التدبير المنزلي بين علي والزهراء عليهما السلام

ان التنظيم الواعي والمقنن لحياة الاسرة واستقرارها وتوفير سبل الراحة والرفاه وإدارة شؤونها بكل الأصعدة وغير ذلك هو الذي يعبر عنه ب....التدبير المنزلي.

اذ إنّ من أهمّ القواعد الحياتيّة والعقلائيّة بين البشر هي العمل بالاتّفاق، وتقسيم المهامّ بين الأفراد والتزام كلّ طرف بما جرى الاتفاق عليه، وهو أمر قام به الإمام عليّ عليه السلام والسيدة فاطمة عليها السلام بعيد دخولهما منزلهما الجديد، إذ تقول الرواية إنّهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الخدمة، فقضى صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة عليها السلام بخدمة ما دون الباب وقضى على عليّ عليه السلام بخدمة ما خلفه، وقد سُرّت السيدة فاطمة عليها السلام بذلك سرورًا كبيرًا وقالت: فَلَا يَعْلَمُ مَا دَاخَلَنِي مِنَ السُّرُورِ إِلَّا اللَّهُ بِإِكْفَائِي‏ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَحَمُّلَ رِقَابِ الرِّجَال‏"[1]. وبناءً على ذلك الاتّفاق كان الإمام عليّ عليه السلام ينقل الحطب ويجيء بالطعام ويستقي، وكانت السيدة فاطمة عليها السلام تعجن وتخبز وتطبخ وتهتمّ بنظافة المنزل[2].

يُنقل عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال في وصف حال السيدة فاطمة عليها السلام في المنزل: (إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدِي فَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَ فِي صَدْرِهَا وَطَحَنَتْ بِالرَّحَى حَتَّى مَجِلَتْ يَدَاهَا وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ‏ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا وَأَوْقَدَتْ تَحْتَ الْقِدْرِ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا فَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ شَدِيدٌ...)[3]

فبيّن لنا عليه السلام كيف كانت السيدة فاطمة عليها السلام تتولّى بنفسها عمل المنزل بشكل دائم فكان يصيبها التعب الشديد والضرر جرّاء ذلك، ولعلّ ذلك مردّه إلى طبيعة العمل في ذلك الوقت وكم كان شاقًّا، لكنّها مع ذلك كانت دائمة الاهتمام بمنزلها فتكنس وتطحن وتطبخ وتؤمّن حاجات منزلها من سقي وغيرها وتهتم لنظافة أولادها على الدوام.

أضف إلى ذلك أنها كانت على مستوى عالٍ من التدبير حيث كانت على دراية بالأمور التي تسهّل عليها وعلى عائلتها مسائل الحياة، فلم تكن بحاجة إلى إرسال الملابس إلى الخياط متى أصابها أيّ رتق مثلاً، بل كانت ترقّع الملابس بنفسها.[4]

أنّ الزهراء عليها السلام تولّت أمور المنزل الداخليّة وعليّاً عليه السلام تولّى الأمور الخارجيّة، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن لا يقدّم كلّ طرفٍ المساعدة متى استطاع للطرف الآخر في سبيل تأمين راحته وهنائه. فقد كان الإمام عليّ عليه السلام يعمل داخل المنزل أيضًا حيث تقول الرواية إنّه كان يكنس البيت[5] وكان يقدّم للسيدة الزهراء عليها السلام يد العون في الطبخ أيضًا فكان مثلًا ينقّي العدس والسيدة فاطمة عليها السلام جالسةٌ عند القدر تطهو الطعام[6]، كذلك ورد في الروايات أنّه كان عليه السلام يطحن معها عليها السلام على الجاروش[7]. ولم يقتصر الأمر على الإمام عليّ عليه السلام والسيدة فاطمة عليها السلام، بل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقدّم يد المساعدة أيضًا، ففي رواية أنّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل منزلهما وهما يطحنان على الجاروش، فسألهما: "أيّكما أعيا؟"، فأجاب الإمام عليه السلام بأنّ فاطمة تعبت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قومي يا بنيّة"، وأخذ يطحن مكانها[8].

أجر المرأة العاملة في بيتها

إنّ الأجر المعنويّ للمرأة التي تعمل في منزلها لهو أجر عظيم، ويفوق الكثير من الواجبات المفروضة، وفي ذلك دلالة على أهمّيته وتشجيع الإسلام عليه، حيث جاء في رواية أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دخل على ابنته فاطمة عليها السلام ذات يوم ووجدها تطحن شعيرًا، فجعل يحدّثها وبدأ يقصّ عليها أجر المرأة العاملة في منزلها، فقال: "يا فاطمة! ما من امرأة طحنت بيديها إلّا كتب اللّه لها بكلّ حبّة حسنة، ومحا عنها بكلّ حبّة سيّئة. يا فاطمة! ما من امرأة عرقت عند خبزها، إلّا جعل اللّه بينها وبين جهنّم سبعة خنادق من الرحمة. يا فاطمة! ما من امرأة غسلت قدرها، إلّا غسلها اللّه من الذنوب والخطايا... يا فاطمة! ما من امرأة نسجت ثوبا إلّا كتب اللّه لها بكلّ خيط واحد مئة حسنة، ومحا عنها مئة سيّئة. يا فاطمة! أفضل أعمال النساء المغازل. يا فاطمة! ما من امرأة برمت مغزلها إلّا كان له دويّ تحت العرش، فتستغفر لها الملائكة في السماء. يا فاطمة! ما من امرأة غزلت لتشتري لأولادها أو عيالها، إلّا كتب اللّه لها ثواب مَنْ أَطعمَ ألف جائع، وأكسى ألف عريان. يا فاطمة! ما من امرأة دهّنت رؤوس أولادها، وسرّحت شعورهم، وغسلت ثيابهم وقتلت قمّلهم إلّا كتب اللّه لها بكلّ شعرة حسنة، ومحا عنها بكلّ شعرة حسنة، وزيّنها في أعين الناس أجمعين"[9]

