كيف نعيش الحياة الطيبة الهنيئة ونؤسس لها
ورد في بعض الكتب رثاء أن فاطمة الزهراء(عليها السلام) رثت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بقولها:
... إِنَّا فَقدنَاك فَقْدَ الأرضِ وَابِلها * واختَلَّ قومُك فاشهَدْهُم فَقد نَكَبُوا
تَجَهَّمَتْنَا رِجالٌ واستُخِفَّ بِنا * بَعد النَّبي وَكلُّ الخَيرِ مُغتَصَبُ
قَد كَان جِبريلُ بِالآياتِ يُؤْنِسُنَا * فَغِبْتَ عَنَّا فَكُلُّ الخَيرِ مُحتَجَبُ
وَكنتَ بَدراً وَنُوراً يُستَضَاءُ بِهِ * عَليكَ تَنزِلُ مِن ذِي العِزَّةِ الكُتُبُ ...[1].
وبغض النظر عن التحقيق من نسبة هذا الكلام لمولاتنا الزهراء(عليها السلام)، فإن الكلام معبر عن حقيقة واقع منزلة النبي(صلى الله عليه وآله) بين ظهراني هذه الأمة، على الأقل من وجهة نظر قائلها، إذ أن فقد النبي(صلى الله عليه وآله) جعل الحياة في جدب له نتائج وآثار وخيمة، ولو لم يكن كذلك لما صح دعائنا الذي نتوجه به إلى الله سبحانه وتعالى ونرفع شكوانا إليه بما يؤلمنا ويؤذينا وهو فقدنا لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وفقدنا سيرته ومنهجه وأخلاقه، فقلنا: ((اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه واله وغيبة ولينا وكثرة عدونا وقلة عددنا وشدة الفتن بنا وتظاهر الزمان علينا فصل على محمد وآله وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله وبضر تكشفه ونصر تعزه وسلطان حق تظهره ورحمة منك تجللناها وعافية منك تلبسناها برحمتك يا أرحم الراحمين))[2]، والقول هذا يبين أن القضية لا تتوقف عند النبي(صل الله عليه وآله) بل تتعدى إلى من يحل محلة بعد غيابه، وهو الولي المنصب من الله سبحانه وتعالى والمنزل منزلته، وهذا يعني أن حاجتنا التي نرفعها إلى الله سبحانه وتعالى قائمة والاحتياج لها دائم غير منقطع، والعبارة دالة على ذلك، فهي من ناحية تعبيرية لغوية مطلقة غير مقيدة بزمان أو مكان، وأن الذي نحتاج إليه فيها مشخص بعناوين لا تنطبق على غيره.
ولأهمية هذا الموضوع وضرورته لحياة الناس أجمع، أمر الله تبارك وتعالى نبيه الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) بالتبليغ لولاية علي ابن أبي طالب(عليه السلام) فتبليغها هو أحلال في المحل وتنزيل في المنزلة، وضرورة الأمر نلمسه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[3]، لذا وقف رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فالمسألة مسألة تطبيقية تشخيصية بالدقة نفهمها وندركها من خلال بيان المصداق الأوحد في زمانه لعنوان: (ولي الأمر)، وهو ما جاء في حديث رواه الترمذي عن زيد بن أرقم قال عنه أنه حديث حسن صحيح: ((من كنت مولاه فعَليٌّ مولاه))[4]، وما هو إلا نموذج من الأحاديث التي بلغت حد الاستفاضة في قولها وروايتها بشأن هذا الموضوع، حيث يلاحظ من ذلك أن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) بهذا التبليغ أراد إحلال علي ابن أبي طالب(عليه السلام) محله في كل شيء إلا أمر واحد صرح به في الحديث المعروف بحديث المنزلة، وهو أمر النبوة، إذ قال لعلي(عليه السلام): ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))[5].
