الغيبة فاكهة المجالس .. آفة مدمرة للأخلاق والمجتمع

الغيبة، ذلك السلوك الذي يشبه السُمَّ الزعاف، قد أصبحت في كثير من المجالس بمنزلة "فاكهة" يتلذَّذ بها البعض دون إدراك لعواقبها المدمرة للنفس والمجتمع، إنها من كبائر الذنوب التي حذر منها الله تعالى في كتابه الكريم، وحذر منها النبيُّ محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلم وأَهل بيته الطاهرون. هذا المقال يسعى إلى تسليط الضوء على هذا الداء الخفي، وتبيان آثاره وعواقبه في الدنيا والآخرة.

تحذير الله من الغيبة في القرآن الكريم

قال الله تعالى في كتابه العزيز:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].

في هذه الآية الكريمة، يشبِّه الله الغيبة بأكل لحم الأخ الميت، في صورة تقشعر لها الأبدان، إنَّها تعبير عن فظاعة هذا الفعل وقبحه، ودعوة صريحة إلى اجتنابه واتقاء الله تعالى في الأقوال والأفعال.

الغيبة في ضوء السنة النبويَّة

عرّف النبيُّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيبة في حديث واضح لأَبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه): (قلت: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قلت: وإن كان في أَخي ما أَقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه».

كما قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: «الغيبة أَشد من الزنا». قلت: ولمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأَنَّ الرجل يزني فيتوب إلى الله، فيتوب الله عليه، أَمَّا الغيبة فلا تُغفر حتى يغفرها صاحبها». (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج٣ ، ص ٢٣٣١).

 

تحذير أَمير المؤمنين عليه السلام من الغيبة

أَورد الإمام عليٌّ عليه السلام في نهج البلاغة توجيهات بليغة في النهي عن الغيبة:

«يا عبد الله، لا تعجل في عيب عبد بذنبه، فلعلّه مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك تُعذّب عليها. فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلًا له على معافاته مما ابتُلي به غيره». (شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ٩، ص٥٩).

هذه الكلمات العظيمة تذكِّرنا بضرورة النظر إلى عيوبنا بدلاً من التركيز على عيوب الآخرين، مع شكر الله على ستره لنا.

دوافع الغيبة

 إن للغيبة عواملَ كثيرةً ودوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لارتكابها، أوضحها وبيَّنها الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث حيث قال: «أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتهمة، وتصديق خبر بلا كشفه، وسوء ظن، وحسد، وسخرية، وتعجب، وتبرم، وتزين. فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق، فيصير ذلك مكان الغيبة عِبرة، ومكان الإثم ثواباً». (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٢، الصفحة ٢٥٧).

 

إذن، فالحسد والأنانية وحب النفس، والغرور والتكبر، والعجب بالنفس، ونصرة العشيرة ومجاملة الأصحاب ومجاراتهم دون وجه حق، والحقد، والتشفّي وإطفاء سورة الغضب، وسوء الظن بالآخرين، والسخرية والاستهزاء بهم، وغير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية كلها عوامل تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في هذه الرذيلة المهلكة.

آثار الغيبة

الغيبة، هذا الذنب الكبير، لا يقتصر أثره على الفرد فقط، بل يمتد إلى المجتمع ككل، مخلفًا أضرارًا دنيوية وأُخروية بالغة، كما هو الوارد في الروايات الشريفة، وسنشير إلى بعضها:

أ - الآثار الدنيويـَّة للغيبة

1- بغض الله: من آثار الغيبة بغض الله تعالى للمغتاب، وكره الناس له، فضلا عن إحباط الأجر والثواب، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إياك والغيبة، فإنها تمقتك إلى الله والناس وتحبط أجرك» (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج ٣، الصفحة ٢٣٢٨)، وعنه عليه السلام أيضاً قال: «أبغض الخلائق إلى الله المغتاب». (غرر الحكم ودر الكلام، عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، ج ١، ص٢٢١).

2- اللعنة: كذلك من آثار الغيبة أنها توجب اللعنة، وفي هذا المعنى روي عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: «ملعون ملعون من اغتاب أخاه» (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧١ ،ص ٢٣٧)، والمراد باللعنة، الطرد من رحمة الله.

3- أقبح اللؤم: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «من أقبح اللؤم غيبة الأخيار» (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج ٣ ،ص ٢٣٢٨).

4- تأكل دين الرجل: عن أَبي عبد الله عليه السَّلام قال: «قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: الغيبة أَسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه». (شرح أصول الكافي، محمد صالح المازندراني، ج ١٠ ،ص ٨).

5- أشد من الزنا: عن أَبي ذر عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «الغيبة أَشدُّ من الزنا»، قلت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: «لأن الرجل يزني فيتوب إلى الله فيتوب الله عليه، والغيبة لا تغفر حتى يَغفرها صاحبها».(ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج٣ ، ص ٢٣٣١).

