الكفاءة المعيار الأسمى في تولي المناصب

من القضايا الحساسة التي تمسّ حياة المجتمعات والافراد هي تولي المناصب والمسؤوليات اذ ان صلاح الامة وفسادها يتوقف بدرجة كبيرة على الأشخاص الذين يُسند أليهم مهمة امر القيادة والادارة فكل موقع في الدولة او المجتمع هو امانة بيد من يتولاه فإن وضع في موضعه الصحيح والانسب له واعطي لمن يستحقه أثمر عدلا ونماءً وتقدماً وان اسند الي غير الكفوء جلب الفساد والظلم وضياع الحقوق..

 فالكفاءة هي القدرة العلمية والعملية على إدارة العمل بمهارة واتقان وامانة. اذن الكفاءة والأمانة من اهم مميزات الفرد لتولي المناصب والمسؤوليات لما لهما من أثر بالغ في تحقيق العدالة والنجاح في كل المستويات.. فان الأمم لا تنهض بالأماني بل بالعقول والخبرات والكفاءات قال تعالى: 

{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[1] فالقوة تعني القدرة والكفاءة في أداء العمل، والأمانة تعني الإخلاص والنزاهة. اذن المناط في استحقاق شغل أيِّ منصبٍ من المناصب الإدارية هو الكفاءة-والأمانة وفيما يلي نذكر بعضاً منها..

ورد عن امير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب -عليه أفضل الصلاة والسلام-، قال: (لا تقبلنَّ في استعمال عُمَّالك، وأُمرائك، شفاعةً إلَّا شفاعة الكفاءة والأمانة)[2]. إذا كان ثمَّة شخصٌ كفوءً، وأميناً، فإنَّ له الحقّ في أن يتسلَّم أيَّ منصبٍ يتناسب مع كفاءته، وليس ثمَّة من شفيع آخر. فالمحاباة، والمحسوبيات، والعِرق، والمال، والجهة الاجتماعية، كلُّ ذلك ملغى بحسب وجهة النظر الإسلامية.

كانت بعض الشعوب -اليهودية بالتحديد- ترى أنَّ الحالة الاقتصادية دخيلةٌ في استحقاق أيِّ شخصٍ لمنصب الولاية والأمارة، وهذا ما تؤكِّد عليه الآية الشريفة التي حكت لنا الحوار الذي دار بين بني إسرائيل وبين نبيهم، حينما أخبرهم بأنَّ ملكهم هو طالوت، فماذا قال اليهود؟: ﴿قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾[3] ما هو منشأ استحقاقكم، وعدم استحقاقه في نظركم؟ قالوا: ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾[4] وبأي جواب أجاب النبي؟ قال:{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[5]. إذن، الكفاءة في العلم، والدراية، والبصيرة، والقدرة على الأمارة والقيادة، عندما يكون أحد من الناس متوفراً على كلِّ ذلك فإنَّه يكون مؤهَّلا -حتى وإن كان فقيرا ويوسف الصديق -سلام الله عليه- كان يخاطب عزيز مصر، فيقول: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ﴾[6].

 بأيِّ مبِّرر أجعلك على خزائن الأرض؟ وأيّ ميزة تُميزك عن الآخرين؟ لماذا أنت، وليس غيرك؟

قال: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾[7] أمين، وبصير، كفاءة وبصيرة، علم وأمانة، حفيظ أمين، هاتان الصفتان هما اللتان يؤهلاني أن أتولَّى هذا المنصب الخطير. أما أنِّي كنتُ عبداً في نظركم -عندكم، وعند أهلكم- ثم كنت سجيناً سنين، فهذا لا يمنع أن أتولى هذا المنصب، بعد أن كنتُ مشتملاً على هاتين الصِّفتين.

