مشكلة الشر من منظور صدر المتألهين

 تُعتبر مشكلة وجود الشر في العالم واحدة من أهمّ المشكلات الفلسفيّة والكلاميّة قديمًا وحديثًا، ففي العصور القديمة اعتبرها البعض مناقضة لفكرة الإيمان بإله كُلِّيّ القدرة والعلم والخير، إلّا أنّها في العصور الحديثة أخذت منحىً آخر، فبدلًا من الاستدلال بها على إنكار بعض الصفات الإلهيّة بدأت تشكل مشكلة الشر أساسًا لإنكار وجود الإله، بل أصبحت تمثل ركيزة من ركائز الفكر الإلحادي، ويلخّص الفيلسوف الأمريكي رونالد ناش (ت٢٠٠٦م) الحال بقوله: "الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي، لكن كلّ الفلاسفة الذين أعرفهم يؤمنون بأنّ أهمّ تحدٍّ جادٍّ للإيمان بالله كان في الماضي، وكائن في الحاضر، وسيبقى في المستقبل، هو مشكلة الشر"(١).

 وقد كان للفيلسوفِ اليوناني القديم أبيقور (ت٢٧٠ق م) قدم السّبق في الصياغة الأولى لهذه المشكلة، وذلك بحسب ما أورده الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم (ت١٧٧٦م) في كتابه (محاورات في الدين الطبيعي) على لسان أبيقور قائلًا: "إنّ أسئلة أبيقور القديمة لا تزال بلا أجوبة: هل الإله يريد القضاء على الشر، ولكنَّه لا يستطيع؟ فهو إذن عاجز، أم أنّه يستطيع، ولكنَّه لا يريد؟ فهو إذن حقود، أم أنّه قادر ويريد معًا؟ فمن أين يأتي الشر إذن؟"(٢).

 هكذا كانت الصياغة الأولى لمشكلةِ وجود الشر في العالم، التي اعتبرها البعض آنذاك دليلًا على إنكار بعض الصفات الإلهيّة، ولكن لم تتوقف صياغتها عند القديم أبيقور، بل صار في العصور الحديثة لمشكلة الشر صياغات أخرى تتّخذ منها حجّة لإنكار وجود الإله، وكلّها تشترك في التركيز على قضيّة أنّ وجود الشر في العالم يتعارض منطقيًا مع فكرة وجود الإله(٣)، وذلك على المقدمات التالية:

●     الإله كلي القدرة وكلي العلم وكامل الخيريّة.

●     وإذا كان الإله الذي بهذه الصفات موجودًا، فلا يمكن أنْ يوجد الشر في العالم.

●     لكن الشر موجود في العالم.

●     إذًا، الإله غير موجود.

   وفي إطار الإجابة عن تساؤلات أبيقور القديمة، والبحث عن حلول منطقيّة لمشكلة الشر بصياغاتها الجديدة، كان لمعظمِ الفلاسفة -منذ انطلاق الشرارة الأولى لهذه المشكلة وإلى يومنا هذا- إسهامات بارزة في معالجتها، ومن أهمِّها ما تقدّم به الفيلسوف الشيعي محمد بن إبراهيم الشيرازي -رحمه الله تعالى- (ت١٠٥٠ه‍) -المعروف بـ(صدر المتألهين أو الملا صدرا)- حيث قدّم في كتابه الشهير بـ(الأسفار الأربعة)(٤) نظرة جديدة حول طبيعة الشر من شأنها أنْ تعالج مشكلة الشر من أساسها، وذلك في ضوء مبنى أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة، ولكن قبل بيان هذا الرأي لا بدّ من التعرض لشرح نظريّة أصالة الوجود إجمالًا، وذلك على النحو التالي:

  في بعض الحالات عندما نحمل محمولًا على موضوع نلاحظ أنّه لا يوجد ثنائية في الواقع بين المحمول والموضوع، فلا يكون للمحمول حقيقة مختلفة عن الموضوع في العالم الخارجي، بل هناك وحدة بينهما في الواقع، وإنّما بسبب القدرة التحليليّة للذهن نجد أنّ هناك ثنائيّة بين الموضوع والمحمول، فتكون الكثرة بينهما في الذهن فقط دون خارجه، ومن هذا القبيل الوحدة بين الوجود والماهيّة.

