نسمة عطر من أخلاق الإمام الصادق (عليه السلام) في ذكرى الرحيل

أعظم الله لنا ولكم الأجر في الذكرى الأليمة لشهادة سيدنا ومولانا الإمام جعفر ابن محمد الصادق (عليهما السلام)، ونحن في رحاب الشهادة نحاول أن نغترف من معينهم وفيضهم من خلال تتبع آثارهم وسيرتهم العطرة فقد روي عن عَمْرِو بْنِ نُعْمَانَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: (كَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) صَدِيقُ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ إِذَا ذَهَبَ مَكَاناً، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي مَعَهُ فِي الحذائين وَمَعَهُ غُلَامُ لَهُ سِنْدِيُّ يَمْشِي خَلْفَهُمَا إِذَا الْتَفَتَ الرَّجُلُ يُرِيدُ غُلَامَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ أَيْنَ كُنْتَ؟

قَالَ: فرفع أبو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَدَهُ فَصَكَّ بِهَا جَبْهَةَ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ تَقْذِفُ أُمَّهُ! قَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ لَكَ وَرَعاً فَإِذَا لَيْسَ لَكَ وَرَعٌ، فَقَالَ: جعلت فداك إن أُمَّهُ سِنْدِيَّةُ مُشْرِكَةُ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ نِكَاحاً، تَنَحَّ عَنِّي، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُهُ يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى فرق الموت بينهما)[1].

ولنا على هذه الرواية عدّة تعليقات:

التعليق الأول: يعطينا الإمام (عليه السلام) إشارة مهمة بوجوب التأمل جيداً في مسألة اتخاذ الأصدقاء، فإن أهل البيت (عليهم السلام) لا يتخذون صديقاً ما لم يكن ذا مواصفات خاصة تليق بهم، فقد ذكر أثر الصداقة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾[2]، وقوله تعالى:{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}[3]، وذلك لما للصديق من تأثير في سلوكيات وأفكار الذي يرافقه. ونفس الأمر جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) حيث تُعدّ الصداقة من القضايا المهمة والتي تخضع لمقاييس وقواعد في غاية الدقة عندهم، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شئ منه، وإلا فلا تنسبه إلى شئ من الصداقة، فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية: أن يرى زينك زينه، وشينك شينه، والثالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال، والرابعة: لا يمنعك شيئا تناله مقدرته، والخامسة: ـ وهي تجمع هذه الخصال ـ أن لا يسلمك عند النكبات[4].

ومن هنا نلاحظ أنّ من يتخذ صديقاً فقد شمل بعناية ولطف خاص من قبل المعصوم فالإمام لا يتخذ إلا من كان أهلا للصداقة بحسب الظاهر، أو من تقتضي المصلحة صداقته، وهذا الأمر يوجب على من يقربوه الحذر الشديد ولا يفرح فهو على خطر، وعليه أن يكون في تمام الأدب؛ فلا كرامة لأحد ما لم يراعِ الأدب، فالقضية فيها نحو ابتداء للاختيار، ونحو استمرار ودوام من خلال الثبات على نهجهم والسير وفق هداهم وخطاهم (عليهم السلام).

التعليق الثاني: قد يتصور البعض وللوهلة الأولى عند قراءته للرواية أنّ الإمام لم يَخبِر أصدقائه جيداً، أو قد يظن البعض جهل الإمام بأحوالهم، أو أنّ الإمام لا يعلم الغيب؛ ومن هنا كانت صدمة الإمام (عليه السلام) من فعل صاحبه الذي كان لا يفارقه، وللإجابة عن هذا الإشكال نقول: أنّ الإمام (عليه السلام) كان على علم ودراية تامة بكلِّ شيء إلا أنّه مأمور بمداراة الناس، وأن يعايشهم بحسب الظاهر، ويعمل في نفس الوقت على إصلاحهم ما استطاع وما أوتي من خير، ومتى ما طفح الكيل من أفعالهم فيترفع عنهم ويفارقهم؛ لعدم وجود فائدة ترجى وتعود بالنفع على ذلك الشخص، أو لعدم القدرة على التغير من قبل الأشخاص؛ فالقابل قاصر عن استيعاب فكر ومنهج المعصوم (عليه السلام).