هناك رواية أخرى عن رسول الله (صلى الله عليه واله)، تعبِّر عن أنَّ الكفاءة، والعلم، هما اللذان يؤهِّلان الشخص لشغل أيِّ منصب من المناصب، وأنَّ أيَّ مقياسٍ آخر فهو غير مقبول في النظر الإسلامي، يقول (صلى الله عليه واله): "من استَعمِل عاملا، من المسلمين وهو يعلم أنَّ فيهم أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسُنَّة نبِّيه. فقد خان الله، ورسوله، وجميع المسلمين"[8] تلك خيانة، أن تُجعل لأحدٍ القيادة والإمارة، وهناك من هو أكفأ وأعلم منه.

نماذج من التاريخ الإسلامي في مبدأ الكفاءة

عتَّاب ابن أسيد

هناك شاب يسمَّى عتَّاب ابن أسيد، هذا الشاب كان من الصحابة، بعد أن فُتِحت مكة، واستتبَّ الأمر فيها، وهدأت، ولَّى رسول الله (صلى الله عليه واله) هذا الشاب على مكة -والتي هي أهمّ الحواضر الإسلامية-، فاستنكف لذلك بعض الكبار من الصحابة، وبعض الوجهاء، وأصحاب رؤوس الأموال، فقالوا:

 كيف يُولِّي علينا شخصا صغيراً، ونحن أهل الجاه، والمال والمكانة الاجتماعية؟ فرسول الله (صلى الله عليه واله) قام فيهم خطيبا، وقال: {لا يَحتَجَّ مُحتجٌّ منكم في مخالفته بصغر سِنِّه، فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر}[9]، وعندما تكون أفضل وأكفأ فأنت الأكبر، وليس الذي يكبرك في السن هو الأكبر إذا كنت تكبره في الفضل والكفاءة. هذا هو المقياس الذي يستحُّق به الشخص أن يتولَّى المنصب -خصوصا المناصب الخطيرة فرسول الله لم استعمله محاباةً، أو ملاحظةً لاعتبارات غير اعتبار الأهليَّة والكفاءة.

أسامة بن زيد

وكلكم قد سمع قضيَّة أسامة بن زيد وجيشه، أسامة بن زيد كان شاباً صغيراً، وكان أبوه عبداً حبشياً، تبنَّاه رسول الله (صلى الله عليه واله)، ثم حرَّره. وأسامة بن من كان أصله عبداً، يؤمِّره رسول الله (صلى الله عليه واله) على جيشٍ فيه وجوه الصحابة، كأبي بكر، وعمر، وعبيدة بن الجراح، وعثمان، وشيوخ الصحابة، ولم يُلاحظ أيَّ اعتبارٍ آخر غير اعتبار الكفاءة. واحتجَّ مَن احتجَّ منهم، فزجرهم رسول الله، وقال {لئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لخليقاً وإنَّ ابنه من بعده لخليقٌ للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحب إلي...}[10]

ثم قال: "نفذوا جيش أسامة لعن الله من تأخر عنه"[11] فكانوا يتثاقلون في الخروج، ويتباطؤون، ومنهم من هو مُستثقلٌ أن يكون في إمارة شاب كان أصل والده عبداً مرقوقاً، ومنهم من يخشى أن تفوته الخلافة؛ لأنَّ رسول الله (صلى الله عليه واله) ينعى نفسه، ومنهم من يُدبِّر لانقلابٍ خطير. فتضح من النصوص القرآنية والروائية ومن التجارب التاريخية ان الكفاءة والأمانة هما الركيزتان السياسيتان لتولي أي منصب او مسؤولية فبقدر ما تكون المناصب بيد الاكفاء والامناء يكون المجتمع أكثر عدلا واستقرارا وتقدما اما حين تعطى المناصب للفاسدين ونظرائهم فحينها تتعطل مصالح الامة ويحل الفساد ويخيم الظلام ولات حين مندم.

الهوامش:

[1] القصص اية 26

[2] شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج20 ص276

[3] سورة البقرة / 247.

[4] سورة البقرة / 247.

[5] سورة البقرة / 247.

[6] سورة يوسف / 55.

[7] سورة يوسف / 55.

[8] الغدير -الشيخ الأميني- ج8 ص291.

[9] بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج21 ص123.

[10] تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج 2 ص 55

[11] بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 27 ص 324

: الشيخ علاء السعيدي