دلالات ( الشهادة) في التعبير القرآني

        إنّ الشهادة من القيم العليا والملكات العالية التي يهبها الله سبحانه لمن يشاء من عباده المخلصين، من الذين يشهدون بالحقِّ ويموتون عليه .

والثابتُ في معناها أنّها إنّما تكون خالصة لله سبحانه ، فالله (عزّ وجلَّ) هو الأحقُّ بالشهادة ، مصداقًا لقوله: ( وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) ( آل عمران: 98) ، و:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ( فصلت 53) ، ثمّ يَمتنُّ بها سبحانه على مَنْ اصطفى من عباده([1])، قال تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ( البقرة : 41).

وقد أورد التعبير القرآني دلالاتٍ متنوعة للشهادة ، نظر إليها اللغويون وسجّلوا في ضوئها المعاني اللغوية لمادة (ش هـ د) ، فقد أوردوا فيها :  شَهِدَ يشهَدُ شهادةً  ، وشهِد الرجلُ على كذا ، فهو شاهِدٌ، والشاهدُ: العالمُ الذي يبين علمهُ ، والجمعُ : أشهادٌ وشُهودٌ وشُهَّدٌ ، والشهيدُ : الشاهدُ، والجمع ُ: شُهَداء ([2]) .

ومن أهمِّ الدلالات التي استحدثها الإسلام للشهادة هي ( التوحيد) ، وهو الركن الأول من أركان الدخول في الإسلام بشهادة ( أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمدًا رسول الله )، وبذلك يكون الإسلام قد أكسب الشهادة دلالة الإيمان وما يصدر عنه من إقرار وتصريح، ليغدو معناها: الاعتراف بوحدانية الله وتنزيهه عن الشريك ، والتصديق بنبوة الرسول الأكرم.

 واستحدث النصُّ القرآني من دلالات الشهادة معنًى لا ندركه إلّا بإخبار الله سبحانه، وهو شهادة رسول الله على الأنبياء في يوم القيامة ، قال تعالى: ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا) ( النساء:41) .  

ومن الدلالات الأُخَر التي ظهرت في النصوص القرآنية للمتَّصِف بالشهادة : ( الحافظ أي : الملك الذي يكتب أعمال بني آدم ، وأُمّة رسول الله ، والمُستَشهَد في سبيله تعالى ، والذي يشهد على حقٍّ من حقوق الناس ، والحاضر، والشريك ) ([3]).

وبذلك يكون المستشهد في سبيل الله هو الشهيد بمعناه الإسلامي الجديد،  وهو الذي يُضحِّي بنفسه على طريق الحقِّ فينال المنزلة العليا ، وقد بيّن سبحانه مقدار حبّه لشهداء دينه  في قوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ( آل عمران 140) ، وإنّما عبّر سبحانه بـ( الاتخاذ) لكمال العناية بالشهداء والتكريم لهم ، فقد أحبهم سبحانه وارتضاهم فاتخذهم شهداء .

ومن المواضع الأُخَر التي أظهر الله فيها تشريفَه للمُتَّصِف بالشهادة : قوله : ( وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) ( الحديد : 19) ، وفي تقديم لفظ ( الشهداء ) وكونهم ( عند ربهم) تشريف لمكانتهم وإعلاء لمنزلتهم ، إذ منزلتهم مِن منزلةِ مَن يكونون عنده ، وفيه الدلالة على سرمدية هذه المنزلة لهم ، فهم خالدون أبدًا بخلود الله.  وفي تقديم متعلِّق الخبر( الجار والمجرور _ لهم _ ) على المبتدأ ( أجرهم ) إيذانٌ بكمال العناية بهم والتشريف لمقامهم.([4])

 ومن دلالات الشهادة  في التعبير القرآني( القتل في سبيل الله) ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ( آل عمران: 169). ولعل التعبير بالقتل هنا مجانسة للموت، والمراد بالقتل هنا القتل الظاهري وسقوط الإدراك لأجل مفارقة تلك الحياة المعروفة ، أمّا حياة الآخرة فهي الحياة الواقعية المعنوية.