التعليق الثالث: تشير الرواية إلى قضية مهمة جداً بأنّ الكثير ممن قد نرافقه ونثق به، ونسير معه أعواماً عديدة، قد تخفى جنبة من شخصيته علينا إلا أنّ الحياة كفيلة ببيان أصله ومعدنه وحقيقته التي ستظهر يوماً ما رغماً على أنفه مهما حاول اخفاءها عن الآخرين، كما ينبغي علينا أن نعطي لكلِّ شخص حجمه الحقيقي ولا نضخم الشخصيات والأفراد عن مستواها الحقيقي خصوصاً النفعيين والانتهازيين الذين يسعون إلى خداع الناس بشتى الطرق والأساليب.

التعليق الرابع: أسس المعصوم (عليه السلام) قاعدتين ذهبيتين وهما في غاية الأهمية:

القاعدة الأولى: هي عدم التردد باختيار الصديق والرفيق بحجة عدم وجود الفرد الكامل؛ فالمؤمن عين المؤمن ومرآة المؤمن.

القاعدة الثانية: المراقبة والتنبه الدائم لأفعال الصديق والتي قد تكون سبباً في هلاكك أو الخروج عن المنهج الحق، وعدم التردد بمفارقة المسيء إن صدر منه ما يخالف المنهج والفكر السليم، وعليه أن لا يهتم بما سيقول البعض عنه أو ما يوجه له من لوم بأنه غير وفي أو كونه ممن لم يحسن الاختيار.

التعليق الخامس: إنّ ما قام به الإمام (عليه السلام) من مفارقة فيه إشارة إلى عدم التفاجيء من أفعال بعض المؤمنين ظاهراً، أو من يدعي ويتزيى بزي أهل الإيمان؛ ومن هنا أوجه الكلام للمؤمنين أن لا يصدموا بفعل بعض المقربين الذين انحرفوا عن الطريق كمن وقف على بعض المعصومين أو من بدل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخالف وصيه، أو التأثر من بعض أفعال المحسوبين على المنظومة الإسلامية أو التشيع الذين تصدر منهم بعض الأفعال القبيحة والأقوال المستهجنة أو بعض النعرات والمحاولات التي يقومون بها لطمس الحقائق وقلبها، أو تشويه سمعة الدين.

التعليق السادس: لا شك ولا ريب وبحسب علل الأحكام، ومنظومة الأحكام الخمسة (الواجب، الحرام، المستحب، المكروه، المباح) والمبنية على أنّ الأحكام متعلقة بالمصالح والمفاسد؛ والقاضية بأنّ الذنب إذا ما صدر يخلف مفسدة أو قل ضرراً ويولد أثراً دنيوياً وأخروياً، وهنالك بعض الذنوب لا تكون مضرتها وآثارها منحصرة على فاعلها بل قد تنعكس آثارها وضررها على من حوله؛ ولذا تجد شدّة الاستهجان الصادر من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) فقد أنكر منه ذلك الفعل بصك جبهته الشريفة وهو من أشدّ أنواع الاستياء؛ فإن استمر الإمام (عليه السلام) في صداقته فسوف يُلام ويُعير من قبل اﻵخرين بمثل هكذا أصدقاء؛ فالمرء قرين من يصادق ويرافق؛ ولذا اقتضت المفارقة.