 أجر الرجل العامل في بيته

وعلى غرار أجر المرأة العاملة في منزلها، نرى أنّ الأجر المعنويّ للرجل الذي يساعد زوجته في العمل المنزليّ عظيم جدّاً، حيث ورد عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أنه قَالَ: "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَفَاطِمَة عليها السلام جَالِسَةٌ عِنْدَ الْقِدْرِ وَأَنَا أُنَقِّي الْعَدَسَ قَالَ يَا أَبَا الْحَسَنِ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اسْمَعْ‏ وَمَا أَقُولُ إِلَّا مَا أَمَرَ رَبِّي، مَا مِنْ رَجُلٍ يُعِينُ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهَا إِلَّا كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ عَلَى بَدَنِهِ عِبَادَةُ سَنَةٍ صِيَامُ نَهَارِهَا وَقِيَامُ لَيْلِهَا وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ الصَّابِرِينَ وَدَاوُدَ النَّبِيَّ وَيَعْقُوبَ وَعِيسَى عليه السلام، يَا عَلِيُّ مَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ عِيَالِهِ‏ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَأْنَفْ كَتَبَ اللَّهُ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الشُّهَدَاءِ وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَوَابَ أَلْفِ شَهِيدٍ وَكَتَبَ لَهُ‏ بِكُلِّ قَدَمٍ ثَوَابَ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عِرْقٍ فِي جَسَدِهِ مَدِينَةً فِي الْجَنَّةِ، يَا عَلِيُّ سَاعَةٌ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ وأَلْفِ حَجٍّ وَأَلْفِ عُمْرَةٍ وَخَيْرٌ مِنْ عِتْقِ أَلْفِ رَقَبَةٍ وَأَلْفِ غَزْوَةٍ وَأَلْفِ مَرِيضٍ عَادَهُ وَأَلْفِ جُمُعَةٍ وَأَلْفِ جَنَازَةٍ وأَلْفِ جَائِعٍ يُشْبِعُهُمْ وَأَلْفِ عَارٍ يَكْسُوهُمْ وَأَلْفِ فَرَسٍ يُوَجِّهُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ وَمِنْ أَلْفِ أَسِيرٍ اشْتَرَاهَا فَأَعْتَقَهَا وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ بَدَنَةٍ يُعْطِي لِلْمَسَاكِينِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، يَا عَلِيُّ مَنْ لَمْ يَأْنَفْ مِنْ خِدْمَةِ الْعِيَالِ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يَا عَلِيُّ خِدْمَةُ الْعِيَالِ كَفَّارَةٌ لِلْكَبَائِرِ وَيُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَمُهُورُ حُورِ الْعِينِ ويَزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ وَالدَّرَجَاتِ يَا عَلِيُّ لَا يَخْدُمُ الْعِيَالَ إِلَّا صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة"[10].

 

إنّ التكافل بين أفراد العائلة الفاطميّة حتّى في أمور المنزل لهو مدعاة للعجب، فالإمام عليّ عليه السلام مُنكِّس رأس الشرك ومُحطِّم الأصنام وقسيم الجنّة والنار، ها هو ينقّي العدس لزوجته ويكنس المنزل، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم حبيب الله وصاحب المشروع الإلهيّ المسدّد، وقائد الأمّة جمعاء وزعيم المسلمين، ها هو يطحن نيابة عن ابنته، أيّ تكافل هذا؟ وأيّ عظمة تلك؟! فالأجدر بالجميع مراجعة حساباتهم تجاه ما يعتبرونه عظيمًا من أعمال، والتأسّي الفعليّ والعمليّ بأفراد هذا الأسرة الذين لا نظير لهم، وهو أمر في مقدور الجميع كما هو واضح، فليس المطلوب أن نفتح أبواب خيبر جميعنا لنتأسّى بعليّ بن أبي طالب عليه السلام بل المطلوب أن نؤسّس عائلات متكافلة إذا مرض عضو فيها تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى، عندها نستطيع أن نؤسّس مجتمعاً متكافلاً لا وجود فيه لحصون خيبر فلا نحتاج إذًا إلى نزع بابها.

المصادر:

[1] البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج‏25، ص 506.

[2] المصدر نفسه، ص 508.

[3] لشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج‏1، ص 321.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج‏8، ص 165.

[5] البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج‏25، ص 508.

[6] الميرزا النوري، حسين بن محمد تقي‏، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل‏، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1408ه‏، ط1، ج‏13، ص 49.

[7] البحراني الأصفهاني، ج‏11، ص 356.

[8] المصدر نفسه.

[9] البحراني الأصفهاني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج‏11، ص 524.

[10] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل،‏، ج‏13، ص 49.

: الشيخ علاء السعيدي