تعد الصلاة أهم عبادة في الدين الإسلامي، وأهم مفردة في الشرائع السماوية، لا سيما شريعة النبي محمد(صلى الله عليه وآله)، حيث توصف في الأحاديث الشريفة المقدسة بأنها: (عمود الدين) و(شرط قبول سائر الأعمال)، وغيرها من الصفات الأساسية للدين والمتدينين.
فهي لغة: لفظ مأخوذ من الجذر اللغوي: صلا، حيث أن الصاد واللام والحرف المعتل حروف أصلية في الكلمة، والتي لها أصلان:
أحدهما: النار وما أشبهها من الحُمّى.
والآخر: جنس من العبادة وهو الدعاء.
وأمّا الصلاة من الله تعالى في قولنا: (اللهم صلّ على ...) فهي الرحمة، أي: أنزل رحمتك على[1].
وأما في الاصطلاح، فهي تعني: مجموعة أقوال وأفعال أوّلها تكبيرة الإحرام وآخرها التسليم مع النية ولها شرائط مخصوصة[2]، وهو المعني في هذه المقالة، والتي جُعلت في الدين والشرائع السماوية جزءً من العبادات، بل رأسها.
حيث ذكرت الحكمة في تشريعها وجعلها واجبة لا يرخص في تركها بأي حال من الأحوال، بأنها فلسفة فيها دلالة الاعتراف بربوبية الله(جلّ جلاله)، ومحاربة الشرك والوثنية، وإظهار ذل العبد أمام عظمة الله(جلّ وعلا)، والتنبه من الغفلة، وذكر الله سبحانه وتعالى، والانتهاء عن الفحشاء والمنكر والبغي وغير ذلك[3]، كما ورد في قول الإمام الرضا(عليه السلام) لما كتب(عليهما السلام) إلى محمد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: ((إن علة الصلاة أنها إقرار بالربوبية لله عز وجل، وخلع الأنداد وقيام بين يدي الجبار بالذلة والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاما لله وأن يكون ذاكراً غير ناس ولا بطر.
ويكون خاشعا متذللا راغبا طالبا للزيادة في الدين والدنيا مع ما فيه من الايجاب، والمداومة على ذلك الله عز وجل بالليل والنهار ولئلا ينسى العبد سيده ومدبره وخالقه، فيبطر ويطغى ويكون ذلك في ذكره لربه عز وجل، وقيامه بين يديه زاجرا له عن المعاصي، ومانعا له من أنواع الفساد))[4].
وقد بُينت الغاية من تشريع الصلاة أنها غاية ذات جوانب متعددة، هي:
1- أنها: ذكر الله تعالى، كما قال القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}[5].
2- أنها تجنب العباد الكبر، كما ورد في الرواية عن بضعة المصطفى(صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء(عليها السلام) أنها قالت: ((أن الله فرض الصلاة حتى يتجنب العباد الكبر))[6].
3- أنها تهدم العُجب في الإنسان، كما روي عن الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) قوله: ((أن الصلاة تهدم الكبر والعُجب))[7].
وهكذا نرى أنها ذات بعد عبادي تواصلي مع الله تبارك وتعالى، وكذا ذات بعد أخلاقي بنائي للإنسان، لذا وردت في جميع الشرائع، وإن كانت طريقة أدائها تختلف من شريعة لأخرى[8].
كما أن لها بعداً ثالثاً مصرح به في القرآن الكريم، وهو بعد تنموي للإنسان في جانبه العقلي، إذ أنها لا تقبل من قبل الله تبارك وتعالى إلا بشرط الوعى والإدراك والفهم لما يقال فيها، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...}[9]، والعلم بالشيء هو المرحلة الأولى التي يتفرع عنها الفهم والإدراك.
لذا حذر الشارع المقدس من الدخول فيها والإتيان بها في حال السُكر، والذي يعني في الآية المباركة ليس شرب الخمر، لأننا نتحدث عن مؤمنين، وهم لا يشربون الخمر، وإنما عُني بها أنها لا تقبل من نائم ولا متكاسل ولا متثاقل، وكلها حالات تخالف الفهم والوعي والإدراك لما يقال.
