التحسين والتقبيح العقليان

     تعدّ مسألة التحسين والتقبيح العقليين من المسائل التي أرهقت الفكر البشري منذ القِدم، وتعتبر من المسائل الأساسية في كثير من المسائل العقدية التي تبتني عليها، فإنّ هذه المسألة تتعلق بأفعال الله سبحانه، لأنّ أفعاله سبحانه - سواء في التكوين أم في التشريع - تبتني على أساس العدل والحكمة، ولها غايات وأهداف، وقد كشف عن ذلك بالعقل والفطرة، وبأنبيائه ورسله إلى الخلق. إذ قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: (إنّ لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، أمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول)(1).

      

     ولبيان المسألة بشكل جليّ يمكن أن نطرح السؤال التالي ونجيب عليه، وهو:

هل أنّ الأفعال في حدّ ذاتها لها قيمة ذاتية تُوصف على أساسها بالحسن أو القبح أو لا، وإنّما تخضع لاعتبار المعتبر؟ وهذا السؤال في مقام الثبوت. وعلى القول بأنّ لها قيمة ذاتية، هل يستطيع العقل إدراك هذه القيمة بنفسه ولو على نحو الإيجاب الجزئي، أو لا يستطيع على نحو السلب الكلي ؟ وهذا السؤال في مقام الإثبات.

     وقد انقسم المسلمون إزاء الجواب عن ذلك إلى مدرستين:

     الأولى: مدرسة العدلية، وهم الإمامية والمعتزلة، أمّا في مرحلة الثبوت فأثبتوا أنّ الأفعال الصادرة من فاعل قادر مختار لها قيمة ذاتية وتُوصف بها إمّا بالحسن أو بالقبح، ولا تخرج عنهما. وأمّا في مرحلة الإثبات فقالوا: إنّ هناك أفعالًا يدرك العقل أنّها حسنة، ولا يحتاج في إدراكه هذا إلى الاستعانة بالشرع، وإنّ هناك أفعالًا يدرك أنّها قبيحة من دون حاجة إلى الشرع، فالعقل من دون الشرع له القدرة على إدراك حسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، والشرع في مثلها يتبع حكم العقل، وليس له تأسيس جديد.

      ومثال ذلك: العدل والصدق، والظلم والكذب، فإنّ العقل يقضي بحسنها وقبحها، سواء كان هناك شرع أم لم يكن، وسواء آمن الإنسان بالشرع أم لم يؤمن، ولذا تعد هذه الصفات كذلك عند جميع العقلاء.  

          

    الثانية: مدرسة الأشاعرة، وهي مذهب أكثر الجمهور من المسلمين، حيث أنكروا أن تكون الأفعال متّصفة بالحسن والقبح في مرحلة الثبوت، وكذلك في مرحلة الإثبات، فقالوا: لا مجال للعقل في الحكم بحسن الأفعال وقبحها، وإنّما لا بدّ للعقل من الرجوع إلى الشرع في هذه الأحكام، فالفعل الحسن هو ما حكم الشرع بحسنه، والفعل القبيح هو ما حكم الشارع بقبحه، وعليه، فلولا أن يأمر الشارع بالعدل لم يحكم العقل بحسنه؛ ولولا أن ينهى الشارع عن الظلم لم يحكم العقل بقبحه.

     وقد استدلوا على ذلك بوجوه عقلية عمدتها وجهان:

     الوجه الأول: أنّ الحسن والقبح لو كانا عقليين لكانا ثابتين؛ لأنّ الأحكام العقلية ثابتة لا تتبدل، كما أنّ الحقائق الذاتية لا تتقلب؛ لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه إذ لا يعقل أن يتبدل المستحيل مثل اجتماع النقيضين إلى ممكن، والحال أنّ الوجدان يشهد بانقلاب الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا في بعض الحالات، كالصدق والكذب، فإنّ الأول في موضع المضرة يكون قبيحًا، والثاني في موضع المصلحة البالغة يكون حسنًا، فالانقلاب والتبدل في الحسن والقبح يشهد بأنّهما اعتباريان شرعيان إذ لو كانا عقليين لاستحال تبدلهما.

يلاحظ عليه:

     أولًا - إنّ ما ذكر ليس من الانقلاب، بل من باب غلبة العنوان الحسن أو العنوان القبيح على العنوان الأصلي، فإنّ الصدق في موقع المضرة الشديدة يبقى في نفسه حسنًا إلا أنّ القباحة نشأت من تسبيبه للمضرة، وكذا الكذب في موقع المصلحة، ولا مانع من أن يكون للشيء الواحد عنوانان، أحدهما حسن والآخر قبيح؛ للمغايرة الاعتبارية بينهما حينئذٍ.

