إشكال الغيبة المهدوية ونقض الغرض الإلهي

مفاد الشبهة: يقول البعض أنّ حاجة المجتمع البشري إلى الإمام أمر أقر به العقل وأيده النقل وذلك لأنّ المجتمع دائماً وفي جميع حالاته بحاجة ماسة إلى من ينظم شؤونه ويقربه من الطاعة ويبعده عن المعصية والوقوع في الضلال.

وهذا ما أطلق عليه الإمامية (قاعدة اللطف)، فإنّ العقل يحكم بأنّ الله تعالى لم ولن يترك هذه الأمّة سدى، فلا بُدّ أنْ ينصب لهم اماماً هادياً يهديهم إلى سبيل النجاة ويبعدهم عن طريق الضلال، وإلاّ لانتفى الغرض الإلهي.

ولذا اقتضت الحكمة الإلهية أنْ يجعل الله تعالى إثني عشر خليفة من بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم يحكمون بين الناس بالعدل، ويقيمون شرع الله تعالى بدءاً بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام وختاماً بالإمام صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف.

لكنّنا نجد أنّ بعض المشككين قد وقف موقفاً صارماً أمام هذا المعتقد، وبدأ ينقض ما استدلّ به علماء الإمامية على وجوب نصب الإمام، وذلك من خلال الاعتقاد بغيبة الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه الشريف، فيقول كيف يمكن لإمام غائب أنْ ينظّم شؤون هذا المجتمع ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الحدود والتعزيرات؟ أليس هذا ناقضاً للغرض الإلهي؟ بل هو عكسه تماماً!

 

 

جواب الشبهة: وذلك من خلال وجوه عدّة:

الوجه الأول: الغيبة حكمة إلهية وسبب بشري:

    إنّ غيبة الامام عجل الله فرجه الشريف ليست سبباً إلهياً محضاً حتى يمكن أن تنقض الغرض الإلهي، بل أنّها وإن كانت بحكمة من الله تعالى إلّا أنّ السبب والمخطط بشرياً، فإنّ الله تعالى لمّا نصب الإمام عجل الله فرجه الشريف لم يكن الهدف من ذلك أنْ يغيّبه عن الأمّة، ولكنّ الأمّة إذا رفضت وأنكرت إمام زمانها جاز لله تعالى أنْ يرفع عنها بعض لطفه، وذلك واضح من خلال التتبع لسيرة الأنبياء والرسل عليهم السلام بدأَ بسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، فإنّ أهل مكة لمّا رفضوا وأنكروا نبوة النبي صلى الله عليه واله وسلم، وتآمروا على قتله اقتضت الحكمة الإلهية أنْ يرفع الله تعالى عن هذه الأمّة بعض لطفه وذلك من خلال هجرته إلى المدينة المنورة.

وكذلك ما حصل للنبي يوسف عليه السلام، فإنّه قد غاب عن قومه سنين عديدة، ولم تكن غيبته ناقضة للغرض الإلهي؛ لأنّ الأمة هي التي رفضت إمام زمانها، ووقفت بوجهه, ورمته بالبئر وادّى ذلك إلى أنْ يرفع الله عنهم ذلك اللطف لعلهم يرجعون إلى صوابهم في فترة من الزمن، وهذا ما حصل بالواقع حيث أنّهم لمّا احسّوا بخطئهم اتّجاه أخيهم وإمام زمانهم توجّهوا مباشرة إلى أبيهم يعقوب عليه السلام قائلين له {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين}[1]، وعندما ننظر إلى مسألة موسى عليه السلام نجد أنّ الله تعالى يقول: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[2]، فهذه الآيات تبيّن لنا وبكل وضوح كيف أنّ الأمّة قد رفضت إمام زمانها وعزمت على قتله فاقتضت الحكمة الإلهية أنْ يرفع عنهم بعض لطفه وذلك بغيبته عنهم وأن يكون تحت ستار الخفاء، ولم تكن تلك الغيبة ناقضة للغرض الإلهي، بل عندما توفرت الأرضية الملائمة لموسىعليه السلام ظهر لقومه وانتصر على فرعون وجنوده وأمّنَ للأمّة آنذاك حرية الحركة والانطلاق, وأخرجهم من الظلمات إلى النور.

وكذلك حينما أرادوا قتل عيسى عليه السلام وصلبه، رفعه الله تعالى إليه، فحرموا أنفسهم من بركات وجوده، وسيعود إليهم حين يكفّون عن مناوئته، ويأمن جانبهم، ويتمكّن من القيام بواجبه، وما أوكله الله تعالى إليه.

وهذا عينه ما حصل للإمام صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف فالأمّة هي التي رفضته وكادت أنْ تقتله لولا رعاية الله تعالى له.

