آل محمد(عليهم السلام) القدوة في العيش المشترك

إن الحياة الدنيا في عيشها مركبة على أمرين مهمين هما قوام الحياة والعيش فيها:

الأمر الأول: العلم والمعرفة، اللذين زخر بهما القرآن الكريم وأقوال النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

الأمر الثاني: تطبيق هذا العلم والمعرفة سلوكياً في الحياة الدنيا والذي يتبنى عليه النتائج الحياتية، أي السعادة والفرح والشقاء والحزن.

والأمر الثاني يبنى على الأول ويكون شكله شكل الثاني، فكيفما يكون الأول يكون الثاني، وقد قال الله تبارك وتعالى:{ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}[1]، فالناس إما مؤمنون وإما غير ذلك، فالمؤمنون يطلبون الرحمة في الحياة الدنيا بالعلم من الله سبحانه وتعالى، والظالمون لا يستفيدون من ذلك ولا يرغبون ولا يحصدون سوى مزيد من الخسران، أما الأفراد الضعفاء فيصابون بالضياع واليأس في حال ظهور المشاكل، فهؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم وتغير حالهم، هذه الأمزجة والأحوال التي تتغير وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإنسان نفسه(السلوك).

وكما هو معروف فالعلم والمعرفة بحاجة إلى التطبيق والعمل لتنتج، ولا يتمكن من ذلك بتمامه وكماله سوى النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام).

فإذا لم تستند الحياة إلى هذين الأمرين تكون متذبذبة غير مستقرة، ولا يخفى أن أهم هذين الأمرين الثاني وليس الأول، لأنه يكشف عن الأول ونوعه، فالحياة الإنسانية حياة تبنى على سلوكيات الإنسان ونتائجها، والتي تتسم بالإيجاب فيسعد وبالسلب فيحزن، حيث لا تخلو الحياة من هاتين الحالتين، وهذا أمر طبيعي وليس أمراً مستغرباً، وذلك بسبب اختلاف الثقافات والتجارب والأنماط الفكرية لدى الإنسان، والذي يستلزم تنوُّع الآراء واختلافها، مما يستدعى التكاتف أو حدوث الخلافات والشجار والتباغض والافتراق والانفصال، وهذا حال الدنيا إذ لا استقرار دائم فيها وفي بيوتها، إلا في حياة وبيوت المعصومين(عليهم السلام)، ودليلنا على ذلك أننا نرى اليوم، أن المشاكل وعدم الاستقرار قد تفاقمت وتجاوزت الحد، بحيث بلغت نسب الافتراق والانفصال(الطلاق) في شهر واحد فقط (6973) حالة، بمعدل نحو (235) حالة طلاق يوميا، و(10) حالات في الساعة الواحدة[2].

وهو رقم مهول يلزمنا الفحص عن العلة والسؤال عن السبب الذي أدى لذلك، فقد يكون بديهياً الجواب: بأن الأسباب متعددة ومختلفة لاختلاف الشخصيات والموارد والظروف والأسباب وكل ذلك نتيجة للاختلاف العلمي والمعرفي.

ولكن الحق أننا نرى أن المشكلة ليست في العلم بالعلم والمعرفة، ولكن المشكلة في تطبيق العلم والمعرفة للخل المعرفي والتطبيقي، إذ لابد لها من نموذج خبير يحتذى به تقوم خبرته على نوع العلم والمعرفة التي يحملها الشخص ويطبقها عملياً، وباعتبار أننا مسلمين على نهج النبي(صلى الله عليه وآله) وآل بيته الطاهرين المعصومين(عليهم السلام)، فلابد أن يكون علمنا من القرآن الكريم وأقوال النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وأما تطبيقاً وسلوكياً فالمسألة تحتاج إلى إنسان مطبق ناجح في تطبيقه من دون خطأ(معصوم) يرينا كيف نطبق، ولا يوجد لدينا في هذا السبيل غير أهل البيت(عليهم السلام)، فهم للعاقل اللبيب الملجأ والمنجا، وعلى هذا فنحن في حل مشكلاتنا الدنيوية لا محيص لنا إلا باللجوء إليهم وسبر حياتهم البشرية لنعرف المنهج والطريق الصحيح والقويم في حل مشكلاتنا باعتبار أننا مسلمون شيعة، وهي كلمة تعني السير على نهجهم وخطاهم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل.

