الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
المدحُ: ((هو الثناءُ باللسان على الجميل الاختياري قصدًا))([1]) ، وقيل: هو الثناء باللسان على الجميل مطلقًا سواء أكان من الفواضل أم الفضائل([2]). أما الذم فـهو إظهارُ سوء بقصد التـعيُّبِ؛ لأنَّ الصفات الذميمة سيئة عند المخاطب، مؤثرة فيه ظاهرة على لسانه، مدعاة للعيب وذم صاحبها . وسنخصِّص دراستنا بخصوص ما جاء بالفعلين (نِعْمَ، وبِئْسَ)، وهما الصيغتان القياسيتان للمدح والذم في اللغة العربية، قال فيهما سيبويه (ت: 180 هـ): ((وأصل نِعْم وبِئْسَ، نَعِمَ وبَئِسَ، وهما الأصلان اللـذانِ وُضعا فـي الرداءة والصلاح، ولا يكون منهما فعل لغير هذا المعنى))([3])، وكلُّ صفة مدح تدخل تـحت (نِعْمَ)، وكلُ صفة ذم تدخل تحت (بِئْسَ)، أي: أنَّ (نِعم، وبِئس) وضعا للمدح العام، والذم العام([4]).
وقد جاء نهج البلاغة مكتظًّا بأسلوب المدح والذم؛ لكونه أسلوبًا يتمتَّع بدلالاتٍ واسعة، بحيث يمنحُ المتكلِّم أُفقًا واسعًا في استعماله لأداء أغراضه حتَّى أنَّه يمكن أن يلويه كيفما شاء في بناء قصديته، وقد حفل هذا الأسلوب مع أمير البلاغة والبيان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهجه الشريف بدلالات خصبة واسعة المضامين عميقة الأهداف، بحيث أخرجه عن مستواه السطحي الضيِّق إلى الأفق الدَّلالي الرَّحب، الذي لا يتوقف عند قراءةٍ واحدة وإنَّما يتعدَّد بتعدِّد نمط القارئ وأسلوب قراءته، وهذا التعدَّد لا يعنى الفوضى في المعنى وإنَّما الانتظام في تبليغ الرسالة على مستوىً عالٍ من الخصوبة والبيان.
وممَّا جاء على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) مستعملًا أسلوب المدح بـ (نعم) قوله: ((وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً، وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ))([5])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) هنا يمدح الدُّنيا بقيد أن تكون دارًا مؤقتة بحيث لا ينوي الإقامة بها؛ بل يجعلها قنطرةً يحفظ بها نفسه للعبور إلى غيرها، تلك الآخرة التي تستحقُّ أن تكون دارًا للسكن لا الدنيا الزائلة، ولا يتوقف القصد عند هذا الحد وإنَّما يصل إلى حدِّ الترغيب والنصيحة بأن ينظر الإنسان إلى الدُّنيا على أنَّها محطَّة مؤقتة سرعان ما يتمُّ الانتقال منها، ولذلك لا يجدر بالإنسان أن يضع كلَّ اهتمامه بها.
وممَّا قال (عليه السلام) في هذا الصدد أيضًا ما جاء بقوله: ((وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ))([6])، فالإمام (عليه السلام) لا يمدح التصبُّر فحسب وإنَّما يُرغب به ويدعوا إليه، فهو (عليه السلام) يبتغي بكلامه إثارة المتلقي باتِّباع هذه الخصلة، ويدعوه للتمسُّك بها، وهي دعوة خفيَّة مجازية على طريقة الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وفحوى هذه الدعوة بيان ميزات هذه الصفة الخلقية، ولمَّا يسمع السامع ما لها فإنَّه يسعى إلى التمسِّك بها والسير على نهجها. وممَّا جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تحت هذا المفهوم قوله (عليه السلام): ((نِعْمَ الطِّيبُ الْمِسْكُ، خَفِيفٌ مَحْمِلُهُ، عَطِرٌ رِيحُهُ))([7])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكتفِ بمدح المسك فقط وإنَّما ذكر مزاياه التي تجعل النفس تتوق إلى التعطُّر به، ومن تلك المزايا أنَّه خفيف المحمل وجميل الرائحة.
وأحيانًا يكون الغرض من المدح الوعيد والإنذار، ويمكن أن نقرأ هذا الغرض في قوله (عليه السلام): ((كَانَتْ في أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّماءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ))([8])، فقوله (عليه السلام): ((وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ)) يتضمَّن مع المدح لله تعالى بوصفه نعم الحكم وعيدًا لمن اغتصب فدكًا وأخذها عنوة من أهل البيت (عليهم السلام)، بأنَّ الله تعالى نعم الحكم وسيحاسب من ظلمهم ويأخذ بحقِّهم .
أمَّا الذم، فهو كذلك استبطن أغراضًا أُخرى غير إظهار المعايب والذم، وممَّا ورد من ذلك من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما جاء بقوله: ((وَلَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضاً))([9])، وهنا لا يتوقف قصد أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ذمِّ الدُّنيا عندما تكون ثمنًا لتجارة العبد، وإنَّما يدعو في قصدٍ ضمنيٍّ إلى الزهد فيها وعدم التعلُّق بزبارجها الخداعة، وإلى مثل هذا القصد يرمي في قوله (عليه السلام): ((وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ، بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ! وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ))([10])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا النص ينصح ويوجِّه ويُرشد المتلقي إلى الابتعاد عن الطعام الحرام، ولذلك فهو لا يذمّه فقط؛ بل يدعو إلى الابتعاد عنه نصيحةً للمتلقي من آثاره السيئة، ويستمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بإرشاد النَّاس وتوعيتهم ونُصحهم عبر أسلوب الذم فيقول: ((بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ))([11])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) عبر أسلوب الذم يرشد الناس وينصحهم بأن يتولَّوا الخير بوصفه زادًا إلى الآخرة، وأن يبتعدوا عن العدوان والتقاتل فيما بينهم، وللغرض نفسه يقول (عليه السلام): ((وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ))([12])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا النص ينصح المتلقي بأن لا يكون تابعًا لأناس انتهى المطاف بهم إلى جهنَّم، وعليه أن يتحقَّق ممَّن يتولاهم ويأخذ عنهم . وهكذا فأسلوب المدح والذم عند أمير المؤمنين يخرج عن الدلالة المباشرة إلى ابتغاء التربية عبر النصح والإرشاد والوعيد والإنذار وغيرها .
([1]) التعريفات:116.
([2]) الكليات: 857.
([3]) الكتاب: 2/ 179.
([4]) ينظر: معاني القرآن وإعرابه : 1/ 172 .
([5]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 345 .
([6]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 393 .
([7]) المصدر نفسه: 546 .
([8]) المصدر نفسه: 417 .
([9]) المصدر نفسه: 75 .
([10]) المصدر نفسه: 402 .
([11]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 507 .
([12]) المصدر نفسه: 375 .
اترك تعليق