الوجه الثاني: عدم انحصار الغرض الإلهي بالتبليغ:

    إنّ الغرض الإلهي من نصب الإمام غير منحصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بنشر الأحكام وإقامة الحدود وغيرها، فإنّ هذه الأمور إنّما هي واجب العلماء بعد الغيبة الكبرى كما ورد عن الإمام عجل الله فرجه الشريف (فَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا بِهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وانا حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ)[3]، بل إنّ الغرض من نصب الإمام عجل الله فرجه الشريف هو حفظ الدين، ويؤمن الأمة من الهلاك وهو الواسطة في الفيض الإلهي سواء في عالم التكوين أو غيره، فقد ورد عن أبي حمزة قال: (قُلْتُ لِأَبِى عبدالله عليه السلام أَتبْقَى الأرض بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ فَقَالَ: لَوْ بَقِيَتِ الارض بِغَيْرِ إِمَامٍ لَسَاخَتْ)[4]، وكذلك الشهادة على الأعمال، فإنّ الإمام شهيد على أعمال الخلائق كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}[5]، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: ( لكُلِّ زَمَانٍ وأُمَةٍ إمامٌ تُبْعَثُ كُلُّ أُمَةٍ مَعَ إمامِهَا)[6]، وكذلك إنّ وجود الإمام عليه السلام ومعرفته والإقرار بولايته وطاعته يضمن للإنسان الموت على الهداية وطريق الحق، فقد ورد عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ لَهُ إِمَامُ فَمِيتَتُهُ مِيتَةُ جَاهِلِيَّةُ، قَالَ: قِلَّةُ: مِيتَةَ كَفَرَ؟ قَالَ: مِيتَةُ ضَلالٍ، قِلَّةُ: فَمَنْ مَاتَ الْيَوْمَ ولَيْسَ لَهُ أَمَامُ، فَمِيتَتُهُ مِيتَةُ جَاهِلِيَّةً؟ فَقَالَ: نَعَمْ)[7]، ومن هنا ورد عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: (وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ أَنَّهُمْ لينتفعون بِهِ ويَسْتَضِيئُونَ بِنُورِ وَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كانتفاع النَّاسِ بالشمس وَإن جَلَّلَها السَّحَابِ)[8].

الوجه الثالث: سر القوة في الخفاء والتستّر.

 إنّ معنى الغيبة ليس في مقابل الحضور بل في مقابل الظهور، فهي بمعنى الخفاء والتستر لا بمعنى الزوال والابتعاد، وعلى ضوء المعنى الصحيح، أي الخفاء والتستر فأنّه عجل الله فرجه الشريف يمارس دوره لتدبير النظام البشري في ضمن إدارة وتدبير خفيّ، يخفى على الأنظمة البشرية مهما كانت تلك الأنظمة قوية وعملاقة، فإنّ عنصر الخفاء هو سر القوة والقدرة في تدبيره.

ففي قصة الخضر وموسى عليهما السلام مثلاً قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} إلى قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تأويلهما لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}[9].

فتبيّن هذه الآيات المباركة أنّ هناك مجموعة من العباد عُنُوا بالرحمة الخاصة الإلهية وحُظوا بالعلم اللدني وهم يقومون بأدوار مصيرية في النظام الاجتماعي البشري، وأنّ هذه الأدوار هي في المجالات المختلفة الإقتصادية والتربوية والحضارية العامة، وأنّ نظام تدبيرهم هو (الخفاء والسرية)، وإنّ كلّ تفاصيل برنامجهم وتدبيرهم هو بتعيين وأمر رباني إلهي.

وكذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه واله وسلم، وهو أنّ وجوده عجل الله فرجه الشريف كالشمس التي غيبتها السحب حيث سئل الرسول صلى الله عليه واله وسلم: (كَيْفَ يُنْتَفَعُ بِالْإِمَامِ فِي غَيْبَتِهِ؟ فَقَالَ والَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ أَنَّهُمْ ليستضيئون بِنُورِهِ ويَنْتَفِعُونَ بِوَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كانتفاع النَّاسِ بِالشَّمْسِ وَانٍ تَجَلَّلْهَا السَّحَابِ)[10].

فيبيّن هذا الحديث الشريف، أنّ الدور القيادي للشمس على جميع الكواكب باقياً ومستمراً وإن كانت خلف السحب، وكذلك الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف، فأنّ دوره وتنظيم أمور المجتمع باقياً ومستمراً وإن كان الامام غائباً ومتخفياً، وهذه إشارة منه صلى الله عليه واله وسلم إلى حكومة الإمام الخفية والدور القيادي الذي يمارسه على مستوى السر والخفاء.

 وهذا المعنى نجده واضحاً حتى في الدول الكبرى المتقدمة والحركات التي سيطرت على أغلب البلدان في العالم، فالولايات المتحدة الأمريكية، لها حكومتان حكومة مرئية وحكومة سرية:

الأولى: هي الحكومة التي يقرأ عنها المواطنون في صحفهم، ويدرس عنها الأطفال في كتبهم المدرسية.

والثانية: هي الحكومة الخفية السرية التي تنفذ سياسات الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة وتعمل هذه الحكومة الخفية على جمع المعلومات والتجسس، وتخطط وتنفذ عمليات سرية في جميع أنحاء العالم[11].