  فمثلًا: عندما نقول: "الشجرة موجودة"، نلاحظ أنّ المحمول (أي مفهوم الشجرة) والموضوع (أي مفهوم الوجود) متكثّران في الذهن وهناك اختلاف بينهما، ولكن في العالم الخارجي هناك وحدة بينهما؛ لأنّ ظهور أحدهما مجعول بالآخر، وإنّما الذهن هو الذي يكوّن مفهومين مختلفين من هذه الوحدة الخارجيّة، فيكون الوجود زائدًا على الماهيّة في الذهن.

   وعليه، فإنّ الوجود والماهيّة في الواقع حقيقة واحدة، مثل: الشجرة ووجود الشجرة، وليسا صنفين من الحقائق، وبالتالي لا يمكن أنْ يكون الوجود والماهيّة معًا أصيلين في الواقع؛ لعدم إمكان أنْ يكون لحقيقة واحدة حقيقتان بحيث تتألف من ذاتها ووجودها، بل إمّا أنْ يكون الوجود هو الذي يعبّر عن الواقع والماهيّة مجرّد وجود ذهني أو العكس.

  وقد ذهب صدر المتألهين -رحمه الله تعالى- إلى أنّ في العالم الخارجي وجودًا فقط (حقيقته وليس مفهومه)، وأنّ الذهن عندما يلاحظ حدود الوجود في الواقع، فإنّه يكوّن بعض المفاهيم للأشياء المختلفة، وهكذا تكون الأصالة والواقعيّة للوجود، وتكون الماهيّة افتراضًا ذهنيًا، وهذا هو ما يسمّى بـ(نظريّة أصالة الوجود).

   ولبيان كيف واجهت أصالة الوجود مشكلة الشر نقول: إنَّنَا من خلال تتبّع الشر في العالم سوف نُدرك أنّ مشكلة الشر تنشأ في حالات الفرق والتمايز بين الأشياء، فمثلًا: نجد أنّ أغلب الناس يتنعّمون بحاسة البصر بينما حرم بعضهم منها الخ، وبسبب هذا التمايز والفرق بينهم تطفو مشكلة الشر على السطح، ويعتقد الملا صدرا أنّ السبب وراء حالات الفرق والتمايز بين الأشياء؛ هو وجود هذه الأشياء في عالم مادّي متكثّر بالضرورة؛ إذ أنّ ذلك يقتضي أنْ يكون هناك وجودات مختلفة ينتزع منها الذهن مفاهيم مختلفة، فالله -سبحانه وتعالى- لم يجعل ماهيّة الشيء وشيئيته، بل ما جعله -تعالى- هو الوجود المحدود بحدودٍ مختلفةٍ، وبعد ظهور هذه المرتبة من الوجود، فإنّ الذهن ينتزع من حدودها مفهوم الماهيّة، وبالتالي يكون التمايز والفرق بين الأشياء راجعًا إلى نوع الحدود الناتج عن الكثرة الموجودة في عالمنا.

  والحاصل: أنّ صدر المتألهين -رحمه الله تعالى- يرى أنّ حيثية الوحدة والخيريّة في الأشياء تعود إلى الوجود الذي جعله الله -تعالى-، وأنّ حيثيّة الشر والتمايز في الأشياء تعود إلى الماهيّة غير المجعولة التي ينتزعها الذهن من الحدود المختلفة لمرتبةِ الوجود، وهكذا يكون كلّ خير منسوب لله -تعالى-، وكلّ شرّ يعود إلى الماهيّة الاعتباريّة التي لا واقعيّة لها؛ بسبب كونها في المراتب الدنيا من مراتب الكمال الوجوديّ. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣) د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص١٠٩، مركز تكوين للأبحاث والدراسات، الطبعة الأولى، سنة (٢٠١٦م).

(٤) يُراجع: الشيرازي، ملا صدرا محمد بن إبراهيم، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج٢، ص٣٥٣، و ج٦، ص٣٨٢، و ج٧، ص٦٧، و ص٧٤، دار إحياء التراث العربي، لبنان-بيروت، الطبعة الرابعة، سنة (١٩٩٠م).

: الشيخ قتيبة عقيل المطوري