ليلة القدر شاهدًا واضحاً ودليلًا ساطعًا على حقيقة الإمامة

مدخل حول الغيب والشهود والعلاقة بينهما:

لا يمكن أن تتحقق معرفة الغيب والشهود والعلاقة بينهما من خلال الافتراضات النظرية والتأملات الخيالية، فالأسس المنطقية التي يرتكز عليها العقل النظري والقدرة التخيلية للتأمل الباطني لا يمتلكان المؤهل الكافي لمعرفة ذلك، ولذا فشلت كل الفلسفات الإنسانية بكل اتجاهاتها وميولها المعرفية في خلق تصور واضح يكشف عن اسرار الوجود وفلسفة الخلق، فمهما كان لعقل الإنسان القدرة على التفكير ومهما تطورت خبراته التأملية لا يمكنه إيجاد مقاربات واقعية للغيب وعلاقته بالشهود، فما دام العقل يكتسب خبراته من الشهود فلا سبيل له لمعرفة الغيب إلا من خلال ما يكشفه الغيب عن نفسه، ومن هنا كانت رسالات الله ووحي السماء ضرورة معرفية قبل أن تكون ضرورة إيمانية، فإذا كان العقل يمثل جانب الشهود فان الوحي يمثل جانب الغيب، وعليه فإن معرفة العقل والوحي هي التي تقرب الإنسان من معرفة الغيب والشهود معاً، والعلاقة التكاملية بينهما هي التي تحقق نوعاً من التوازن بعيداً عن الافراط والتفريط، فالاتجاهات المادية اعتدّت بالشهود فأهملت الغيب والاتجاهات الروحية اعتدّت بالغيب فأهملت الشهود، ورسالات الله هي وحدها التي تجعل الصورة اكثر وضوحاً عند الإنسان، ففي اللحظة التي تفتح الطريق أمام العقل لكي يجوب في عالم الشهود كما يشاء، في ذات اللحظة تحذره من الغرور الذي يخال معه أنه يمتلك سلطة على الغيوب، فإذا كان لعالم الشهود ضوابطه الخاصة التي تسيره، فإن للغيب أيضاً معالمه التي تحكمه بحيث لا يمكن قياسه بحال الشهود، فليس من مهام الوحي تحجيم العقل ومصادرة قدراته وكذلك ليس من شأن العقل مقايسة الغيب بمقاييس الشهود ومعايير الحس.

والصفوة الذين انتجبهم الله واختارهم لوحيه يمثلون قمة التكامل بين الغيب والشهود، فهم حلقة الوصل بين مادية الإنسان وبشريته وبين تطلعه الروحي لعالم الغيب واسرار الوجود، صحيح أن الله قد خلق آدم من طين لكنه نفخ فيه من روحه واسجد له ملائكته المقربين، فعبره يمكن أن يتواصل الغيب بالشهود والشهود بالغيب، فأنبياء الله وصفوته بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ولكنهم من جهة أخرى هم سفراء الله وخلفائه، وبذلك يمثلون قدرة الله وسلطانه، ويعبرون عن علمه وحِكمته، وينفذون إرادته واقداره، فهم ظل الله في أرضه وعينه على خلقه، فعن امير المؤمنين (عليه السلام): (.. ويطيعنا كل شيء حتى السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والجنة والنار، أعطانا الله ذلك كله بالاسم الأعظم الذي علمنا وخصنا به، ومع هذا كله نأكل ونشرب ونمشي في الأسواق ونعمل هذه الأشياء بأمر ربنا ونحن عباد الله المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.)[1].

وكيف لا يكون ذلك وقد اسجد الله الملائكة لخليفته وجعلهم خاضعين لأرادته؟ فإذا كانت الملائكة في لسان القرآن هي المدبرات لأمر الكون والمسيرات لأمر الوجود في قاله تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) فإن خضوعها لآدم وسجودها له يعني خضوع الأكوان وسجود عالم الشهود له بأذن الله وقدرته، ومن هنا كانت الولاية التكوينية للأنبياء سابقة لولايتهم التشريعية، وما يظهر على اديهم من معاجز إنما يكشف عن بعدهم الغيبي، ولا يعني ذلك أن يحكم الأنبياء الدنيا بتلك السلطة الغيبية لأن الله اجرى الأمور بحسب أسبابها الظاهرية، كما أن عدم اظهار تلك السلطة بشكل دائم لا يعني أنهم فاقدين لها وإنما يتم اظهارها من أجل التحدي والاعجاز لأثبات ارتباطهم بالله تعالى، وقد اخبرنا القرآن ببعض معاجز الأنبياء السابقين التي تؤكد مالهم من سلطة غيبية وولاية تكوينية، قال تعالى في شأن النبي سليمان: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، حيث كشفت الآية بشكل واضح أن الله أعطى لسليمان (عليه السلام) القدرة على تسخير الرياح والجن لخدمته متى شاء، كما علمه منطق الطير والنمل، قال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَىْ‏ءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)، بل كشف القرآن عن القدرات الغيبية لمن كان مع سليمان من الجن والإنس، عندما طلب منهم أن يحضروا له عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين، قال تعالى: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)، فكانت قدرة عفريت من الجن أن يأتي بالعرش قبل أن يقوم سليمان من مقامه، قال تعالى: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ) ولكن كانت قدرة الإنسان الذي عنده علم من الكتاب اكبر من قدرة الجن، قال تعالى: (قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى)

