إن أهمية تهذيب النفس والمجتمع تتأكد بدرجة كبيرة من المنظور الديني والإلهي حتى إنه يُعد فريضة مؤكدة على كل إنسان من الناحية الشرعية لأجل تربية النفس وتنميتها على وجه يؤدي إلى السلوك الصحيح والسليم.
وذلك من وجوه ثلاثة مترابطة؛
1. إن الدين يؤكد على الحقيقة المتقدمة من دور تهذيب النفس والخصال السليمة في سعادة الإنسان في هذه الحياة، فهذه الخصال هي سنن الخير والسعادة وأضدادها أسباب الشر والشقاء، ويلفت الدين في هذا السياق على أن هذه السنن هي الصراط المستقيم الذي يؤدي بالإنسان إلى الغاية التي يرجوها.
ويكشف الدين بشكل خاص عن آثار وضعية غير منظورة للإنسان للخير والبركة في الأعمال الفاضلة حتى إذا صدرت من غير المؤمن كبر الوالدين وصلة الأرحام والتصدق على المساكين، بينما تؤدي الأعمال الخاطئة إلى سلبيات ومضاعفات غير متوقعة للإنسان بالنظر العام ومن ذلك ما ورد من دفع الصدقة للبلاء، وزيادة صلة الرحم في العمر، وتأثير ظاهرة اليمين الكاذبة في دمار المجتمع.
٢. إن الله سبحانه متصف بالمبادئ الفاضلة ومودع لها في داخل الإنسان بعناية وحام لها، والمبادئ الفاضلة في داخل الإنسان في الحقيقة تمثل تعليمات الإله التي أودعها في باطن الإنسان.
ثم إن الإله لم يهمل الإنسان ولم يتركه لشأنه، كما قال سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾(1)، وقال عزّ شأنه : ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(2) .
فهو سبحانه قيم على الإنسان كما أن رب الأسرة قيم عليها، وكما أن رب الأسرة يحمي العمل بالقيم داخل الأسرة من خلال حقه على أفرادها، فإنه تعالى يقدر العمل الفاضل والخصلة الفاضلة من الإنسان ويرعى صاحبها، ويكره العمل الخاطئ والخطيئة ويوكل صاحبها إلى نفسه، كما قال تعالى(3): ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةٌ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
۳. - وهو الأهم - أن الدين يقرر أن الإنسان لا يفنى بهذه الحياة بل هو كائن خالد، وسوف يلقى ما سعى إليه في الحياة الآخرة حسب أعماله في هذه الحياة، فمن عمل عملاً فاضلاً فقد استثمر لحياته الأخرى ولقي مكافأة وجزاء وفضلاً، ومن فاته العمل الفاضل فقد فاته خير كثير، ومن أتى بعمل خاطئ لقي عناء وشقاء.
قال سبحانه:
١ - ﴿مِّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لَمِن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلَّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾(4) .
٢ - ﴿قُلْ هَلْ تُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنعا﴾(5) .
۳ - ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾(6).
٤ - ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾(7) .
ه - ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(8).
وعلى الجملة فالحياة ميدان للسباق في الفضيلة، والله سبحانه ـ الذي هو المبدع لهذا المشهد كله - راع لهذا السباق، ولكل امرئ درجته بحسب ما عمل فيها، والشرائع الإلهية جاءت لتكشف هذا المشهد الرائع والجاد، قال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(9)، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(10) .
هذا بالنسبة إلى تهذيب الإنسان لنفسه.
أما بالنسبة إلى الآخرين: فإن كون الإنسان جزءاً من حركة نشر الحكمة والفضيلة عمل عظيم ومبارك، فمن يحرص - مضافاً إلى الاهتمام بتهذيب نفسه - إلى ترويج الفضيلة في وسط الآخرين فإنه يكون صدى الصوت الإله في الدعوة إلى الفضيلة، وإن الله سبحانه ليكبر المرء الذي يكون له اهتمام بنشر الفضيلة شريطة أن يكون مخلصاً في ذلك لا يبتغي به جاهاً ولا مكانة، وأن يكون ذلك بالأسلوب الملائم والحكيم، فيجعل له سبحانه من الأجر مثل أجر من استجاب لها في أثر دعوته والاقتداء به، ومن ثم جاء في الحديث النبوي المعروف أن: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص أجورهم شيء))(11).
وبذلك تتعلق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين - كما ذكرنا من قبل ، فالمراد بهذه الفريضة إنما هو أن يستفيد الإنسان من ثقله وموقعه في الأسرة والمجتمع في اتجاه نشر المعروف والترغيب عن المنكر بالطرق التربوية الملائمة والمؤثرة.
والدعوة إلى الفضيلة أنواع ثلاثة دعوة ناطقة ودعوة صامتة، ودعوة مزدوجة، بأن يكون نطق الإنسان وقوله مقروناً بعمله الصامت شريطة أن يكون هذا العمل اندفاعاً فاضلاً حقيقةً لا رياء ومصانعة، ولكل مقام ما يناسبه من أنواع الدعوة، فربّ صمت أبلغ من كلام، وأولى الناس بالتقدير من ربي نفسه على الفضيلة فكان بعمله مثلاً فاعلاً وأسوة مؤثرة للآخرين.
وأما من نادى بالفضيلة وظهر منه خلافها فإنه يهون الفضيلة بهذه الازدواجية ويحاسب على ذلك، ومن ثم جاء قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(12)، وقال الإمام علي عليه السلام في بعض كلامه: ((لَعَنَ اللَّهَ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَه ، والنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ))(13).
وللتربية آداب ولياقات بعضها معروف وبعضها موصوف في القرآن الكريم وما أثر عن النبي الله وأهل البيت الله، وهناك تفاصيل يتم بيانها في علم النفس التربوي والتنمية الأسرية والإنسانية.
ولتجربة الإنسان دخل كبير في الانتقال إلى الأساليب الملائمة أو استيعابها، فعلى الإنسان الحكيم -وخاصة من تولى أمر التربية في الأسرة أو في المراكز التعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات ـ أن يتعلم من الحياة دائماً دروساً في أساليب التربية، ويعتبر بالأحداث التي يشهدها، ويهتم بتثقيف نفسه من خلال الاطلاع على النتاج الإنساني الحكيم في العلوم ذات العلاقة.
ولنختم هذا اللقاء بآيات من القرآن الحكيم، قال سبحانه يصف مشهد الحياة وآثار سعي الإنسان فيها: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾(14) .
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:----
(1) سورة القيامة : ٣٦.
(2) سورة المؤمنون : ١١٥.
(3) سورة النحل : ۹۷ .
(4) سورة الإسراء : ۱۸-۲۱
(5) سورة الكهف : ١٠٣-١٠٤
(6) سورة الأنبياء : ٩٤ .
(7) سورة النجم : ٣٩-٤١ .
(8) سورة الأنبياء : ٤٧ .
(9) سورة الأحقاف : ١٩.
(10) سورة المجادلة : ١١.
(11) تهذيب الأحكام ج : ٦ ص : ١٢٤ ، وقريب منه في مسند أحمد ج : ٣١ ص : ٠٥٣٧
(12) سورة البقرة : ٤٤ .
(13) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح ص: ۱۸۸.
(14) سورة الليل : ١-١٣
اترك تعليق