التعليق السابع: إنّ البعض قد يعتبر بعض الأفعال والأقوال التي تصدر منه هينّة وبسيطة لكنها عند الله كبيرة، وخفاء تلك الحقيقة عنه نتيجة لعدم امتلاكه الحقيقة وعدم اطلاعه على إرادة الله، أو نتيجة لسيره وفق بعض المقدمات الخاطئة؛ ومن هنا يجب الردع لجهله، وعلى الإنسان عدم فعل أي فعل أو عدم النطق بأي قول من دون دراية وتعقل؛ لأنّه سيحاسب على كلّ ما يصدر عنه صغيراً كان أو كبيراً فقد قال تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[5].

التعليق الثامن: عدم المداهنة فاستنكار الإمام (عليه السلام) لذلك القول الذي صدر ممن كان لا يفارق الإمام وبأشد الاستنكار من خلال ضرب جبهته الشريفة بيده ومن ثم تأنيبه بالقول فالإمام لم يداهن بالرغم من أنّ الرجل كان صديقاً مقرباً وبالرغم من كون الرجل سيداً للغلام وله أن يفعل ما يشاء بحكم الملكية والسلطنة إلا أنّ الإمام بيّن أنّ مثل هذه الأفعال تُعدّ تجاوزا لحدود الأدب، ورمياً للمحصنات لكونه ممضى بحسب دينهم وشريعتهم؛ فالإمام (عليه السلام) صدع بالحق على من كان مقرباً منه وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر.

التعليق التاسع: تبرير الأفعال الخاطئة أمر خطير وغير مقبول فإنّ الرجل لما رأى عتاب الإمام (عليه السلام) حاول أن يبرر فعله، ويشرعن ما قام به بين يدي الإمام، وهذا هو ديدن الكثير، ولكنّ الإمام (عليه السلام) بيّن له خطأه وفادح خطبه وفعله، ولم يقبل منه ذلك التبرير، فكلّ فعل مستهجن إن صدر من فرد ما؛ فلا بُدّ أن يصدر استنكار يساويه في القوة يعاكسه من حيث الإتجاه فلكلّ فعل ردّة فعل، وقد بيّنت الرواية أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم يلحظ بعد ذلك ماشياً معه إلى أن فرقّ بينهما الموت.

التعليق العاشر: ليست جميع الأعذار مقبولة ولعل سبب عدم قبول الإمام لعذر ذلك الصديق عدّة أمور:

الأمر الأول: إنّ ما صدر من قول كان من القبح والفضاضة ما لا ينبغي السكوت عنه وقبول العذر من صاحبه، وهو من فحش القول الذي ينبغي على المؤمن الإبتعاد عنه فكيف بمن كان مقرباً! ومن هنا لا يمكن السكوت عنه، ولا قبول أيّ عذر من فاعله حتى إن كان صادراً عن جهل، وفي ذلك تربية لهذا الشخص وغيره؛ لكي يرتدعوا عن مثل هذه الأقوال والأفعال التي تصدر بلا مسؤولية ولا دراية، فما فعله الغلام لم يكن يستحق ذلك السب والطعن؛ فالمؤمن ليس سباباً ولا فحاشاً.

الأمر الثاني: إنّ قبول بعض التبريرات قد تستوجب امضاء وحجة للتصرفات غير المسؤولة وغير المدروسة؛ فإنّ تقرير الإمام حجة فيما لو سكت عن تصرف الرجل أو غض النظر وقبل عذره، مع أن تبريره وعذره لم يكن صحيحاً كما بيّن الإمام (عليه السلام) بأنّ لكلّ قوم وأمة نكاح.

الأمر الثالث: يريد أن يبيّن الإمام (عليه السلام) بعدم وجود مبرر وداعي لصدور مثل هذه الأفعال والأقوال الدالة على عدم التمتع بالإنسانية، والأخلاق النبيلة، والمبادئ السامية، وتؤسس لأمر خطير وهو عدم التسامح مع من أمره بيدك كما حيّ الشرع المبين فقد قال أمير المؤمنين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أوصيكم بالضعيفين خيرا النساء والعبيد.