     وهذا ليس من الانقلاب والتبدل، بل من طرو عنوان آخر يعطيه صفة أخرى قد تغلب صفته الذاتية. بعبارة أخرى: أنّ الحسن والقبيح هاهنا لم يتبدلا، بل إنّ هذا من باب المزاحمة، فيقدم المزاحم إذا كان أهمّ ملاكًا.

     ثانيًا - إنّه مبني على قياس الأفعال بقياس واحد من حيث حسنها وقبحها، والحال أنّها مختلفة.

     توضيح ذلك: أنّ الأفعال التي تتّصف بالحسن والقبح على ثلاثة أقسام:

     الأول: الأفعال التي ذاتيها الحسن أو القبح، فيكون الفعل في نفسه علّة تامة للحسن أو للقبح، فلا ينفك الحسن عن الفعل، ولا يتخلف عنه ولا يتبدل، وكذا في القبح، مثل: العدل والظلم، فإنّ العدل بما هو هو لا ينفك عن الحسن أبدًا، ولذا لا يختلف أحد من العقلاء على حسنه وإن أدى إلى الإضرار بالبعض، والظلم بما هو هو قبيح، وقبحه لا ينفك عنه في جميع الأحوال ولدى جميع الناس ولو أدى إلى نفع البعض، ومن الواضح: أنّ الحسن والقبح الذاتي مستحيل أن يطرأ عليه عنوان يغيره أو يبدله.

     الثاني: الأفعال التي لها اقتضاء الحسن أو القبح، ومن الواضح أنّ تأثير المقتضي يتوقف على عدم وجود المانع، فإذا عرضه المانع فإنّه يمكن أن يكسبه وصفًا آخر يغاير ما يقتضيه الفعل في نفسه، وهذا نظير الصدق والكذب، فإنّ الصدق مقتضٍ للحسن، ولذا قد يكون مذمومًا إذا صار سببًا للإضرار، كما أنّ الكذب له اقتضاء القبح ولكن إذا صار سببًا للمنفعة العظيمة كإنقاذ المظلوم فإنّه يكون حسنًا.

     وعليه، فإنّ الوجوه والاعتبارات في مثل هذه الأفعال صارت سببًا لاختلاف صفة الفعل، كما أنّ التبدل لم يطرأ على ذات الفعل، بل على غلبة العنوان الجديد، فاتّصاف الصدق بالقبح ليس من نفسه، بل من انطباق عنوان الضرر الخطير عليه، واتّصاف الكذب بالحسن ليس من نفسه بل من انطباق عنوان النفع الكبير عليه.

    فغلبة وصف العنوان الجديد من باب التزاحم وترجيح صفة العنوان الجديد على صفة ذات الفعل؛ لأنّ الاقتضاء يرجع إلى صفة الذات، والصفات الذاتية لا تتغير، وإنّما قد يحول دون تأثيرها المانع.

    الثالث: الأفعال التي في نفسها لا تقتضي الحسن ولا القبح، وإنّما تكتسب صفتهما بحسب الجهات والعناوين الطارئة عليها، وذلك كالضرب، فإنّه في نفسه لا حسن ولا قبيح، ولكن إذا صدر لأجل التأديب يكون حسنًا، وإذا صدر لأجل الإيذاء كان قبيحًا.

    وبذلك يتبيّن: أنّ الأفعال من حيث صفة الحسن والقبح ليست على وتيرة واحدة، فبعضها يستحيل أن تتبدل أو تتغير؛ لأنّها علّة تامة للحسن أو القبح، وبعضها في نفسها قد تكون حسنة أو قبيحة ولكنّ ربّما تبتلى بالتزاحم فيطغي وصف العنوان الطارئ على حسنها الذاتي، وبعضها لا تكون حسنة ولا قبيحة إلا باعتبار العناوين الطارئة عليها، وفي جميع الأحوال فإنّ وصف الفعل بالحسن أو القبح عقلي يلحظه العقل بملاحظة حالة الفعل في نفسه.  

    

     الوجه الثاني: أنّه لو كان الحسن والقبح عقليين لما كان شيء من أفعال العباد حسنًا ولا قبيحًا عقلًا، والتالي باطل، فالمقدم مثله في البطلان.

