حقيقة الانتظار المخرب ( الانتظار السلبي لبني اسرائيل انموذجا)

قال الله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءهُمْ كتابٌ مِنْ عِندِ اللَّـهِ مصَدِّقٌ لِما مَعهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبلُ يَسْتفْتحُونَ علی الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنةُ اللَّـهِ عَلَی الكافرينَ (٨٩).

تتحدث هذه الاية الكريمة حول مسيرة اليهود وانتظارهم للنبي الموعود .

فقد كان اليهود ينتظرون قدوم وبعثة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وكان ذلك جزءً من عقيدتهم، وكانوا يعرفونه بصفاته كما يعرفون ابنائهم، وقد بشرت به التوارة وبوصيه علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وكانوا ينتظرون تحقق اليوم الموعود الذي كتب لديهم في كتبهم، واستمر هذا الانتظار لاجيال طويلة ولمئات من السنين، وقيل اربعمائة عام تقريبا .

ومن ثم بدأت بعد سنين من الانتظار رحلات الهجرة الى يثرب، واليمن ونجران، وخيبر، واليمامة، ومناطق اخرى متفرقة قريبة من المدينة التي يعرف اليهود ان النبي الموعود سيخرج منها ، فاستوطنوا فيها .

والارجح ان هجرة اليهود الى يثرب كان في ايام السبي البابلي، و عهد نبوخذ نصر الذي بطش في اليهود فهاجروا من فلسطين الى الحجاز وبعضهم قال ان هجرتهم كانت بسبب ما تلقوه من التعذيب والتهجير من قبل الرومان الذين هدموا بيت المقدس وقتلوا اليهود وهجروهم من فلسيطين مرة ثانية، وذلك بعد مقتل النبي يحيى عليه السلام، والارجح ان السبب الاساس في اختيار اليهود ليثرب مضافا لهجرتهم هو لما ورد في عقيدتهم من ان نبياً سيبعث من قبل الله تعالى من تلك المنطقة.

وبقيت هذه العقيدة كجزء من حياة اليهود حتى ذكر المؤرخون واهل الحديث ان سلمان المحمدي كان من ضمن الذين جائوا الى يثرب بغية انتظار النبي الموعود (صلى الله عليه واله وسلم) فتشرف باللقاء والايمان به .

والملفت للنظر ان اليهود بعد انتظارهم الطويل للنبي الموعود كل تلك السنين الا انهم لم يوفقوا للالتحاق بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) والايمان برسالته على الرغم من معرفتهم بشخصه وبصفاته وعلائمه فانهم كانوا يعرفونه كما يعرفون ابنائهم ، قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفونهُ كَما يَعْرِفُون أَبْناءهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُم لَيَكْتمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعلَمونَ (١٤٦).

وقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) : ( یَعْرِفُونَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) وَ الْوَلَایَةَ فِی التَّوْرَاةِ وَ الْإِنْجِیلِ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ فِی مَنَازِلِهِمْ.‌ الکافی، ج٢، ص٢٨١ ومع معرفتهم هذه للنبي صلى الله عليه وآله لم يؤمنوا به، وانما بعد هذا الانتظار الطويل والادلة التي يمتلكونها من المعرفة به قاموا بمحاربته والوقوف بوجهه، وانكار رسالته والكفر بها قال تعالى : فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَی الْكافِرِينَ (٨٩).

ومن هذه المسيرة في عالم الانتظار نكتشف امور عدة مهمة بالنسبة لانتظارنا لامام الزمان (عجل الله فرجه) :

اولا : ان الانتظار لامام الزمان (عليه السلام) حتى لو استمر لمئات من السنين، وحتى لو عاش المنتظر انواع المحن والابتلاءات الا ان هذا الانتظار ليس كافيا في تحقق الايمان برسالته، ومشروعه بشكل قطعي لان اليهود كانوا ينتظرون قدوم النبي ص لمئات من السنين الا ان هذا لم ينفعهم لانهم لم يؤمنوا بالنبي الموعود .

ثانيا : ان المنتظر لامام الزمان (عليه السلام) وان كان لديه معرفة تفصيلية عن شخصية الامام عج ، ولديه معرفة بالعلامات التي تدل عليه الا ان هذا كله ليس كافيا في الايمان بالامام (عليه السلام) وهذا ما كان يمتلكه اليهود حيث كانوا يعرفون النبي الموعود (صلى الله عليه واله وسلم) كما يعرفون ابنائهم الا انهم لم يؤمنوا به .

اذن هناك امر ابعد من مجرد الانتظار لمئات من السنين وابعد من معرفة بعض خصوصيات الامام وعلاماته .

و الامر هو الاعتقاد الجازم بإمامته وامامة آبائه الاولين، والمعرفة الحقيقية بحقانيته، والاعتقاد بانه امام مفترض الطاعة، والذي يجب الاخذ منه، والتسليم له، والرد اليه في كل كبيرة وصغيرة عن بصيرة ووعي ودليل قطعي .

فاليهود وان كانوا يعرفون النبي الموعود الا ان معرفتهم سطحية شكلية ، ليست نابعة اعتقاد مسبق جازم بنبوة النبي وامامته عليه الصلاة والسلام ، وانما كانت لديهم معرفة سطحية بظهوره، وبعض خصائصه وصفاته من دون اعتقاد وتسليم وانقياد، وطاعة مطلقة له صلوات الله عليه.

وقد ورد عن الباقر (عليه السلام) انه قال : ( انما كُلف الناس بثلاثة : معرفة الائمة ، والتسليم فيما يرد عليهم والرد اليهم فيما اختلفوا فيه). الفصول المهمة ج١ ص ٥٢٧.

فالانتظار لامام الزمان (عجل الله فرجه الشريف) لابد ان تتوفر به جميع الشروط والاسسس العقائدية والاخلاقية والتربوية والسياسية والروحية والعبادية فكل هذه يحتاجها المنتظرون للتمكن من الايمان بمشروع دولة العدل الالهي والا ان لم يجهد الانسان نفسه بذلك يكون انتظاره سطحيا ولعله يقوم بنفس ما قام به اليهود من انكارهم للنبي الموعود (صلى الله عليه واله وسلم) .

: الشيخ وسام البغدادي