لذا ففي مشكلة العصر التي تلم بنا، وهي انهدام حياتنا المشتركة(الزوجية) وتصدعها، لابد لنا من دراسة حياتهم المماثلة ونلتمس سر نجاحها والسعادة فيها، فمن كانت حياته مليئة بالفشل الجزئي والكلي لابد أن يستكشف الخلل في حياته عبى ضوء معيار يقاس عليه، إذ لا يوجد على هذه الشاكلة في هذه الدنيا غير المعصوم(عليه السلام) الذي يمكن اتخاذ حياته المشتركة معيار لحياتنا، فبيوتهم بيوت  لم يصبها هذا الخلل ولا هذه العلة، ولا أعني بذلك بيت النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لأنه ما ضم معصومين غير النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، بل أعني بيت علي ابن أبي طالب(عليه السلام) وفاطمة الزهراء(عليها السلام)، وأقصد بعصمة هذه البيوت: (عدم تأثرها بالواقع والظروف الخارجية، فهي موضوعية لا تخطأ في الفعل ولا تسهو ولا تغفل ولا تتأثر وتنفعل، بل تؤثر وتفعل وما إلى ذلك، فهكذا بيوت وبهذه الصفات يفترض أن تكون هي معيارنا في الحياة المشتركة علمياً، والقدوة سلوكياً، والأمنية والأمل في الفلاح، وهي النتيجة التي يطمع بها كل إنسان ويصبوا إليها.

 

تتبع حياة القدوة

يذكر التاريخ أن مولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام) عاشت في بيت زوجها علي(عليه السلام) قريرة العين سعيدة النفس، لا تفارقها البساطة ولا تبرح بيتها خشونة الحياة، فهي الزوجة المثالية، إذ كانت حقاً بمستوى مهمتها التي اختارها الله تعالى لها ولكل النساء كزوجات صالحات، فكانت هي(عليها السلام) القدوة الصالحة والزوجة النموذجية، فصار بيتهما منبع الفضائل الأخلاقية والكمالات الإنسانية بكل ما للكلمة من معنى.

وهنا يجب أن ننبه على شيء مهم، هو أن الحياة الزوجية تعد معقل الأنثى(الزوجة) والذكر(الرجل)، وهي من الأمور المسلمة التي يجب الحفاظ عليها بكل ما أو تينا من علم ومعرفة وقوة، لأن الخسارة كبيرة في حال تخلّى الإنسان عنها، وسَرَحَ في الميادين الاُخرى، وعجز عن القيام بوظيفته الأساسية، وهي: تربية الأبناء.

ولا يخفى أن السر في المشاكل الأسرية عند تقصيه وتحليله بشكل اجمالي يفضي إلى أن جميع المشاكل تحدث إما بسبب:

1-  العقيدة والفكر.

2-  السلوك التربوي.

3-   الخلل الوظيفي.

4-   العلم والمعرفة الحياتية(ثقافة الحياة).

فمولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام) كان ديدنها بذل الجهد لإسعاد اُسرتها، ولم تستثقل يوماً من أداء مهام بيتها، رغم كلّ الصعوبات والمشاق، حتى أنّ عليّاً أمير المؤمنين(عليه السلام) رقّ لحالها وامتدح صنعها، وقال لرجل من بني سعد: ((ألا اُحدّثك عنّي وعن فاطمة؟ إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله صلى الله عليه وآله إليه، وإنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد فقلت لها: لو أتيت أباكِ فسالتيه خادماً يكفيكِ ضرّ ما أنتِ فيه من هذا العمل، فأتت النبيّ(صلى الله عليه وآله) فوجدت عنده حُدّاثاً فاستحت فانصرفت))[3]، ولم تسأله لأنها أخذت الصبر على عاتقها منهجاً في الحياة، واكتفت بسلوك زوجها إذ خفف عنها كما يقول الإمام جعفر ابن محمد الصادق(عليه السلام): ((كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز))[4].

فالزهراء(عليها السلام) عاشت في بيت أعظم شخصية إسلامية بعد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، فكانت توفّر له الجوّ اللازم والدفء والحنان المطلوب في البيت المشترك، وبهذا كانت تشترك في جهاد عليّ(عليه السلام) إذ أن ((جهاد المرأة حسن التبعّل لزوجها))[5].

وقد كانت أيضاً حريصة على أن تطيع زوجها، فما خرجت من بيتها يوماً بدون إذنه، وما أسخطته، وما كذبت عليه، وما خانته، وما عصت له أمراً، وكان ديدن الإمام عليّ(عليه السلام) يعاملها باحترام وودّ لذلك، وهو يعلم مقامها ومنزلتها الرفيعة عند الله تعالى التي نالتها بالالتزام والطاعة والقرب من الله تعالى ذكره، حتى قال(عليه السلام) واصفاً عيشه معها: ((فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل إليه، ولا أعصبتني، ولا عصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان))[6].