     بيان ذلك: أنّ العبد مجبور في أفعاله ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح عقلًا، ولذا لا يصحّ مدح الإنسان على طوله أو شكله، ولا ذمه عليهما إلا بنحو المسامحة، لأنّه مجبور، وحيث إنّنا نحسّن ونقبّح أفعال الناس كشف أنّهما شرعيان؛ إذ لو كانا عقليين لامتنع ذلك، وبما أنّ القسمة حاصرة بين العقل والشرع، وانتفى الأول تعين الثاني بالضرورة.

 يلاحظ عليه:

     أولًا - إنّ مبنى هذا الدليل باطل، وذلك لأنّ الإنسان مخير وليس بمجبر في أفعاله، وإذا بطل المبنى بطل البناء.

     ثانيًا - إنّ فيه خلط بين ما يصحّ وصفه بالحسن والقبح، وبين ما لا يصحّ وصفه بذلك، والأفعال بما أنّها ترجع إلى القصد والإرادة الإنسانية فيصحّ وصفها بالحسن أو بالقبح، ويستحق فاعلها المدح أو الذم. فالدليل المذكور على خلاف مدعاهم أدلّ، إذ إنّ العقل يحكم بحسن أفعال الناس وقبحها، والشرع على هذا الأساس يحكم بذلك أيضًا.

     توضيح ذلك: هناك معاني للحسن والقبح إذا لُوحظت في أيّ فعل يمكن الحكم عليه بالحسن أو القبح، وأهمها أربعة:

الأول - ملائمة الطبع ومنافرته:

    فالعسل حسن؛ لأنّه حلو يلائم الطبع البشري، والحنظل قبيح؛ لأنّه مُر ينافر الطبع البشري. وهذا خارج محل النزاع؛ لأنّه وصف للأعيان وليس للأفعال.

 

الثاني - موافقة ومخالفة المصلحة:

     وبهذا اللحاظ يُحكم على أرباح التجارة بأنّها حسنة، كما يحكم على الخسارة في التجارة بأنّها قبيحة، وذلك لأنّها موافقة للمصلحة أو مخالفة لها، هذا بالنسبة للمصلحة الشخصية، وتارة يُلحظ الموافقة والمخالفة للمصلحة النوعية العامة، فيُقال لعقوبة الجاني بأنّها حسنة بلحاظ أنّها تتوافق مع مصلحة المجتمع وإن كانت بالنسبة للشخص الجاني قبيحة. وهذا خارج عن محل النزاع أيضًا؛ لأنّه أمر نسبي يختلف بحسب الوجوه والاعتبارات، وكذلك أنّه ناشئ من المصلحة والمفسدة، وليس بلحاظ ذات الفعل.

الثالث - الكمال والنقص:

      فإنّ كل ما هو كمال للنفس بحسب الواقع فهو حسن، وكل ما هو نقص لها في الواقع فهو قبيح، وبهذا اللحاظ يُقال للعلم حسن وللجهل قبيح، كما يقال للشجاعة أنّها حسنة وللجبن أنّه قبيح، كل ذلك لأنّ العلم والشجاعة صفات كمال للنفس، بينما الجهل والجبن صفات نقص. وهذا المعيار ثابت لا يتغير بالوجوه والاعتبارات، لكنّه خارج عن محل النزاع أيضًا؛ لأنّهما أوصاف للحقائق والأعيان لا للأفعال.

الرابع - استحقاق المدح والذم:

     فإنّ الحسن ما يستحق فاعله المدح عند نوع العقلاء، والقبيح ما يستحق فاعله الذم عند نوع العقلاء، وبهذا اللحاظ يحكم على مجازاة الإحسان بالإحسان بأنّها حسنة؛ لأنّ العقلاء يمدحونها، وعلى مجازاة الإحسان بالإساءة بأنّها قبيحة؛ لأنّ العقلاء يذمونها، وهذا المعيار هو الذي وقع محلًا للنزاع بين الفريقين.

    بشرط أن يكون العقلاء مجردون عن عاداتهم وتقاليدهم وخلفياتهم الثقافية، وكذلك النظر إلى ذات الفعل بما هو هو من دون أن يلحظ منظمًا إلى مصلحة أو مفسدة؛ لأنّ الوجوه والاعتبارات قد تكسب الفعل أوصافًا غير أوصافه الذاتية، وذلك كالقتل، فإنّه قد يكون حسنًا إذا كان قصاصًا، ويكون قبيحًا إذا كان عدوانًا.  