وكذلك الحال فيما اخبرنا الله به عن معاجز نبي الله عيسى (عليه السلام) حيث دلّت جملة من النصوص القرآنية على تمتّعه بالقدرة التكوينية؛ من قبيل إحياء الموتى وخلق الطير من الطين ونفخ الروح فيه، وإبراء الأكمه والأبرص من غير برهم أو علاج، كل ذلك يدل على ما منحه الله لأولياه من سلطة غيبية لا يمكن تفسيرها أو فهمها من خلال أسس العقل وضوابطه المنطقية، قال تعالى: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِى الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وقد اكدت الآية بالإضافة للقدرة الغيبية لعيسى (عليه السلام) اكدت على أن كل ذلك بإرادة الله وأذنه، فالإنسان بدون الله ليس له حول ولا قوة، قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي...)

وهكذا تكشف معاجز الأنبياء والاولياء في القرآن الكريم عن ولايتهم التكوينية وسلطتهم الغيبية، ومن ذلك يمكننا أن نجزم بأن الأنبياء والاوصياء هم الذين يشكلون حلقة الوصل بين عالم الغيب والشهود، فما يأتي من الله للعباد يمر عن طريقهم وما كان من العباد لله هم أيضاً الوسطاء فيه، وبذلك نفهم لماذا لا تخلوا الأرض من حجة لله ظاهراً كان أو غائباً؟ لأن مهامهم ليست مختصرة على التشريع والقيادة السياسية والاجتماعية، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: "يا جابرُ، ما سترنا عنكم أكثر مما أظهرنا لكم...إنّ الله قد اقدرنا على ما نُرید، فلو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها"[2]

الإمامة وصلة الوصل بين الغيب والشهود

للوقوف على الإمامة ودورها الغيبي لابد من الرجوع إلى التوحيد وكيف يمكن أن يتجلى في حياة الإنسان المسلم، فاعتقاد المسلم بتوحيد الله يعني اعترافه بهيمنة الله على الخلق والوجود تكويناً وتشريعاً، فالله هو من تكفل بخلق الإنسان وهدايته، يقول تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)، حيث أكدت الآية على وحدانية الله في التكوين والتشريع، فالله هو الذي أعطى الأشياء وجودها ونظامها، وهو الذي يمنحها غايتها ومنتهاها، والإنسان لا يمكنه الهروب عن أمر الله وإرادته، فهو ليس إلا مخلوقاً مربوباً لله تعالى لا يملك من وجوده ومن شؤونه حولاً ولا قوة، قال تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً )، ولكن غرور الإنسان وجهله يحجبه عن رؤية هذه الحقيقة الواضحة قال تعالى: (يا أَيُّهَا الإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)، فالإنسان في منطق القرآن كائن مغرور بنفسه من غير أن يملك مبرراً لغروره، لكونه مخلوق طارئ على الوجود لم يكن ثم كان. ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك الله إلا بإذن خاص منه تعالى؛ لأنه ليس إلا عبداً مملوكاً لسيده ومولاه، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ)، فالسجود كاشف عن الخضوع التكويني لله تعالى، والإنسان المؤمن بسجوده الاختياري لله يمثل مظهراً إرادياً للخضوع في التكوين، وما خُصَّ به الإنسان دون سائر المخلوقات من حرية وإرادة، لا تُخرجه من ملكوت الله وحاكميته المطلقة، كما لا تحرر الإنسان من واقع فقره وحاجته لله سبحانه وتعالى.

