الأمراض الأخلاقية الجماعية

قد يصاب الأفراد في بعض الأمراض الأخلاقية كـ(العجب) و (التكبر) و (الأنانية) وغيرها وعليه حينئذٍ أن ينتبه إلى حاله ويصلحها، وأول خطوة للعلاج هو الاعتراف بهذه الأمراض وإلا شكلت له غدة سرطانية تأكل نفسه من الداخل.

وقد تصاب الجماعات وليس الأفراد فقط بتلك الأمراض الأخلاقية، فنجد هناك جماعة يغلب على طابعها التكبر والأنانية والتعالي على الآخرين، كما هو الحال في الشواهد القرآنية الآتية:

• الشاهد الأول: العجب بنصر الله والكثرة العددية

قال تعالى عن إعجابهم بأنفسهم يوم حنين: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة: ٢٥).

فذكرت هذه الآية المباركة عاملين لابتلائهم بمرض العجب بالنفس:

العامل الأول: نصر الله تعالى لهم في مواطن كثيرة.

العامل الثاني: كثرتهم العددية.

فلا ينبغي للجماعات الاغترار بانتصاراتها والتعالي على الخلق من خلالها وإن كانت تلك الانتصارات بتأييد من الله تعالى، كما لا ينبغي لهم أيضًا الاغترار بالعدد والكثرة، وإنما تتوكل كل الجماعات في كل الأحوال على الله تعالى وحسن توفيقه.

وإذا كانت هذه الجماعة ذات صلة بالله تعالى والله يريد لها الخير فإنه يبتليها بالخسارة والإذلال لكي تراجع نفسها ولا تعد تعتمد على تلك الأسباب التي تدعوها للتكبر والإعجاب بالنفس، وأما إذا لم تكن ذات صلة بالله تعالى فيمكن أن يمدهم الله سبحانه في طغيانهم يعمهون.

• الشاهد الثاني: نكران فضل الآخر

قال تعالى في تخاصمهم: {وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى‏ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَقالَتِ النَّصارى‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة: ١١٣).

فبالرغم من أن الملتين أحدهما مكملاً للآخر في سلسلة تكامل البشرية من جهة العقيدة والشريعة إلا أنهم في مقام الخصومة الناتج عن الإعجاب بالنفس الجماعي يسلب كل منهم كل خصلة وكمال عن الآخر من غير عدل ولا انصاف.

وهذا نفسه هو التعصب المذموم الذي روي فيه عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرًا من خيار قوم آخرين) [الكافي ج ٨ ص ١٦٢].

• الشاهد الثالث: الغلو في جماعتهم

قال تعالى حاكيًا عن لسان أهل الكتاب: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة: ١٨).

فالأمراض الأخلاقية الجماعية جعلتهم يظنون أنهم فوق مستوى سائر البشر وأنهم أحباب الله وأبناؤه، إلا أن القرآن الكريم أوضح بطلان هذا الإعتقاد ببرهان واقعي يرجعهم إلى بشريتهم، وهو أن العذاب والبلاء النازل عليهم نفسه من المؤشرات على بطلان عقيدتهم، فلو كانوا أحباب الله إلى هذا الحد لما عذب منهم أحد في الدنيا بذنوبه ولا في الآخرة.

• الشاهد الرابع: احتكار الجنة

قال تعالى أيضًا عن أهل الكتاب: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (البقرة: ١١١).

وهذا الاحتكار من النتائج الطبيعية لحالة العجب بأنفسهم والشعور الوهمي بأنّهم هم الأفضل عند الله تعالى دون سواهم من الخلق، واللافت للنظر أن دعواهم هذه مبنية على غير برهان ومن دون دليل، بل لمجرد كونهم من هذه الجماعة أو تلك.

وهذا مشابه للتوهم الحاصل لبعض الشيعة بكونهم من أهل الجنة لمجرد كونهم شيعة، وقد ردع الأئمة (عليهم السلام) هذا النوع من الاشتباه ببيانات عدة كما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) وهو يخاطب جابر:

(يا جابر والله ما نتقرب إلى الله عز وجل: إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعًا فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيًا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع) [وسائل الشيعة ج ١٥ ص ٢٣٤].

وتعالج تلك الأمراض الأخلاقية الجماعية كذلك بالإقرار والاعتراف بوجودها أولاً لكي لا تظن تلك الجماعة أنها (شعب الله المختار) ومن ثم التواصي بين المؤمنين على خلع تلك الصفات الذميمة من جماعتهم، وغالبًا ما يكون (رأس الجماعة) هو المسؤول عن تربيتها، وأما إذا كان (الرأس) مريضًا والمرض فيه مستحكمًا فلا يزال أمر هذه الجماعة إلى سفال.

والخلاصة: إن الإنسان الفرد كما يصاب بالأمراض الأخلاقية فكذلك الجماعة قد تصاب بتلك الأمراض أيضًا، وكما تعالج الأمراض الفردية بالإقرار بها أولاً، تعالج الأمراض الجماعية بالإقرار بها أيضًا.

: الشيخ مصطفى محمد جاسم