فلسفة عدم استرجاع امير المؤمنين عليه السلام فدك لورثة فاطمة عليها السلام

فلسفة عدم استرجاع امير المؤمنين عليه السلام فدك لورثة فاطمة عليها السلام

الشيخ علاء السعيدي

 عندما رحل النبي صل الله عليه واله وسلم قامت الحكومات بعدة أعمال  منها مصادرة فدك والتي هي حق من حقوق الزهراء عليها السلام اذ انها لم تكن مجرد خلاف على ارض وميراث بل تحولت الى صراع سياسي وفكري وأصبحت شاهد على طبيعة الخلافات التي عصفت بالمجتمع الإسلامي ..ولما بايع الناس امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وتصدى للخلافة الظاهرية شمر عن ساعديه للاسترداد الحقوق المغتصبة وغير ذلك فقد قال عليه السلام: { "وَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ}[1] لكنه لم يرجع فدك لأبناء فاطمة عليها السلام فكانت هذه المدونة تجيب على هذا الامر وهو لماذا لم يرجع فدك الى ورثة فاطمة عليها السلام ؟ فقد أورد الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابة علل الشرائع روايات يستكشف منها علةعدم استرجاع امير المؤمنين عليه السلام فدك لورثة الزهراء عليه السلام.

للاقتداء برسول الله صل الله عليه واله وسلم:

أورد الشيخ الصدوق في العلل بسندٍ معتبرٍ عن محمد بن أبي عمير عن إبراهيم الكرخي قال: {سألتُ أبا عبد الله عليه السلام فقلتُ له: لأيِّ علَّةٍ تركَ عليُّ بن أبي طالبٍ عليه السلام فدكاً لمَّا وليَ الناس؟ فقال: للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله لمَّا فتح مكة، وقد باع عقيلُ بن أبي طالب دارَه فقيل له: يا رسول الله ألا تُرجعُ إلى دارك؟ فقال صلَّى الله عليه وآله: وهل تركَ عقيلٌ لنا داراً إنَّا أهل بيتٍ لا نسترجعُ شيئاً يُؤخذُ منَّا ظلماً، فلذلك لم يسترجعْ فدكاً لمَّا وليَّ}[2] فالنبيُّ الكريم صلى الله عليه واله بعد فتح مكَّة الشريفة وبعد أنْ أصبح سلطانه مبسوطاً عليها وعلى أهلها كان بوسعه استرجاع داره ممَّن اشتراها من عقيل بغير وجه حقٍّ أي كان بإمكانه إبطال البيع الذي أبرمه عقيل، وإخراج مَن اشترى داره منها، لأنَّه اشتراها مِن غير مالكها، فحقُّ المالك أنْ يسترجع داره لكنَّه صلى الله عليه واله لم يفعل حتى لا يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّه يستغلُّ سلطانه لتحقيق مكسبٍ شخصي، فآثر أن يتخلَّى عن حقِّه صوناً لمقام النبوَّة فلا يرتاب الضعفاء، ولا يتَّخذ المرجِفون ذلك مدخلاً للطعن على الرسول الكريم صلى الله عليه واله.

فالإمام الصادق عليه السلام -بحسب الرواية- أفاد بأنَّ علة عدم استرجاع أمير المؤمنين عليه السلام لفدك هو الاقتداء برسول الله صلى الله عليه واله والذي آثر التخلِّي عن حقِّه صوناً لمقام النبوَّة وآثر أميرُ المؤمنين عليه السلام التخلِّي عن حقِّه صوناً لمقام الإمامة.

تنزيه منصب الامامة من انتزاع الأمور الشخصية

أنَّ فدكاً بحسب زعم من سبقه فيءٌ لعامَّة المسلمين يُصرفُ في مصالحهم، فلو أنَّه استرجعَها لتكون ملكاً شخصيَّاً له ولورثة السيِّدة فاطمة عليها السلام لطعنَ عليه المنافقون والمُرجِفون وقالوا إنَّه يستغلُّ سلطانه لتحقيق مكاسبَ شخصيَّة وإنَّه قد وضع يدَه على أموالٍ هي لعامَّة المسلمين فيظهرُ مَن سبقه في مظهر الحريص على مصالح المسلمين العامَّة، ويظهرُ هو عليه السلام في مظهر الحريص على مصالحه الشخصيَّة، وذلك ما قد يُسهِم في الإضعاف مِن قدرته على تحقيق ما أعلنَ عنه مِن إصلاحاتٍ ماليَّة يستردُّ بها للمسلمين وذوي الحقوق ما تمَّ الاستحواذ عليه بغير وجه حقٍّ من قبل المتنفِّذين، ولهذا آثر أن يتخلَّى عن حقِّه الشخصي وحقوق أبنائه في استرداد فدك ليكون بذلك أقدر على استرداد حقوق المسلمين والانتصاف للضعفاء ممَّن استولى على حقوقِهم وأموالِهم بغير وجه حقٍّ.