وقد علق الشيخ الصدوق(ره) عليه بقوله: أننا قد ((أجمعنا وخصومنا على نقل قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " فهذا القول يدل على أن منزلة علي منه في جميع أحواله منزلة هارون من موسى في جميع أحواله إلا ما خصه الاستثناء الذي في نفس الخبر))[6]، وهو النبوة، ومن هنا ليس لقائل أن يقول: إن النبي(صلى الله عليه وآله) عنى بعض هذه المنازل دون بعض، عند ذاك يلزمه أن يعبر تعبيراً آخرا يدل على أنه يريد البعض وليس الكل، فيبطل حينئذ أن يكون عنى المنازل كلها، ويكون الكلام هذرا، والنبي (صلى الله عليه وآله) لا يهذر في قوله (والعياذ بالله)، لأنه إنما كلمنا ليفهمنا ويعلمنا، فلو جاز أن يكون عنى بعض منازل هارون من موسى دون بعض ولم يكن في الخبر تخصيص ذلك، لم يكن أفهمنا بقوله قليلا ولا كثيرا، فلما لم يكن ذلك وجب أنه قد عنى كل منزلة كانت لهارون من موسى مما لم يخصه العقل ولا الاستثناء في نفس الخبر[7].
وعلى هذا فالمنزلة التي أحل فيها علي ابن أبي طالب(عليه السلام) محله تشمل على الجوانب التالية:
1- المنزلة المقامية في الأمة.
2- المنزلة المكانية في الأمة.
3- المنزلة الوظيفية في الأمة.
وهذه الجوانب تقتضي الاحترام والتقدير والتقديس، وتوجب الرعاية والمراعات لأقواله وأفعاله وسلوكياته من دون استثناء أو انقطاع، كما أنها توجب السمع والطاعة له، فهذه المنازل كلها حقيقية، وهو ما يلزم الإنسان الزاماً وجوبياً بالتصرف تجاهه(عليه السلام) كما هو الوجوب في التصرف مع النبي(صلى الله عليه وآله) من السمع والطاعة والاقتداء والاتباع، وحتى لو قلنا أنها حكمية، فهي تقتضي السمع والطاعة والاقتداء والإتباع، أي: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[8].
وهنا يصبح واضحاً لدينا، لماذا قرنت جملة الدعاء بين فقد النبي(صلى الله عليه وآله) وفقد الولي(عليه السلام)، وقالت: ((اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه واله وغيبة ولينا ...)) فالمفسدة في الفقد(الملاك في الحكم) واحدة.
ولا يخفى أن حاجة الأمة في الحياة الدنيا والآخرة، هي أنها تريد العيش حياة طيبة هنيئة وتتوق إليها، وعندما نبحث في ماذا نفعل لتحقيقها وكيف نتصرف؟ نجد أن الله تعالى يقول في ذلك: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[9]، وهي الحياة التي عاشها النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) والإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام)، وهي حياة طيبة هنيئة، أي تلك التي تقوم على الأعمال التي يقوم بها البشر، والتي تتصف بشرطين اساسيين هما:
أولاً: الإيمان بالله ورسوله والذين ْامنوا، حيث قال تعالى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[10].
ثانياً: الاقتداء بالنبي(صلى الله عليه وآله)، فالاقتداء بالنبي طاعة لله تعالى، حيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[11].
أما كيف نحققها؟ فجواب هذا السؤال مذكور في الآية المباركة المذكورة في ثانياً أعلاه، ومن هنا يعلم أن اتباع النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) ضروري وواجب، لا يسمح بتركه، لأنه لازم غير منفك في جميع السلوكيات الإنسانية، إذ لا ينبغي لأي إنسان الحيد عنه بأي داعي كان في أي مورد من موارد الأفعال التي تؤسس عليها الحياة الطيبة الهنيئة، لأنها عند ذاك تكون سالبة بانتفاء الموضوع، أي: أنها عند ذاك تؤسس لحياة غير طيبة ولا هنيئة، باستثناء الأفعال المباحة التي جعل الله تعالى تقديرها وفعلها في عهدة الإنسان غير المعصوم لعدم إلغاء دوره وشخصيته في صناعة هذه الحياة الطيبة الهنيئة، فهي بذلك تكون خارجة تخصيصاً من أفعال الإنسان الطائع المتبع.