     وبناءً على ذلك: إذا لوحظ أحد هذه المعاني في أيّ فعل من الأفعال أمكن الحكم عليه بالحسن أو القبح، وهذا الأمر بديهي وجداني لا يحتاج إلى دليل أو برهان، كذلك لا يحتاج إلى مراجعة الشرع وانتظار حكمه فيها.

    نعم، قد تحصل شبهة، أو لا يمكن العثور على معيار الحسن والقبح، فحينئذٍ نحتاج إلى مراجعة الشارع لمعرفة تلك المعايير، ويكون دور الشارع هنا مرشدًا لا دور الحاكم؛ لأنّ الحاكم هو العقل.  

    وكذلك أنّ القول بأنّ الحسن والقبح شرعيان لا عقليان يُبطل السُنن الإلهية في التكوين والتشريع، ويُبطل سنة الاختبار والامتحان ووجوب مجازاة المحسن بالإحسان والمسيء بالإساءة؛ لأنّه يجيز سلب العدل بمعنى إعطاء كل ذي حق حقه عنه سبحانه، ويجيز القول بإمكان أن يرسل الله سبحانه الرسالات على يد الكافرين، ويظهر المعاجز على أيدي الكذابين ويوعد الصالحين بالجنة ثم يدخلهم النار؛ إذ ما دام لا يوجد معيار عقلي تنطبق عليه الأفعال الإلهية.

    وبهذا يتّضح: أنّ وصف الله سبحانه بالعدل يستند إلى القول بالتحسين والتقبيح العقليين، ولولا ذلك لأمكن سلب العدل عنه تعالى، ولازمه نسبة ضده إليه؛ لأنّهما ضدان لا ثالث لهما محكومان بحكم النقيضين، وهما لا يرتفعان ولا يجتمعان، وهذا يتنافى مع بديهة العقل ونصوص الكتاب والسنة.

الملاك في المدح والذم:

     المشهور أنّ الملاك في استحقاق المدح والذم هو المصالح والمفاسد النوعيتان، فحكمه بحسن العدل لغاية تحصيل مصلحة نوعية في المجتمع البشري، وحكمه بقبح الظلم للتحرز عن مفسدة كذلك، ومن هذا القبيل حكمه بحسن الصدق وقبح الكذب ونظائرهما.

     والوجه في ذلك هو: أنّها جميلة محبوبة لكل عاقل، والجميل مطلوب بنفسه.

يلاحظ عليه:

     إنّ هذا الملاك وإن صحّ في البحث الأخلاقي إلا أنّه غير مقبول في البحث الكلامي؛ لأنّ معنى المصلحة والمفسدة بالقياس إلى الإنسان أنّ له حاجات وغايات كما أنّ له قوى واستعدادات، فيجب عليه رعاية العدل في إعمال قواه واستعداداته حتى يصل إلى غاياته ويقضي حاجاته قسطًا وعدلًا، فما كان من الأفعال ملائمًا لأصل الاعتدال كان مصلحة، وما خالفه كان مفسدة.

      ولا شك في بطلان المصلحة والمفسدة بهذا المعنى في حقه تعالى؛ لأنّ الملاك في باب الحسن والقبح في الأفعال يرجع إلى قياس أفعال الفاعل إلى ذاته لا إلى غيره، والمصلحة والمفسدة بهذا الملاك تستدعي القوة والاستعداد، والحاجة والنقص وهي مستحيلة في حقه تعالى.   

      والملاك الصحيح هو: أنّ كل فعل وقع في طريق الكمال وبلغ بالإنسان إلى مطلوبه المتوخى كان حسنًا، وما خالف ذلك كان قبيحًا، وهذا الملاك كما يكون شاملًا لجميع الخُلقيات المتعلقة بالإنسان في جميع المجالات، كذلك يصلح لتفسير الحسن في أفعاله تعالى، إذ هو جميل في ذاته جميل في أفعاله، فوجوب وجوده يدلّ على عدله وحكمته، وإنّه لا يفعل القبيح، فأفعاله في غاية الحسن والإتقان.