فإذا لم يكن للإنسان سيادة على نفسه، فمن سفه الفكر وسخافة التقدير، أن يعتقد بأن له سيادة على آخرين، فالله وحده له الحكم والهيمنة، (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ)، والتوحيد ضمن هذا الفهم، هو التسليم المطلق لله تعالى، بحيث لا يحق للإنسان أن يخرج عن سيادة الله طرفة عين، في فعله وسلوكه وكل شؤون حياته.

وهنا نتساءل كيف تتجلى حاكمية الله على حياة الإنسان وهو مخلوق ذو طابع اختياري؟

لا يجوز لنا الاعتقاد بأن الله هو الذي يتنزل إلى واقع الإنسان، ليجري حكمه وسلطانه بحيث يباشر البشر ويخالطهم، فالله أعزّ وأجلّ وأكرم من أن تحيطه العقول أو تدركه الأوهام، فهو لا يُؤيَّن، ولا يُكيَّف ولا يشار إليه ولا يحد..، كما لا يجوز لنا الاعتقاد، بأن البشر هم الذين يرتفعون إلى مقام مخاطبة الله والتحاكم لديه.

ولا يكون هناك خيار لسيادة الله على البشر، وحكومته في الأرض، إلا عبر وسيط، يمثل حكم الله وإرادته، وبذلك تنكشف لنا فلسفة الرسول والرسالة، كحقيقة مرتبطة بحقيقة التوحيد، ومصداق عملي لولاية الله وسلطانه على الخلق. وَقَدْ بَيَّنَ الأمامُ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بِأَرْوَعِ بَيْانٍ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ السَّائِلُ:(فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقَاً صَانِعَاً مُتَعَالِيَاً عَنَّا وَعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَكَانَ ذَلِكَ الصَّانِعُ حَكِيمَاً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَهُ خَلْقُهُ وَلَا يُلَامِسَهُمْ وَلَا يُلَامِسُوهُ وَلَا يُبَاشِرَهُمْ وَلَا يُبَاشِرُوهُ وَلَا يُحَاجَّهُمْ وَلَا يُحَاجُّوهُ، فَثَبَتَ أَنَّ لَهُ سُفَرَاءَ فِي خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ يَدْلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَا بِهِ بَقاؤهم وَفِي تَرْكِهِ فَناؤهم، فَثَبَتَ الآمِرونَ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ فِي خَلْقِهِ وَثَبَتَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مُعْبِّريْنَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ حُكَمَاءُ مُؤَدَّبِينَ بِالْحِكْمَةِ مَبْعُوثِينَ بِهَا غَيْرُ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ فِي أَحْوَالِهِمْ عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّرْكِيبِ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ بِالْحِكْمَةِ وَالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالشّوَاهِدِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وإبراءِ الأكمَهِ وَالْأبْرَصِ، فَلَا تَخْلُو أرْضُ اللهِ مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِ الرَّسُولِ وَوُجُوبِ عَدَالَتِهِ)[3]

وبذلك يمكننا القول إن الإمامة والولاية عقيدة تستمد جذورها من التوحيد، بحيث لا يستقيم فهمنا للإمامة بمعزل عن التوحيد، كما لا يتحقق للتوحيد معنىً من غير إمام يمثل إرادة الله بين خلقه، والإمامة بهذا المعنى هي التي تشكل صلة الوصل بين الشهود وبين الغيب، بحيث لا يحقق الإنسان إيماناً بالغيب وتوحيداً لله تعالى إلا عبر التسليم للإمام بما يمثله من سلطة غيبية، فقد جاء في دعاء رجب قول الامام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف): (أللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلاةُ أمْرِكَ، المَأْمُونُونَ عَلَى سِرِّكَ، المُسْتَبْشِرُونَ بِأمْرِكَ، الواصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ، المُعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ. أَسْأَلُكَ بِمَا نَطَقَ فِيهِم مِنْ مَشِيئَتِكَ، فَجَعَلْتَهُمْ مَعَادِنَ لِكَلِمَاتِكَ، وَأرْكاناً لِتَوْحِيدِكَ، وَآيَاتِكَ وَمَقَامَاتِكَ، الَّتِي لا تَعْطِيلَ لَهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، يَعْرِفُكَ بِهَا مَنْ عَرَفَكَ، لا فَرْقَ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا (بينهم) إلّا أنَّهُم عِبَادُكَ وَخَلْقُكَ، فَتْقُهَا وَرَتْقُهَا بِيَدِكَ، بَدْؤهَا مِنْكَ وَعَوْدُهَا إلَيْكَ، أعْضَادٌ وأشْهَادٌ، وَمُنَاةٌ وَأذْوادٌ، وَحَفَظَةٌ وَرُوَّادٌ، فَبِهِمْ مَلأْتَ سَمَاءَكَ وَأرْضَكَ حَتَّى ظَهَرَ أنْ لا إلهَ إلّا أنْتَ، فَبِذَلِكَ أسْأَلُكَ وَبِمَوَاقِعِ العِزِّ مِنْ رَحْمَتِكَ وبِمَقَامَاتِكَ وعَلامَاتِكَ أنَ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ،..)

