شكر نعمة العقل

العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه، ونطق به على لسانهم

يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بأن جعل الله تبارك وتعالى فيه قوة مدركة تسمى: (قوة العقل)، فهي: (قوة إدراك في الإنسان)، تدرك الخير والشر وتمييز بينهما, بها تعرف أسباب الأمور, ونحو ذلك, يقول الفقهاء فيها أنها: (مناط التكليف)، بها يكون التعقل[1].

هذه القوة، جعلها الله تبارك وتعالى في الإنسان تكويناً، حيث تمتاز بقابلية التعلم والتعليم والاكتساب، والخزن والحفظ والتركيب والتحليل والاستنتاج والتمييز والاختيار، وهي كلها امتيازات فطرية لأنها ذاتية فيمن تحل فيه.

لذا قيل عنها: أنها (خير هدية وهبها الله تعالى للإنسان)، تبعاً لقول الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام): ((خير المواهب العقل))[2]، وفي إشارة وتصريح بأهميتها قال(عليه السلام): ((الإنسان بعقله))[3]. أي: أنه يتميز عن باقي الكائنات بنحو تدور فيه إنسانية مدار العقل وجوداً وعدماً.

فهي نعمة من نعم الله تبارك وتعالى أنعمها على الإنسان، والنعمة لابد لها من شكر لذات وجودها في الإنسان أولاً، ولمانحها ثانياً، لأنه منحنا إياها تفضلاً لا استحقاقاً، والقاعدة في هذا العمل: (أن الشكر يوجب الزيادة)، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[4].

وهنا نسأل: أن الشكر أنواع، شكر النية وشكر القول والشكر في مقام العمل، فما هو الشكر الذي أقدمه لله تبارك وتعالى من هذه الأنواع؟ والجواب على هذا التساؤل تفصيلي، نقول فيه:

إن الشكر على هذه النعمة ابتداء هو شكر النية، أي: القصد إلى تعظيم صاحبها وتمجيده وتحميده ويلازم ذلك عرفانه بذاته وصفاته ومقامه والتفكر في علل إنعامه وإحسانه ليعرف كيفية شكره ومقدار ما يجب عليه.

ثمّ الشكر القولي، أي: إظهار ذلك بلسانه بما يناسب مقام المنعم ومقدار النعمة.

ثمّ الشكر العملي، أي: استعمال ما وصل إليه من النعمة فيما أراده المنعم.

و ذاك يعنى أن: الشكر متدرج بحسب العلم والفهم والقدرة، لأن شكر المنعم لله تعالى من أوجب الأمور، ومنه أمكن القول: أن شكر هذه النعمة نظري وعملي، أي: بالسعي الدائم في تطويرها والعمل على ارتقائها، واستخدامها في كل صغيرة وكبيرة في الحياة.

ولا يخفى أن شكر النية والشكر القولي مقدور عليه، ولكن الصعوبة في الشكر العملي، فهو يتوقف على فهم طبيعة العقل ولست بخالقه فالصعوبة في ذلك.

فالعقول منحها الله تبارك وتعالى للإنسان، ولا يعرف طبيعتها إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم، وهم النبي الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله) وآل بيته الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، حيث قال(صلى الله عليه وآله) في بيان ماهيته: أن ((العقل نور خلقه الله للإنسان، وجعله يضيء على القلب ليعرف به الفرق بين المشاهدات من المغيبات))[5]، وقال: ((العقل نور في القلب، يفرق به بين الحق والباطل))[6]، وقال: ((مثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت))[7].وهي توصيفات دقيقة للعقل لا يتمكن أحد من القول بها إلا من عرف ماهية العقل ماهي.

فالعقل له ماهية وطبيعة نورية وهذا يقتضي العكس من ذلك، أي: (الظلمة) والتي نشير إليها للوضوح في مفهومها من دون تفصيل بقول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء عقل يزينه *** ولم يك ذا رأي سديد وذا أدب

فما هو إلاّ ذو قوائم أربع *** وإن كان ذا مال كثير وذا حسب

ولم يقتصر القول بالماهية والطبيعة على قول النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، بل قال فيها باب العلم النبوي الإلهي، الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(عليه السلام) عن قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي شبه العقل بشكل الإنسان، له رأس وله يد وهكذا ويحتاج إلى ما يقويه، فقال: ((إنّ الله تعالى خلق العقل من نور مخزون في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرّب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والرأفة همّه، والرحمة قلبه، ثمّ أنّه حشاه وقوّاه بعشرة أشياء: باليقين، والايمان، والصدق، والسكينة، والوقار، والرفق، والتقوى، والاخلاص، والعطيّة، والقنوع، والتسليم، والرضا، والشكر...))[8].