     

أدلة التحسين والتقبيح العقليان:

     تضافرت الأدلة اللبية والنقلية على أنّ الحسن والقبح أمران عقليان يستقل العقل بالحكم بهما ولا يتوقف على بيان الشرع. نذكر ثلاثة أدلة منها:

     الدليل الأول: الفطرة، فإنّ الإنسان بفطرته الأولية يدرك حسن بعض الأفعال وقبحها، ولذا يتفق الأطفال على حسن العدل والصدق وقبح الظلم والكذب؛ ولهذا يحبون العادل والصادق ويكرهون الظالم والكاذب، ويتفق جميع العقلاء على اختلاف طبائعهم وتقاليدهم ومعتقداتهم ومستوياتهم العقلية والفكرية على حسن العدل والصدق وقبح الظلم والكذب، ومدح المحسن وذم المسيء.

    الدليل الثاني: العقل، فإن كان الحسن والقبح شرعيين لزم عدمهما، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

     بيان الملازمة: أنّهما لو كانا شرعيين للزم أن لا نحكم على شيء بأنّه قبيح أو حسن إلا بإخبار الشرع، ولو أخبر الشرع لا نجزم بصدقه؛ لأنّ الجزم بصدقه: إمّا يبتني على حكم العقل بقبح الكذب عليه ومنافاته لكماله، والمفروض أنّ العقل معزول عن مثل هذا الحكم كما قرّر الأشاعرة، وإمّا يبتني على حكم الشرع فيستلزم الدور؛ لتوقف الجزم بصدق الشرع على قبول حكمه، وقبول حكمه يتوقف على الجزم بصدقه.     

الدليل الثالث: النقل

     إنّ القرآن الكريم أيّد نظرية التحسين والتقبيح العقليين، بل راعى في أحكامه وتعاليمه موازين الحسن والقبح في آيات عديدة، منها:

     1- قوله تعالى: (إنّ الله يأمُر بالعَدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى ويَنهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي يَعِظُكم لعلّكم تذكّرُونَ)(2).

     ومن الواضح أنّ الأمر بالعدل يتوقف على وجود العدل ومعرفته أولًا، كما أنّ النهي عن الفحشاء والمنكر يتوقف على وجودهما ومعرفتهما؛ إذ لولا ذلك لما أمر الله سبحانه بهما، وذلك نظير أمر الشارع باستعمال الماء في الوضوء والغسل، فإنّه لا بدّ وأن يكون الماء موجودًا حتى يأمر الشارع باستعماله في الوضوء والغُسل، وإلا للزم وجود الحكم بلا موضوع، وهو مستحيل؛ لأنّ نسبة الموضوع للحكم كنسبة العلة إلى المعلول، ولازم وجود الحكم قبل الموضوع هو وجود المعلول دون علة، أو التكليف بالمجهول، والتكليف بالمجهول يستلزم التكليف بغير المقدور، وهو باطل.

    إذن، لا بدّ وأن تكون المعرفة بالعدل والإحسان بعد وجودهما سابقين على الشرع، فثبت مراعاة الشرع لهما لا إحداثهما.

    2- قوله تعالى: (إنّ للمُتقين عند ربِّهم جنّات النّعيم أفنجعَل المُسلمينَ كالمُجرمينَ ما لكم كيف تَحكُمونَ)(3).

     وهذه الآية تدلّ على أنّ جزاء المتقي الجنة لا غير، وهذه النتيجة تترتب على الفعل كترتب المعلول على العلة؛ لأنّ السبب في دخول الجنة هو التقوى، ولولا أن يكون هذا حسنًا وغيره قبيحًا للزم التساوي بين المتقي والمجرم، وهو ما ذمه القرآن ونزه الباري منه.

     

 

     وكذلك ورد في السنة المطهرة ما يؤيد نظرية العدلية، منها:

     1- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)(4).

     والأخلاق هي مجموع فعل المحاسن وترك المساوئ، ولولا أن تكون للناس معرفة بها قبل البعثة النبوية الشريفة لما صحّ جعل تتميمها بين الناس غاية بعثته.

     2- ما رواه الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (أمّا التوحيد فأن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك، وأمّا العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه)(5).

     ولولا أن يكون الفعل الملام عليه معروفًا لدى الإنسان لما صحّ أن يلومه عليه؛ إذ لا لوم على المجهول.

     انظر: الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية للشيخ فاضل الصفار ج2، ص 20.

 

الهوامش:-----

(1) الكافي، الأصول، ج ۱، كتاب العقل والجهل، الحديث ١٢

(2) سورة النحل: الآية ٩٠

(3) سورة القلم: الآيات ٣٤ - ٣٥- ٣٦

(4) بحار الأنوار: ج ١٦، ص ٢١٠

: السيد مصطفى الرضوي