رُوي عن الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام) في كتاب: (تفسير العياشي)، عن زرارة بن أعين، أنه قال: ((لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا، ولا متثاقلا، فإنها من خُلل النفاق، فان الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى يعني من النوم))[10]، وقال(عليه السلام) أيضاً محمد بن علي بن أبي شعبة الحلبي الكوفي عندما سألته عن قول الله تبارك وتعالى: (("يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون..."، قال: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، يعني سكر النوم، يقول: وبكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم، وليس كما يصف كثير من الناس، يزعمون أن المؤمنين يسكرون من الشراب، والمؤمن لا يشرب مسكرا ولا يسكر))[11].
وعليه: فالصلاة عبادة الوعي والتركيز والتنمية، حيث يمرن الإسلام عليها المكلفين في اليوم خمس مرات، لذا جعلها واجبة عليهم، وشرط قبولها بضرورة التفكر والفهم والعلم بما يقال فيها، ومن باب أولى العلم والفهم والإدراك لما يفعلون.
والمحافظة على هذا والاستمرار عليه، هو تمرين للقوة المدركة في الإنسان، وهي (قوة العقل)، إذ أن العقل إذا مرنته على الوعي والتركيز وقرنته بالاستمرار عليه، اعتاد على ذلك، إذ أن اعتياده في واحدة اعتياد لما في غيرها من دون حدود تذكر، وحينئذ يكون الاعتياد تنمية له، فالوعي لا يتجزأ، بل هو وحدة واحدة إن حصلت في جزئها حصلت في كلها، وبذا تكون التنمية العقلية على الفهم والإدراك.
وهذه الميزة في الصلاة(العلم والفهم والوعي والإدراك)، هي التي جعلت الصلاة يعبر عنها بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: {... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ...}[12]، فالانتهاء في أصله يحتاج إلى:
1- التمييز بأنها فحشاء ومنكر، والتمييز يكون بواسطة الإدراك الذي يتم بواسطة العقل.
2- اتخاذ القرار بالانتهاء عن لفحشاء والمنكر، لإدراك النتيجة في الدنيا وفي الآخرة.
وبهذا يتضح السبب الذي من أجله كانت الصلاة، هي: عمود الدين، إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها، كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله): ((إنّ عمود الدين الصّلاة، وهي: أوَل ما يُنظَر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت، نُظِرَ في عمله، وإن لم تَصِحَّ، لم يُنظَر في بقيّة عمله))[13]، وكانت أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، قال الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام): أن ((أول ما يحاسب به العبد الصلاة، فإذا قُبلت، قُبل منه سائر عمله، وإذا ردّت عليه، ردّ عليه سائر عمله، فإذا صلّيت فأقبل بقلبك إلى الله عزّ وجلّ، فإنه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله عز وجل في صلاته ودعائه، إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين إليه وأيده مع مودّتهم إيّاه بالجنة))[14].
لذا من هنا كانت ضرورة عدم التهاون بها، بواسطة المحافظة عليها، حيث جاء في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[15]، أي: عدم التهاون بها وعدم إضاعتها بتركها[16].
الهوامش:-----
[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس ين زكريا، ، ج 3، ص: 301.
[2] معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، محمود عبد الرحمن عبد المنعم، ج 2، ص: 377.
[3] راجع: وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص4.
[4] من لا يحضره الفقيه، محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، ج١، ص: ١٣٩.
[5] سورة طه: 14.
[6] الاحتجاج، أحمد بن علي ابن أبي طالب الطبرسي، ج1، ص: 107.
[7] نهج البلاغة، الكلمات القصار، ص: 512.
[8] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص: 491.
[9] سورة النساء: 43.
[10] تفسير العيّاشي ، محمد بن مسعود العياشي، مج:1، ص: 242.
[11] تفسير البرهان، هاشم البحراني، ج 1، ص: 370.
[12] سورة العنكبوت: 45.
[13] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص: 34.
[14] من لا يحضره الفقيه، محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري ج1، ص: 208.
[15] سورة البقرة: 238.
[16] راجع كتاب: الفقه في القرآن، السيد عبد الأعلى السبزواري، تفسير قوله تعالى: حافظوا على الصلاة).
اترك تعليق