فقد أورد الشيخ الصدوق بسندٍ معتبر عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن عليه السلام قال: {سألتُه عن أمير المؤمنين لِمَ لمْ يسترجعْ فدكاً لمَّا وليَ الناس؟ فقال: لأنَّا أهل بيتٍ لا يأخذُ حقوقَنا ممَّن ظلمنا إلا هو، ونحن أولياءُ المؤمنين إنَّما نحكم لهم ونأخذُ حقوقَهم ممَّن ظلمَهم، ولا نأخذ لأنفسنا}[3].

v   خشية تفرق الناس عنه عليه السلام:

فَقَال الامام عليه السلامَ: {َقدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالاً خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه واله مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِه نَاقِضِينَ لِعَهْدِه مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِه، ولَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه واله لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللَّه عَزَّوجَلَّ وسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه واله أرَأَيْتُمْ لَوْ أَمَرْتُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَرَدَدْتُه إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَه فِيه رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه واله ورَدَدْتُ فَدَكاً إِلَى وَرَثَةِ فَاطِمَةَ عليها السلام، ورَدَدْتُ صَاعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه واله كَمَا كَانَ، وأَمْضَيْتُ قَطَائِعَ أَقْطَعَهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه واله .. وحَرَّمْتُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وحَدَدْتُ عَلَى النَّبِيذِ، وأَمَرْتُ بِإِحْلَالِ الْمُتْعَتَيْنِ، وأَمَرْتُ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، وأَلْزَمْتُ النَّاسَ الْجَهْرَ بِبِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .. وحَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وعَلَى الطَّلَاقِ عَلَى السُّنَّةِ، وأَخَذْتُ الصَّدَقَاتِ عَلَى أَصْنَافِهَا وحُدُودِهَا، ورَدَدْتُ الْوُضُوءَ والْغُسْلَ والصَّلَاةَ إِلَى مَوَاقِيتِهَا وشَرَائِعِهَا ومَوَاضِعِهَا، ورَدَدْتُ أَهْلَ نَجْرَانَ إِلَى مَوَاضِعِهِمْ، ورَدَدْتُ سَبَايَا فَارِسَ وسَائِرِ الأُمَمِ إِلَى كِتَابِ اللَّه وسُنَّةِ نَبِيِّه صلى الله عليه واله إِذاً لَتَفَرَّقُوا عَنِّي، واللَّه لَقَدْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي فَرِيضَةٍ وأَعْلَمْتُهُمْ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّوَافِلِ بِدْعَةٌ فَتَنَادَى بَعْضُ أَهْلِ عَسْكَرِي مِمَّنْ يُقَاتِلُ مَعِي يَا أَهْلَ الإِسْلَامِ غُيِّرَتْ سُنَّةُ عُمَرَ يَنْهَانَا عَنِ الصَّلَاةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعاً، ولَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَثُورُوا فِي نَاحِيَةِ جَانِبِ عَسْكَرِي مَا لَقِيتُ مِنْ هَذِه الأُمَّةِ.. مَا لَقِيَ أَهْلُ بَيْتِ نَبِيٍّ مِنْ أُمَّتِه مَا لَقِينَا بَعْدَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه واله واللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ}[4].

الرفعة عن استرجاع حق اثيب علية المغصوب

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: {قَالَ قُلْتُ لَهُ لِمَ لَمْ يَأْخُذْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَدَكَ لَمَّا وَلِيَ النَّاسَ ولِأَيِّ عِلَّةٍ تَرَكَهَا فَقَالَ لِأَنَّ الظَّالِمَ والْمَظْلُومَ كَانَا قَدِمَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وأَثَابَ اللَّهُ الْمَظْلُومَ وعَاقَبَ الظَّالِمَ فَكَرِهَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ شَيْئاً قَدْ عَاقَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ غَاصِبَهُ وأَثَابَ عَلَيْهِ الْمَغْصُوبَ}[5]

علما ان امير المؤمنين عليه السلام كان يجأر بأنَّ فدك حقٌّ خالصٌ للسيّدة فاطمة عليها السلام وورثتِها وهو إنَّما لم يسترجعها تنزُّها وزهداً في حطام الدنيا وابتغاءً لِما عند الله تعالى من عوضٍ يوم القيامة يقول عليه السلام كما في نهج البلاغة في إحدى رسائله لبعض عمَّاله{ بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْه السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، ونِعْمَ الْحَكَمُ اللَّه، ومَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وغَيْرِ فَدَكٍ، والنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِه آثَارُهَا، وتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ والْمَدَرُ، وسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ، وإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى، لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأَكْبَرِ..}[6]

فقوله عليه السلام: "بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ" يعنى أنَّ فدكاً كانت في حيازتنا وملكنا، إذ أنَّ اليد أمارةٌ على الملكيَّة كما عليه إجماع المسلمين بل عليه إجماع مطلق العقلاء على اختلاف أديانهم ومشاربهم، ولولا ذلك لاختلَّ نظام المعاش، ولذلك لا يُطالبُ ذو اليد بالبيِّنة على ما تحت يده، والمدَّعي لنفي الملكيَّة هو المسئول عن إقامة البيِّنة على دعواه.

ومعنى قوله عليه السلام: "فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ" أي حملَهم الشحُّ والحرص على انتزاعِها مِن أيدينا ووضع اليد عليها عدواناً ودون وجه حقٍّ، وأراد من القوم رجال السلطة.

ومعنى قوله عليه السلام: "وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ" يعنى سلَتْ عنها نفوسُ مَن كانت في ملكِهم وتحت أيديهم، فلم تذهبْ نفوسُهم عليها حسرات لتعاليها عن هذا الحُطام الزائل ثم قال عليه السلام: "ونِعْمَ الْحَكَمُ اللَّه" للتعبير عن الشكوى والتظلُّم وأنَّها انتُزِعت منهم غصباً وسوف ينتصفُ الحكَمُ العدْلُ جلَّ وعلا لهم يومَ يقومُ الناس لربِّ العالمين.

الهوامش:------

[1] -شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد المعتزلي، ج1، ص269.

[2] -علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص155.

[3] -عيون أخبار الرضا عليه السلام -الصدوق- ج2 / ص92، علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص155.

[4] - الكافي -الكليني- ج8 / ص63.

[5] - علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص154.

[6] - نهج البلاغة -خطب الامام علي عليه السلام- ص417.

: الشيخ علاء محسن السعيدي