التعليق الحادي عشر: إنّ الإمام قال إنّ لكلّ أمة نكاح وهي قاعدة مهمة في التعايش السلمي، وعدم تكفير الآخرين لانتماءهم الديني والمذهبي، فنحن كمسلمين بالرغم من كوننا لا نرى بعض الأفعال صحيحة وفقا لمذهبنا أو ديننا إلا أنّ هنالك قاعدة فقهية لدينا تسمى بقاعدة الإلزام التي تقول: (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)؛ فنحكم عليهم وفق ما يلتزمون به من أحكام وسنن وفق دينهم أو مذهبهم بالرغم من عدم قبوله لدينا، وعدم وروده في شريعتنا؛ وهذا نوع من أنواع تقبل الآخرين وعدم الإكراه في الدين وعدم تكفير الآخرين.

كما أن فعل الإمام يبيّن لنا حرص الشرع المبين على معذرية الآخرين ممن يكون معذوراً أو قاصراً في الاهتداء للدين القويم لا مقصراً في اختيار مذهبه أو دينه.

التعليق الثاني عشر: إنّ الراوي يقول لم يرَ الإمام (عليه السلام) ماشياً معه حتى فرق الموت بينهما ولم تبيّن لنا الروايات والتاريخ بمن مات منهما قبل الآخر؛ فإن مات قبل الإمام فقد حرم من دعاء الإمام في باقي أيام حياته، ومن عيادته في مرضه، ومن الحضور في ساعة وفاته، ومن المشي في جنازته، ومن صلاة الإمام على جثمانه.

التعليق الثالث عشر: جانب مهم ينبغي ملاحظته هي شدة المراقبة والحرص الشديد على أن لا يخرج أو يصدر منك ما ينتج الحرمان من رفقة المعصوم (عليه السلام) وتأييده ورعايته والكون في كتفه، فالفراق نتيجة قطعية لأفعال وأقوال الشخص المسيئة، فهذا الرفيق الذي كان لا يفارق الإمام (عليه السلام) فهو كالظل للإمام ولكنّه نتيجة لقول واحد حرم من ملازمة الإمام (عليه السلام)، فقد ورد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) "من لزمنا لزمناه ومن فارقنا فارقناه"[6] والفراق هو الخسران المبين.

التعليق الرابع عشر: ونحن في ظل غيبة ولينا وإمامنا الحجة المهدي (عجل الله فرجه الشريف) حري بنا أن نراجع أقوالنا وننتبه لها، وكذلك أفعالنا فقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[7]، وقد جاء في الروايات الشريفة أنّها تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى الأئمة (عليهم السلام) في كلّ أسبوع مرة أو مرتين، بل في كلّ يوم فقد روي عَنْ أَبِي بَصير عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أَعْمَالُ الْعِبَادِ كُلَّ صَبَاحٍ أَبْرَارُهَا وَفُجَّارُهَا فَاحْذَرُوهَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وَسَكَتَ[8]، بل إنّ أعمالنا تعرض في كلّ لحظة؛ لإطلاق الآية الكريمة فقد علقت العرض بالعمل (وقل اعملوا فسيرى)، فما دمت تعمل فأنت في معرض العرض والاطلاع من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن قبل أهل البيت (عليهم السلام)؛ فكن مراعيا للأدب في الحشرة المقدسة فلا يليق البقاء لمن كان مسيئاً. 

الهوامش:-------

[1] الشيخ الكليني، الكافي ح٢ ص٣٢٤.

[2] سورة الفرقان، آية: ٢٨.

[3] سورة الشعراء، آية: ١٠٠، ١٠١.

[4] الشيخ محمد الريشهري، ميزان الحكمة ج ٢ ص١٥٨٩.

[5] سورة ق، آية:١٨.

[6] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج٢ ص٢٧٢.

[7] سورة التوبة، آية: ١٠٥.

[8] السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة ج١٣ ص٣٠١. 

: الشيخ أمجد سعيد اللامي