فهذه هي طبيعة العقل المدرك والذي لا يكون مدركاً بخلافها، أي: ذو طبيعة نورية، والطبيعة النورية لا يؤسسها ويطورها وينميها غير التغذية بالعلم واستعماله، فالعقل بهذه الطبيعة هو موضع الاعتماد الإلهي لإدراك أوامر ونواهيه والعمل بها في الدنيا الإلهية لا الدنيا البشرية، لأن العقل بهذه الماهية هو الذي يمتثل لأمر الله تبارك وتعالى، لذا ((... قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: تكلّم فتكلّم، فقال: الحمد لله الذي ليس له ضدّ ولا مثل ولا شبيه ولا كفو ولا عديل، الذي كلّ شيء لعظمته خاضع ذليل، فقال الله تعالى: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع ولا أشرف منك، ولا أعزّ عليّ منك، بك اُوحّد، وبك اُعبد، وبك اُدعى، وبك اُرتجى، وبك اُخاف، وبك اُبتغى، وبك اُحذر، وبك الثواب، وبك العقاب))[9]، ولاحظ طبيعته الإدراكية أنه شكر لله تعالى هذا القول إذا شخصه أنه نعمة من الله تبارك وتعالى، لذا سجد لله تبارك وتعالى ((فخرّ العقل عند ذلك ساجداً وكان في سجوده ألف عام، فقال تعالى: ارفع رأسك واسأل تعطى واشفع تشفّع، فرفع العقل رأسه فقال: الهي أسألك أن تشفعني فيمن جعلتني فيه، فقال الله تعالى للملائكة: اُشهدكم انّي قد شفّعته فيمن خلقته فيه))[10].

وعليه فطبيعة العقل الذي خلقه الله تبارك وتعالى، هي طبيعة نورية والطبيعة النوري لا تتشكل إلا بالعلم والفهم والزهد والحياء والحكمة والرأفة والرحمة، التي تغذى وتقوى: باليقين والإيمان والصدق والسكينة والوقار والرفق والتقوى والإخلاص والعطية والقنوع والتسليم والرضا والشكر، فشكر هذه النعمة يتم بالسعي للمحافظة عليه ذو طبيعة نورية، وهي لا تتحصل إلا بكسب العلم والمعرفة والفهم، يقول النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله): ((العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه، ونطق به على لسانهم))[11]، وقال باب علمه علي ابن أبي طالب(عليه السلام): ((ليس العلم في السماء فينزل إليكم، ولا في تخوم الأرض فيخرج لكم، ولكن العلم مجبول في قلوبكم، تأدبوا بآداب الروحانيين يظهر لكم))[12]، وقد أوضح هذا القول بكلامه ولدهم الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): ((ليس العلم بكثرة التعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله أن يهديه، فإذا أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك))[13]، ومعنى ذلك:

1-  أن شكر نعمة العقل تتم بالعمل على إحلال النورية فيه ودفع ظلمة الجهل عنه، وذلك لا يتحقق إلا بإحلال المعلومات النورية والعلم كذلك فيه، ومصدر ذلك الرئيسي القرآن الكريم وأحاديث النبي وروايات اهل البيت(صلوات الله عليهم اجمعين).

2-  الانفتاح على الغيب(الله جلّ جلاله) والتأدب بآداب الروحانيين، أي: طلب العلم بالعبادة والأخلاق.

3-  طلبه بالدرس لا لأجل التباهي به، بل لأجل أن تجعل من نفسك عالمه ليرضى الله عنك، عند ذاك استفهم الله يُفهمك.

4-  طلب العلم بالاستعمال، أي أن تطبيق العلم يحفظه ويركزه وينميه فتحص على علم جديد ذو زوايا متعددة بقدر استعماله.

وهذه الأمور كلها هي التي تحيي الطبيعة الإدراكية الفهمية القائمة، وهي تبنى بالمعلومات العلمية الواقعية والمعرفة الدقيقة الصحيحة، وهي التي تجر أثراً معتمداً في الحساب والجزاء الإلهي، والخير والشر، وفعل الصحيح والخطأ، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((لا يكون المؤمن عاقلا حتّى تجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول، والشرّ منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقلّ كثير الخير من نفسه، لا يسأم من طلب العلم طول عمره، ...))[14].

والواجب فعله على هذا التقدير تجاه العقل للاستفادة منه واستخدامه بما يريد الله تبارك وتعالى، هو:

أولاً: الحفاظ على سلامته باعتباره واسطة في الإدراك والفهم والتحلي والاستنتاج والاختيار، وسلامته تتحقق بالتوازن في الطعام والشراب وتعويده على اكتساب العادات الصحيحة.

ثانياً: الحفاظ على سلامة جوهره، وهو يقتضي المحافظة على سلامة ما يوضع فيه من معلومات أساسية تكتسب بالعلم النظري وتعلمه، وهو ما عناه النبي الأعظم في عبارته: ((...،لا يسأم من طلب العلم طول عمره، ...)).

ثالثاً: تمرينه دائماً على كسب المعلومات، واستخدامها واستعمالها في الحياة، فالعاقل هو هو من يستخدم عقله ويمنيه.

الهوامش:-----

[1] انظر: وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص: 208- 209.

[2] العقل والجهل في الكتاب والسنة، محمد الريشهري، ص:٥١.

[3] المصدر نفسه ، ص: 53.

[4] سورة إبراهيم: 7.

[5] موسوعة العقائد الإسلامية، محمد الريشهري، ج ١، ص: ١٧١.

[6] المصدر نفسه.

[7] المصدر نفسه.

[8] الخصال، الصدوق، ص: 427; مستدرك الوسائل، الحر العاملي، ج11، ص: 203.

[9] المصدر نفسه.

[10] الخصال، محمد بن علي بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، ص: 427. 

[11] قرة العيون، الفيض الكاشاني، ص: ٤٣٨.

[12] المصدر نفسه، ص: 439.

[13] منية المريد، زين الدين بن علي العاملي(الشهيد الثاني)، ص: ١٤٩ و ١٦٧، وفيه " يقذفه الله تعالى " بدل " يقع " وليس فيه ذيله " فإذا... "

[14] مجموعة ورام، ورام ابن أبي فراس، ج 2، ص: 112.

: الشيخ مازن التميمي