فتوحيد الله يتحقق عبر الطاعة والامتثال لمن جعله الله خليفة عنه وحاكماً بأمره، ومن هنا كانت طاعة أنبيائه وأوليائه شرطاً في توحيده، فلا يكتمل الإيمان، ولا يكون الإنسان موحِّداً لله، ما لم يكن مطيعاً لهم ممتثلاً لأمرهم.

ولهذا فإن الإمامة حقيقة مستمرة، وهي الطريق الذي يجعل الإنسان دائماً متصلاً بالله سبحانه وتعالى، ومرتبطاً بالغيب في شخص الإمام، بحيث لا يمكن أن يعتقد الموحِّد بانفصال الأرض عن السماء، فالله حاضر دوماً بأوامره ونواهيه في التسليم للإمام، كما كان حاضراً بالتسليم للأنبياء والرسل.

وبذلك، يكون التشيع هو الفهم الحقيقي والوحيد للدين، الذي يبقي حالة من الاتصال بين الأرض والسماء، بين الغيب والشهود، وهو المذهب الذي يبقي لله حاكمية وهيمنة على خلقه من خلال حججه وأوليائه، فمعالم الانفصال بين الله وخلقه، في المدارس الأخرى واضحة؛ لأن الصلة بين السماء والأرض تتمثل في التشريع والتكوين، وبوفاة النبي تنقطع هذه الصلة لو لم يكن هناك أئمة معصومين يمثلون قيادة السماء للأرض، وبناءً على ذلك، فكل المدارس الإسلامية لم تعتقد بوجود فرصة للاتصال، بعد أن آمنت بأن الخلافة شأن بشري، يختاره المسلمون فيما بينهم وليس لله فيها شأن، ووفقاً لهذه الرؤية التي ترتكز على خاتمية الرسالة المحمدية، تنقطع كل أواصر الصلة بالله سبحانه وتعالى، فمن يحكم بالشورى أو بالغلبة، لا يمكن أن يكون مصدر صلة بالله تعالى، ولا يخرج الحاكم الذي يأتي بأمر الناس، عن كونه ممثلاً للناس وخليفة لهم، لا خليفة لله وممثلاً عنه.

مضافاً إلى أن بعض المدارس الإسلامية قد قطعت أية صلة غيبية وأي رابط تكويني بينهم وبين الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)؛ لأن الرسول في تصورها ميّتٌ لا ينفع ولا يضر، فحرّمت السفر إلى زيارته: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد..)[4]، كما اعتبرت أن التوسل به والاستغاثة ضربٌ من ضروب الشرك بالله، فأي نوع من أنواع الصلة بقي بينهم وبينه؟

وهذا خلاف مذهب أهل البيت عليهم السلام، الذين يُبقون على تلك الصلة حيّةً بينهم بين رسول الله (صلى الله عليه وال وسلم)، فيعتقدون أنه حيٌّ يرزق، وأنه مطلعٌ على أمر العباد، ولذا تجد شيعة أهل البيت عليهم السلام، يعتقدون بأن للرسول جاهاً عند الله، فيتقربون إلى الله بزيارته، والتوسل به، وطلب الاستغفار عنده: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64))، ولا يمكن أن تكون هذه الآية قد انتهى مفعولها بوفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، فالذين يقصدون قبره الشريف طالبين أن يستغفر لهم، لا يُعَدُّ فعلهم بدعة محرمة؛ لأن رسول الله لا يحجبه الموت عنا، بل أن أعمال العباد تُعرض عليه فينظر فيها، وهذه مرتبة شريفة ومكانة عالية، تعزز الرابط المتين بين المسلم والرسول. فقد جاء في بعض الروايات، لا تسؤوا الرسول بأعمالكم، فإن أعمالكم تُعرض عليه، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (سمعته يقول: مالكم تسوؤن رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فقال رجل: كيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله وسروه)[5]. وهو دافع روحي يرتفع بالإنسان إلى مستوى المسؤولية، ونجد ذلك في قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)، وقد جاءت كثير من الروايات عن أئمتنا تفسر الآية بعرض الأعمال على رسول الله، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام إن أبا الخطاب كان يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله تعرض عليه أعمال أُمّته كل خميس، فقال أبو عبد الله عليه السلام: هو هكذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله تعرض عليه أعمال أُمّته كل صباح ومساء، أبرارها وفجارها فاحذروا، وهو قول الله تبارك وتعالى: (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).