والجدير بالذكر أنها(عليها السلام) لم تكن متغيرة في حياتها، فما عمرت الدور وما بنت القصور ولم تلبس الحرير والديباج ولم تَقْتَنِ النفائس، بل كانت تنفق كلّ ذلك على الفقراء والمساكين وفي سبيل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام، مما يعني أنها تنفق في غير مصلحتها الشخصية الدنيوية، وهكذا كان حال زوجها عليّ(عليه السلام) الذي أوْقف على الحُجاج مائة عين استنبطها في ينبع وقد بلغت صدقات أمواله في السنة أربعين ألف دينار وكانت صدقاته هذه كافية لبني هاشم جميعاً إن لم نقل إنّها تكفي اُمة كبيرة من الناس من غيرهم، إذا لاحظنا أنّ ثلاثين درهماً كانت كافية لشراء جارية للخدمة، وكان الدرهم يكفي لشراء حاجات كثيرة حينذاك.

وقد كان ديدنها الحفاظ على دورها ووظيفتها في هذه الحياة المشتركة، حيث وضحت المصادر التاريخية وذكرت عن حياتها الزوجية أنها كانت(عليها السلام) تقوم بوظيفتها بأحسن وجه وأكمله، ونعني بذلك الأمومة والتربية، فالأمومة من الوظائف الحسّاسة والمهام الثقيلة كما هو معروف ومعلوم، لأنها تشتمل على الانجاب والتعليم والتربية فضلاً عن المهام الأخرى الشخصية والاجتماعية، حيث أنجبت الزهراء(عليها السلام) لعلي ابن أبي طالب(عليه السلام): الحسن والحسين وزينب واُمّ كلثوم(عليهم السلام)، فحفظت بهم الامتداد النوعي، وربتهم وعلمتهم على الصبر والتضحية والفداء، ولا يخفى أن حفظ الامتداد لا يكون بالإنجاب فقط، بل بحفظ الخصائص والصفات الوراثية والتربوية، وقد شهد القرآن بذلك اذ تحدث عن ذراري الأنبياء(عليهم السلام) فقال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[7].

كما أنها لم تتغير حتى بعد أن أصبحت موفورة المال، في سعة من العيش ـ خصوصاً بعد فتح بني النضير وخيبر وتمليكها فدكاً وغيرها ـ عمّا كانت عليه قبل ذلك رغم غلّتها الوافرة، إذ روي أنّ فدكاً كان دخلها أربعة وعشرين ألف دينار، وفي رواية سبعين ألف دينار سنوياً.

لذا فإن إلقاء نظرة فاحصة على هذه البيوت المعصومة يعطينا فكرة عن الحياة المشتركة وكيفية عيشها بوئام وسلام بالرغم من مشقتها وصعوبتها، وحري بالإنسان استقصاء حياتهم(عليهم السلام) للتعرف على سر نجاحها فتكون أنموذجاً يحتذى به، ويتعلم منه لاستقرار حياته.

والفكرة التي تعطينا طريقة حياتهم المشتركة بعد تقصيها وفحصها، والتي يلزم ان نقتدي بها ونعيش وفقها، هي أن تقوم الحياة المشتركة على أسس متينة ورصينة وهي:

1- مخافة الله تعالى والامتثال لأمره وتحصيل رضاه.

2- إدارة الحياة المشتركة بناء على العلم والمعرفة.

3- الانهماك في التعليم ونقل الثقافة.

4- العناية والاهتمام بالأخلاق والآداب والسلوك السليم والنموذجي.

5- الهمة العالية والسعادة وعدم التكاسل في أداء المهام الوظيفية التي كلف الله تعالى بها هذا الكيان المشترك.

وإلا ففي خلاف ذلك تكون الحياة المشتركة متعثرة وغير منتجة ومنتهية بالحزن والماسات والخيبة.

الهوامش:-------------------------------------------------------------------------

[1] سورة الاسراء: 84.

[2] انظر: احصائيات مجلس القضاء الأعلى في العراق.

[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٨٢، ص:٣٣٠.

[4] فروع الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج ٥، ٨٦.

[5] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج74، ص: 166. 

[6] حياة أمير المؤمنين(عليه السلام) عن لسانه، محمد محمديان، ج ١، ص: ١٠٦.

[7] سورة آل عمران: 34.

: الشيخ مازن التميمي