ومادام الملاك بين النبي(صلى الله عليه وآله) وعلي ابن أبي طالب(عليه السلام) واحد باعتبارهم أولياء هذه الأمة كما ذكرت الآية المباركة: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[12]، فيلزم اتباع سلوكيات علي(عليه السلام) في كل جزئيات الحياة لنعيش حياة طيبة هنيئة، وداعي الاتباع قد ذكره نفس الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(عليه السلام) في إحدى خطبه إذ قال: ((وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه واله)، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (صلى الله عليه واله)، مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه واله) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه (صلى الله عليه واله)، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ...))[13]، فطاعة علي ابن أبي طالب(عليه السلام) هي بالمطابقة نفس طاعة واتباع النبي(صلى الله عليه وآله)، فهذا النص جلي واضح في وحدة الملاك، إذ أن المنبع واحد والسلوك واحد والبيئة الحاضنة واحدة، لذا سوف تكون النتيجة واحدة بالتأكيد.
وعليه تصبح نتيجة التفكر في هذا الكلام على قسمين:
القسم الأول:
أولاً: أن الحياة الطيبة الهنيئة قائمة على الإيمان بالله تعالى.
ثانياً: أن الحياة الطيبة الهنيئة قائمة على الإيمان برسول الله محمد(صلى الله عليه وآله).
ثالثاً: أن الحياة الطيبة الهنيئة قائمة على الإيمان بعلي ابن أبي طالب(عليه السلام)
القسم الثاني
أولاً: الطاعة للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والاقتداء به مطلقاً.
ثانياً: الطاعة لعلي ابن أبي طالب(عليه السلام) والاقتداء به مطلقاً.
فطاعة علي(عليه السلام) هي ذاتها طاعة النبي(صلى الله عليه وآله)، والاقتداء بهما واحد أيضاً، وهذا سار لجميع الأولياء المعصومين المنصبين من الله تبارك وتعالى أن تتأسس الحياة الطبية الهنيئة على أساس طاعتهم واتباع سلوكياتهم صلوات الله عليهم، لذلك جاءت عبارة الدعاء مطلقة غير مقيدة بذكر شخص بعينه سوى النبي(صلى الله عليه وآله): ((اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه واله وغيبة ولينا ...)).
إذن من يريد أن يصنع حياة طيبة هنيئة له ويؤسس لها، لابد له أن:
1- يؤمن بالله تبارك وتعالى.
2- يؤمن بالنبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) وعلي ابن أبي طالب(عليه السلام) على حد سواء في كل شيء إلا النبوة.
3- السمع والطاعة لله تبارك وتعالى والنبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) والولي وهو علي ابن أبي طالب(عليه السلام).
4- جعل السلوكيات الشخصية مطابقة لسلوكياتهم قدر الامكان بحسب الطاقة البشرية والرغبة الشخصية.
فعند ذاك تكون الحياة طيبة هنيئة والمسألة نسبية وتتحقق بقدرها.
الهوامش:---------------------------
[1] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج ٢٩، ص: ١٠٨.
[2] مفاتيح الجنان، ، الشيخ عباس القمي، ج1، ص: 252.
[3] سورة المائدة: 67.
[4] سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، ح: 3713.
[5] معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص:٧٤.
[6] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج37، ص: 274.
[7] انظر: المصدر السابق، بتصرف.
[8] سورة آل عمران: 31-32.
[9] سورة النحل: 97.
[10] سورة المائدة: 55.
[11] سورة آل عمران: 31-32.
[12] سورة المائدة: 55.
[13] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الخطبة: 192، ص300 - 302.
اترك تعليق