  يقول أحد الصحفيين الأمريكيين: في عام 1964 كان المجتمع الأمريكي متكوناً من تسعة أعضاء، بما فيهم (cia) ، وكان المجتمع الإستخباراتي عبارة عن الفرق السرية التي تتمتع بسلطة متنامية، فقد كان قادراً على إطلاق العمليات السرية في جميع أنحاء العالم بالإضافة إلى تخطيط العمليات من غير معرفة (الكونغرس) أو السيطرة الرئاسية الكاملة.

وفي عام 2012 أصبح المجتمع الإستخباراتي السري مكوناً من سبع عشر مؤسسة رسمية وهناك ثلاث وثلاثين مجمعاً للعمل الإستخباراتي السري للغاية قيد الإنشاء كلّها تعمل لأجل التجسس وتنفيذ العمليات السرية والخفية في جميع أنحاء العالم.

وكذلك الحركة الماسونية[12]، فأنّها تكاد أن تحكم العالم وتقوم على دكِّ كلّ مذهب أو دين، ونقض كلّ نظام، والتشكيك بكلّ قيم الشريعة، كلّه من خلال عملهم الخفي الغير ظاهر للعيان.

وكذلك ما نراه اليوم في الصراعات العالمية فأنّ جميع المشاريع التي يقودها الغرب في المناطق المستهدفة إنّما تمرر بالخفاء وليس بالعلن سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ.

إذن فمن خلال التدبير والتخطيط الخفي، لهذه الدول والحركات استطاعت أن تسيطر على الكثير من البلدان في العالم، وهذا هو سر قوتها.

ومن هنا قد تبيّن لنا أنّ السر في غيبة وخفاء الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف أنّه يمكن له أن يمارس دوره في التخطيط وتنظيم إدارة شؤون المجتمع وتهيئة الظروف لتحقيق الوعد الإلهي من خلال الغيبة والخفاء.

وقد استخدم هذه المنهج الكثير من الأنبياء عليهم السلام، وذلك من قبيل النبي يوسف عليه السلام الذي غاب عن الأمة لسنين طويلة واستطاع أن يكون قائداً وعزيزاً لمصر لسنوات عديدة، وكان يتواصل مع المجتمع ويحلُّ الأزمات الكبرى السياسية والاقتصادية، ويدعو الأمة إلى المنهج الإلهي، إلّا أنّ جلَّ حركته كانت بالخفاء ومن دون أن يعلن عن حقيقته كإمام ونبي منصب ومبعوث من قبل الله تعالى، وكذلك النبي صلى الله عليه واله وسلم في دعوته السرية التي كان يمارس فيها أدوراه بالخفاء وليس بالعلن وعلى جميع المستويات سواء من حيث التخطيط أو التنفيذ للأهداف والمشاريع الإسلامية وهذا أمر حضاري اكتشفته الدول حديثاً، واعتنقه مذهب أهل البيت عليهم السلام قبل أربعة عشر قرناً كما هو ظاهر من خلال النصوص والروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.

الهوامش:______________

[1] سورة يوسف الآية 97

[2] سورة القصص الآية 20

[3] كمال الدين واتمام النعمة الشيخ الصدوق ص 484 باب 46 

[4] الغيبة للنعماني ص 13

[5] سورة النحل الاية 98

[6] بحار الانوار العلامة المجلسي ج23 ص 351

[7] بحار الانوار العلامة المجلسي ج8 ص 386ص وورد في كتب أهل السنة والجماعة ما هو قريب إلى هذا النص حيث روي في صحيح مسلم كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ما نصه (مَنْ مَاتَ ولَيْسَ فِي عُنُقِهِ بِيعَتْ مَاتَ مِيتَةً الْجَاهِلِيَّةِ)، وبهذا يعلم أنّ وجود الامام عجل الله فرجه الشريف وإعلان البيعة له يضمن لنا عدم الميتة الجاهلية.

[8] كمال الدين الشيخ الصدوق ج1 ص 475.

[9] سورة الكهف الآية 18 الى 82

[10] اكمال الدين واتمام النعمة الشيخ الصدوق ص253 الحديث 3 من الباب 23 وورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام والإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف في أحد توقيعاته – راجع إكمال الدين وإتمام النعمة ص207 الحديث 22 – من الباب 21 و483- الحديث 4 من الباب 45.

[11] راجع مقالة للصحفي الأمريكي (توم انغلها ردت) تحت عنوان (الدولة الخفية التي تقود الحروب السرية في العالم) – وفيها الكثير من التفاصيل المهمة– موقع maan press وبالعربية (معا برس).

[12] الماسونية: منظمة صهيونية سرية تعمل بالخفاء وتهدف إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم وتدعو إلى الإلحاد والإباحية والفساد، وتتستر تحت شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومعظم أعضائها من الشخصيات المرموقة في العالم، وتسعى أيضاً إلى النفوذ والتسلل إلى مركز القرارات في عدد من الدول لتحقق أهدافها، ولكنّ السر في نفوذها وسيطرتها هو التدبير والعمل بالخفاء والسرية.

المرفقات

: الشيخ وسام البغدادي