عرض اعمال العباد على الامام الحجة

من الواضح أن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) هم الامتداد الطبيعي لمقام رسول الله فكانوا بذلك حجج لله على خلقه وامنائه على سره ووحيه، وبهذا نفهم كل الشروط التي اشترطها الشيعة في الإمام، من عصمة، وعلم، وولاية تكوينية، لأنها في واقع الأمر تمثل ضوابط ضرورية لصلة الشهود بالغيب، وبما أن الآية في قوله تعالى: (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) اثبتت عرض الاعمال على رسول الله كذلك تثبت عرضها على المؤمنين، ومما لا شكة فيه أنه ليس المراد جميع المؤمنين وإنما بعضهم وهم الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) كما أكدته بعض الروايات، ففي الكافي بسنده عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجل): (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) قال: «هم الأئمة»[6]. وفي تفسير علي بن إبراهيم القمي بسنده عن أبي عبد الله (ع) في قوله: (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) قال: المؤمنون ههنا الأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم)[7].

وقد جاءت اخبار كثيرة تبين عرض الاعمال على الائمة من اهل البيت بشكل خاص منها، ما في الكافي بسنده عن عبد الله بن أبان الزيات وكان مكيناً عند الرضا (عليه السلام) قال: قلت للرضا: ادع الله لي ولأهل بيتي فقال: «أو لست أفعل؟! والله إن أعمالكم لتُعرض عليَّ في كل يوم وليلة. قال: فاستعظمت ذلك، فقال لي: أما تقرأ كتاب الله (عزّ وجل): (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). قال: «هو والله علي بن أبي طالب (عليه السلام)»[8]. والرواية وإن ذكرت في آخرها أمير المؤمنين (عليه السلام) فقط إلا أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد ذكر عرض الأعمال عليه أيضاً، فأراد الإمام الرضا (عليه السلام) من ذِكر أمير المؤمنين (عليه السلام): أنَّ الآية نزلت في حقّ أمير المؤمنين وهم مشاركون له في عرض الأعمال

وبما أن الامام الحجة هو بقية الله من الحجج فلابد أن تعرض عليه الاعمال ايضاً، بل أن الامام الحجة هو الذي تتنزل عليه الملائكة والروح في ليلة القدر بأقدار العباد في كل سنة، ومن المؤكد أن ليلة القدرة متكررة كل عام، ومن المؤكد ايضاً أن الروح والملائكة التي تنزل من عند الله بكل امر لا تنزل إلا على معصوم؛ وإلا اختلفت أوامر الله من شخص إلى اخر، فعن أبي الحسن (عليه السلام)، في قوله: تنزل الملائكة والروح فيها، قال: تنزل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأمور"[9]، وفي رواية أخرى قيل لأبي جعفر (عليه السلام): تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف والملائكة تطوفون بنا بها"[10].

ولأجل ذلك كانت ليلة القدر شاهدًا واضحاً ودليلًا ساطعًا على حقيقة الإمامة وضرورة استمرارها كما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: "يا معشر الشيعة خاصموا بسورة (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) تفلحوا؛ فوالله إنّها لحجّة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّها لسيدة دينكم وأنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا بـ"حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)"، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)"[11].

وعليه يكون الامام المهدي مطلع على اعمال العباد أولاً في صورة التقدير في ليلة القدر، وثانياً يكون مطلع عليها بعد عمل العباد حيث تعرض عليه، ولا يجوز مخالفة ذلك انطلاقاً من مقاييس عالم المادة والشهود، فإن الأمام الحجة وإن كان بشر إلا أنه حجة الله على خلقه وخليفته على ارضه.

الهوامش:--------------------------------------------------------

[1] - بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 26، ص 7.

[2] - العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 46، ص 240.

[3] - التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 249.

[4] - المحلى - بن حزم ج4 ص 45

[5] - الكافي، الكليني، ج 1، ص 219.

[6] - الكافي للشيخ الكليني ج١ ص ٢١٩

[7] - تفسير علي بن إبراهيم القمي ص ٣٠٤

[8] - الكافي للشيخ الكليني ج١ ص ٢١٩

[9] - معجم أحاديث المهدي ج6 ص399

[10] - بحار الانوار ج94 ص14

[11] - موسوعة الإمام الجواد (ع) ج4 ص16

: معتصم السيد أحمد