف والله يُعطي، ولذلك إخواني حينما قلنا في البدء هذا تثبيتٌ لمسألة العقيدة، وأنّ الإنسان لابُدّ له عندما يدعو أن يعرف مَنْ يدعو وكيف يدعو، ثمّ يقول الإمام: (...فاضممني الى كنف رحمتك تطوّلاً...) لاحظوا لا باستحقاق بل تطوّلاً ومنّةً منك وتفضّلاً وإحساناً، هذا هو الذي يدعوني أن أطلب أين يضمّنا الله تعالى؟ قال: (فاضممني الى كنف رحمتك) أي الى ركنٍ الى مسندٍ الى جانب هذا الكنف هو الرحمة، أي لا تجعلني في جانبٍ آخر فالرحمة هي مورد الحاجة، وهذا شيء نتعلّمه إخواني في الدنيا والآخرة، (يا أرحم الراحمين) لاحظوا عندما نقرأ القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة أوّل آية تبادرنا (بسم الله الرحمن الرحيم) ما هي صفات الله؟ صفات الله تبارك وتعالى كثيرة لكن هذه البدأة والرحمة لابُدّ أن نستغلّها، أنتم تعرفون إخواني ما هو الأمل الذي يكون للمذنب إذا استشعر رحمة الله تعالى؟ هذا الأمل الذي يُزرع في النفس فيه لذّة، وهي أنّ الإنسان يأمل ويرجو أن يدخل في رحمة الله، وإلّا كان من حقّ الله علينا أنّ أيّاً منّا في أيّ ذنبٍ بعد أن يبلغ الحلم ويصدر منه ذنب يكافئه الله تعالى فوراً لما ترك على ظهرها من أحد، لكن هذه الرحمة وهذه الشفقة لابُدّ أن نستغلّها نحن نتذرّع الى الله تعالى إخواني، في الذهن يبقى هذا المعنى وفي النفس وفي العمل أنّ الإنسان دائماً ينادي: يا رحمة الله الواسعة، ولذلك الذي يقرأ القرآن ويتأمّل لاحظوا المناسبات التي يعرّج فيها القرآن الكريم لكي يعلّمنا ويبصّرنا (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) بمعنى أنّ الله تعالى بمقتضى هذه الرحمة أرسل النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، من رحمته أن يرسل الأنبياء من رحمته أن يبعث الرسل وهذه كلّها رحمة، ولذلك إخواني الإنسان عندما يتأمّل لابُدّ أن يعتقد بداخله اعتقاداً أنّ هذه الرحمة هي رحمةٌ واسعة، ومهما يتصوّر فإنّ هذه الرحمة أوسع وأكبر ممّا يتصوّر، ولذلك الإمام(عليه السلام) يقول: (فاضممني) وهذا الضمّ معناه لا تجعلني بعيداً عن الحلقة وعن الجماعة، (اضممني الى كنف رحمتك) أي اجعلني دائماً أستشعر وأدخل في هذا الجانب وهو الرحمة، لكن لا لاستحقاقي وإنّما تطوّلاً والتطوّل هو عبارة عن المنّ والطّوْل والنعمة ابتداءً والعطاء، كلّ ذلك يدخل تحت عنوان التطوّل، ثمّ قال (واسترني بستر عافيتك تفضّلاً) الستر هو غطاء وحاجب، والله تعالى يستر ولا يفضح كما ورد في الدعاء (يا من أظهر الجميل وستر القبيح) والستر جزء من الرحمة، لماذا يفعل الله ذلك؟ هل يخاف من أحد؟!!! هل يخاف الله منّا أن يُظهر القبيح؟!!! أم أنّ ذلك من صفاته أن يستر على العبد ولا يفضحه؟!!! ولذلك نحن لابُدّ أن نتأدّب بآداب الله تعالى، كم منّا له هناة مع الله تعالى؟ كم منّا له ذنبٌ مع الله تبارك وتعالى والله تعالى قد ستر عليه؟ في بعض الأدعية التي مرّت علينا ورد ما معناه أنّ الله تعالى ستر علينا ذنوباً في الدنيا نحن أحوج أن يسترها علينا في الآخرة، لكن الذي يُطمئن الإنسان هو أنّ الربّ واحد وهو ربّ الدنيا وربّ الآخرة والذي يستر في الدنيا يستر في الآخرة، فلابُدّ للإنسان أن يعتقد –إخواني- بهذه العقيدة فهذه العقيدة تؤثّر على العمل وتؤثّر على التصرّف، الإنسان عندما يسمع كلمةً على فلان يستأنس أن يتكلّم بالسوء على أخيه، لكن عندما يتذكّر كيف أنّه يطلب من الله تعالى أن يستر عليه وهو لا يستر على أخيه، يُبتلى الإنسان أنّه يطّلع على سيّئات الناس بقصدٍ أو بغير قصد، هذا ابتلاء فماذا يفعل؟ نحوٌ من الاختبار للإنسان، عندما يرى سيّئةً عندما يرى عورةً عندما يرى ذنباً عندما يرى ما يؤثّر في أخيه، ماذا يفعل؟ لابُدّ أن يستر، فهذا من صفات الله تعالى والله أدّبنا، أنت تريد أن يستر الله تعالى عليك ولا يفضحك أمام أحد وأنت لا تستر على الناس، وأنت إذا ابتُليت بشيءٍ اطّلعتَ عليه تحاول أن تهرّج به وتحاول أن تجعله فاكهةً لك وتجعله مادّةً لك حتّى تسيء الى الناس، ثم تكتشف أنّ هذا الفعل أصلاً ليس له واقع فكيف النجاة يوم القيامة؟ وأنت تقول (يا ستّار) وتطلب من الله تعالى أن يستر عليك، قطعاً هذه الازدواجية معنى ذلك أنّه خلل في التربية وأنّنا لم نتربَّ كما أراد الله تعالى، الإمام(عليه السلام) لا يفعل ذلك، أحد العلماء المعاصرين -أمدّ الله في عمره- نقل بعضُ الوجهاء الأجلّاء قال: كنت أذهب اليه فيقول له شخصٌ: إنّ فلاناً تكلّم عليك، يقول له: أنت مشتبه أنت لم تسمع جيّداً، فلان لم يتكلّم عليّ وليس من شيمته أن يتكلّم أنت مشتبه، لا يُعطي مجالاً حتى أن تسمع أذنُه هذا الكلام وإن كان صحيحاً، لاحظوا السموّ في الخلق وطبعاً هذه تربية الأئمّة(عليهم السلام)، كم تحمّل الأئمّةُ(عليهم السلام) ومنهم صاحب الدعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) فبعد واقعة الطفّ مباشرةً سمع بأذُنِه الشريفة سُباباً وشتيمةً على أبيه وجدّه أمير المؤمنين(سلام الله عليهما) ماذا كانت ردّة الفعل؟ عرّف عن نفسه الشريفة بخطبته المباركة وفي المقابل تعرّف الناس على تلك الجيف أيضاً من خلال ما عرّف به عن نفسه الشريفة.
أقول هذه تربية الأئمّة الأطهار (كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا) مرّت علينا قبل مدّة بعض الأدعية العامّة التي تقرأها الناس (سترت عليّ ذنوباً في الدنيا وأنا أحوج الى أن تسترها عليّ في الآخرة) قطعاً الربّ واحد والذي ستر عليك في الدنيا يستر عليك في الآخرة، لكن إخواني هذا كلّه لابُدّ للإنسان أن يهيّئ نفسه إذا أراد أن يستر عليه الله تعالى فعليه أن لا يهتك الناس وأن لا يجرح الآخرين، أن يكون صائناً للسانه حافظاً لنفسه مخالفاً لهواه، إذا أراد أن يتكلّم يتذكّر فوراً حتّى لا يعصي الله بجهالة، يتذكّر العاقبة خمسة أو عشرة أو عشرون يضحكون نصف ساعة، ثمّ ويلات تلك الأمور كما ورد (ربّ شهوةٍ أورثت ندامة) وإنّ ساعةً من الشهوة قد تورث ندامة، والله العالم ماذا ستكون عاقبته يوم القيامة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإيّاكم سوء الأعمال والأقوال، وأن يحصّن ألسنتنا من كلّ سوء، وأن يجعلنا دائماً من التائبين الآيبين الذين يذكرون الله تعالى ذكراً كثيراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة المقدسة
اترك تعليق