6- تورث غيبة المغتاب: وفي هذا المعنى فإن المغتاب لا يأمن على نفسه من أن يغتابه غيره جزاءً بما عمله، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لا تَغتب فتُغتب، ولا تحفر لأَخيك حفرة فتقع فيها، فإنك كما تدين تُدان». (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٢، ص ٢٤٩).

7- الخروج من ولاية الله تعالى: فالغيبة ليست فقط تخرج الشخص المغتاب من ولاية الله تعالى، بل يصل به الحال إلى حدّ أن لا يرضى به الشيطانُ نفسُهُ، فعن أَبي عبد الله عليه السلام قال: «من روى على مؤمنٍ رواية يريد بها شينه وهدم مرؤته ليسقط من أَعين الناس، أَخرجه الله عزَّ وجلَّ من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان». (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٢ ، ص ١٦٨).

8- عدم قبول الصلاة والصوم: عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: «من اغتاب مسلماً أَو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أَربعين يوماً وليلة، إلَّا أَنْ يغفر له صاحبه»، (مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج٧، ص٣٢٢)، وهنا يعني بصاحبه أي الشخص الذي اغتابه.

 

ب - الآثار الأُخرويـة للغيبة:

الغيبة ليست مجرد ذنب دنيوي، بل لها آثار وخيمة في الآخرة أَيضاً، تضرُّ بالإنسان عند الحساب وتحرمه من الرحمة الإلهية، نستعرض هنا أهم آثارها الأُخروية وفق ما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام:

1- دخول النار: روي عن الله تعالى أَنه قال لموسى عليه السلام: «من مات تائبًا من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنَّة، ومن مات مُصرّاً عليها فهو أَوَّل من يدخل النار». (جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج١٦، ص ٣٢٨)، وهذا الحديث يُظهر خطورة الغيبة وعقوبتها، حيث يكون المغتاب معرضًا لأَن يكون أَول من يَلقى العذاب.

2- إدام كلاب النار: قال أَمير المؤمنين علي عليه السلام في وصيته لنوف البكالي: «اجتنب الغيبة، فإنَّها إدام كلاب النار». (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج٣ ، ص٢٣٢٩)، هذا التشبيه يبين أَن الغيبة تجعل صاحبها غذاءً لكلاب نيران جهنم والعياذ بالله، مما يعكس عظيم العقوبة المترتبة عليها.

3- محو الحسنات

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة أَقبل قوم على الله عزَّ وجلَّ فلا يجدون لأنفسهم حسنات، فيقولون: إلهنا وسيدنا، ما فعلت حسناتنا؟ فيقول الله عزَّ وجلَّ: أكلتها الغيبة. إن الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحلفاء (الحشائش اليابسة)». (جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج١٦، ص٣٢٧) تشير هذه الرواية إلى أن الغيبة تمحو كل الأعمال الصالحة التي قام بها الإنسان، تاركة إياه فقيرًا في ميزان حسناته.

4- رائحة كريهة في المحشر: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من اغتاب امرأً مسلمًا بطل صومه، ونقض وضوءه، وجاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة، يتأذى بها أهل الموقف». (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج٧٢ ، ص٢٤٧) هذا العقاب يُظهر الذل والهوان الذي يواجهه المغتاب أمام الخلق يوم القيامة بسبب فعله في الدنيا.

التصدي للغيبة: منهج عمليٌّ وإيمانيٌّ

الغيبة من أخطر الذنوب التي تهدد الأفراد والمجتمعات، ولذلك يجب التصدي لها بوعي وإرادة قوية، والتصدي لهذا الذنب يتطلب خطوات عملية وإيمانية تشمل الفرد والمجتمع، ومنها:

1- تذكر مراقبة الله على الدوام: الاستشعار الدائم لوجود الله ورقابته يُعين الإنسان على الابتعاد عن الغيبة.

2- محاسبة النفس: على الإنسان أن يتفكر في عيوبه بدلاً من التركيز على عيوب الآخرين.

3- الإصلاح الذاتي: قال الإمام علي عليه السلام: «لا تكشفنَّ مساوي الناس، فإنك سترى عيوبًا كثيرة في نفسك». (موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، ج٤ ، ص٢٣٩).

4- الإحسان بدل الإساءة: إذا وُجدت الرغبة في الغيبة، فليُبدلها الإنسان بدعاء للمغتاب أو بالكلام الطيب عنه.

 

في الختام نستطيع القول بأن الغيبة ليست مجرد زلة لسان؛ بل هي معصية عظيمة تحمل آثارًا جسيمة على الفرد والمجتمع، تهدم القيم الأخلاقية، وتنشر الكراهية، وتحبط الحسنات.

فلنحرص على أن تكون مجالسنا عامرة بذكر الله والتناصح بالخير، مبتعدين عن هذه الفاكهة المحرمة، وقديماً قالوا: (إذا أردت أن تكون محبوبًا عند الله والناس، فاحفظ لسانك).

: ضياء قاسم عبد العالي