ونلحظ أنّ المخاطب في الآية هو الرسول الأكرم، ونميِّز فيها حذف المسند إليه في الجملة الاسمية بعد حرف الإضراب(بل)، ووصفه بصيغتين متواليتين (عند ربهم) و ( يرزقون) ، ولعلّ في ذلك التعبير القرآني ما يُرشد إلى حقيقةٍ لا يمكن إدراكُها بيسرٍ، ولا تقبلها عقول سائر الناس المأنوسة بالمادة، إلّا من كان متصلًا بالفيض الرباني ومتربيًا بالتربية الإلهية ومهتديًا بهدى الله تعالى ([5]).

و ورد لفظ (القتل في سبيل الله ) بمعنى الشهادة كذلك في آيتين كريمتين، الأولى قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (آل عمران:157)، والثانية قوله تعالى:( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) ( آل عمران:158) .

ونلحظ اختلاف التعبير القرآني فيهما ، ففي الأولى قدّم (القتل ) على( الموت)، وفي الثانية قُدِّم ( الموت) على ( القتل) ، وقصدية التعبير في كلِّ موضعٍ تُنبئ عن السبب، ذلك أنّ الآية الأولى في سياق تأكيد القتال في سبيل الله بحسب ما صرّحت به الآية قبلها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ( آل عمران: 156) .

        فإن كون القتل في سبيل الله سببًا للمغفرة  ممّا يحتاج إلى تدبُّر وعزم ، فالتذكير في      ( رحمة ) و( مغفرة) ، أوحى بأن السفر والغزو في سبيل الله ليس ممّا يجلب الموت ويسبب الهلاك ، ولئن وقع ذلك بأمر الله لنفحة يسيرة من مغفرة الله ورحمته تعالى، وذلك خيرٌ ممّا يجمعون . وفي الثانية كون الموت في غير سبيل الله له مثل تلك النتيجة  ممّا يُستبعَد ( 5) .

ونلحظ في سياق الآيتين أنّ جواب الشرط قد حُذف ، وترك لجملة جواب القسم الإحاطة بالتركيب من جانبيه ، إذ إنّ تقدم القسم على الشرط سوّغ حذف جواب الشرط وتقديره من سياق جواب القسم، على وفق القاعدة النحوية ([6])، وذلك لمزيد العناية بموضوع الشهادة في سبيل الله .

        ونخلص من ذلك أنّ الشهادة  قد ذُكرت في التعبير القرآني بمعانٍ عدّة ، فمنها ما اختصّ به سبحانه ، ومنها ما اختصّ برسوله الكريم ومَن اختارهم واصطفاهم لرسالاته وبيان شرائع دينه، ومنها ما أُفرد لسائر الأمّة ممّن ينطبق عليهم الاتصاف بالشهادة ، مِن الذين شهدوا الحقَّ وماتوا عليه ، فهؤلاء هم أكرم الناس وأنبلهم ، وبدمهم يوزن مداد العلماء في يوم القيامة .

ولعلّ الصورة الحيّة للشهادة، بمعانيها المتنوعة، قد جسّدها الدمُّ الطاهر الزكي الذي سال في أرض كربلاء ، ورسم بوضوح الآية البيّنة لمعنى الشهادة على امتداد الزمان والمكان ، فالحسين (عليه السلام) هو سيد الشهداء.

[1] - ينظر: الميزان في تفسير القرآن ، السيد محمد حسين الطباطبائي 6/137.

[2] - ينظر: الصحاح ، للجوهري 2/494-495، ولسان العرب ، ابن منظور 3/239.

[3] - ينظر: الأشباه والنظائر، مقاتل بن سليمان 147-148.

[4] - ىنظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي 18/54.

[5] - ينظر: الكشاف، للزمخشري 1/133، والبرهان في علوم القرآن ، الزركشي 4/258،.

[6] - ينظر: البديع في علم العربية ، مجد الدين بن الأثير 1/279.

المرفقات

: د. وسن علي حسين المديرية العامة لتربية بابل : دار القرآن الكريم