طبيب دوّار بطبه!

من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الجامعة وهو يصف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بقوله: (طبيب دوّار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع من ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة) [نهج البلاغة ج ١ ص ٢٠٧].

تحكي هذه الكلمات سلوك رسولنا العظيم وأسوتنا الحسنة في كيفية هداية الناس وإرشادهم ولبيان هذه الفقرات نشرحها واحدة تلو الأخرى:

• طبيب دوّار بطبه

تنقسم الأمراض إلى قسمين:

الأول: أمراض مادية، وهي التي تصيب جسم الإنسان بالتلف وتورثه الأذى والوجع.

الثاني: أمراض معنوية، وهي التي تصيب سلوك الإنسان بالانحراف وآخرته بالخسران، وينشأ منها الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة.

ثم إنّ على المصاب بهذا الداء أو ذاك بمقتضى حكم العقل أن يسعى إلى من يعالجه من علّته ويضع حدًا لألمه؛ لذلك لا يتردد أي موجوع بالتردد على الأطباء طالبًا منهم شفاء علّته بإذن الله تعالى.

ولكن، لو وجدنا طبيبًا (دوار بطبه) يدور على الناس والمعلولين ليشافيهم من عللهم لكان ذلك من أقصى حالات التفاني والإيثار.

وهكذا كان رسولنا العظيم (صلى الله عليه وآله) لا ينتظر أن يأتيه المعلولون المحتاجون إلى شفاء عللهم المعنوية، بل هو الذي يسعى إليهم ويعالجهم، ففعله شبيه بـ(الدوار) الذي يدور في الأزقة والبيوت لكي يشتري من الناس ويبيع لهم لغرض التجارة والربح!

ومن أجمل صور التفاني في أنقاذ الحيارى والضآلين ما وصف الله تعالى به نبيه الكريم إذ قال: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف: ٦)، أي: لعلك مهلك نفسك في السعي لهدايتهم إلى طريق الله عزّ وجلّ.

وفي آية كريمة أخرى: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: ٣)، أي: لعلك مهلك نفسك من أجل هدايتهم حتى يكونوا مؤمنين، ووصل الحد إلى أن قال له الباري تعالى: {طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏} (طه: ١ـ٢)، أي: يا رسول الله الكريم لم ينزل عليك الذكر لكي تُشقي نفسك في وظيفتك لهداية الناس، بل ليس عليك {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى‏} (طه: ٣).

على هذا، ينبغي أن ندرك أنّ أعظم الناس جهدًا وسعيًا لأجل هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الله تعالى هو أقربهم أسوة برسوله الكريم، وأكثر الناس تكاسلاً وابتعادًا عن ذلك فهو أبعدهم عنه (صلى الله عليه وآله).

• قد أحكم مراهمه

الإحكام بمعنى الإتقان، والمراهم جمع مرهم وهو المادة الدوائية التي تطلى على جرح الإنسان لأجل التداوي، ويمكن أن يراد منها هو جميع أنواع الأدوية، فلكل جرح ومرض مرهمه الخاص.

وتشير هذه الفقرة إلى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) طبيب حاذق أحكم وضبط واتقن العلاج لكل جرح ومرض يصاب به الإنسان، فبعض الأمراض المعنوية تتطلب اللين فيعالجها باللين وبعضها تتطلب الحزم فيعالجها بالحزم كما ستأتي الإشارة إليه.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن يشخص الطبيب المعنوي حالة المريض معنويًا ليختار له الدواء المناسب المحكم الذي فيه شفاء علّته، ولعل لهذا السبب اختلفت مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأدنى إلى الأعلى لأجل أن يأخذ كل فرد قدره من العلاج دون أعطاء جرعة زائدة قد تفسد عليه أمره.

ولو ترك الجرح من دون علاج ومرهم لأجل التداوي به لأصابه العفن والتلف الأمر الذي يعسر علاجه إلا ببتر العضو الذي فسد الجرح فيه!!

وهكذا لو خلي الإنسان وأمراضه المعنوية من دون أن يعالجها أحد بالوعظ والإرشاد فإنّه سيكون مصدر قلق للمجتمع الذي يعيش فيه؛ إذ الذنوب يجر بعضها بعضًا إلى أن يحول المسير في المعاصي ذلك الإنسان إلى وحش كاسر!

• وأحمى مواسمه

الميسم هي آلة الكوي التي تكوى فيها الجراح كي لا تلتهب في الطب القديم، وقد اشتهر في المثل المعروف: آخر الدواء الكي، أي إن لم تفد المراهم في علاج الجرح يقوم الطبيب بعد ذلك بكي الجرح من أجل العلاج.

وهذه الفقرة ترشد إلى أنّ الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) يستعمل كل الطرق والمراتب من أجل انقاذ الشخص المصاب معنويًا وقد تقدم الإشارة إلى أنّه كان يهلك نفسه من أجل هداية الناس.

ومن الملاحظ هنا أنّ الكي وإن كان فيه إيلام المريض ووجعه إلا أنّه فيه نجاته من وجع أكبر وألم أعظم.. وهكذا الحال في الأمراض المعنوية فمرارة الأمر بالطاعة وترك المعاصي وإن كانت عند بعضهم تحصل بجهد ومشقة ولكن هذا الجهد والمشقة لا شيء بالنسبة لسلامتك من العطب في يوم القيامة.

فتشير هذه الفقرة إلى أنّه قد يستعمل الشدة مع بعض المرضى معنويًا من الذين لا ينفع معهم اللين، فلكل شخص يهتدى بإسلوب معين قد يختلف عن أسلوب غيره وهذا ما أشارت إليه الرواية نفسها إذ ورد فيها:

(يضع من ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة) فكل شخص يُعالج بحسب الحاجة التي يحتاجها.

: الشيخ مصطفى محمد جاسم