بالرغم من أن الأب والأم كليهما يشتركان في صنع الخلية الأولى للطفل ويتساوى دورهما فيه (ولهذا نجد أن الأطفال يكتسبون بعض صفاتهم من آبائهم وبعضها من اُمَّهاتهم) لكن الرحم هو الذي يصنع الطفل ويخرج تلك الذرة الصغيرة بصورة إنسان كامل. وإن جميع الاستعدادات التي كانت كامنة في تلك الخلية الأولية تظهر إلى عالم الفعلية في رحم الأم كما تقدم. إذن فالمقدرات التفصيلية للطفل من الصلاح والفساد، والجمال والقبح، والنواقص والكمالات الظاهرية والباطنية كلها تخطط في الرحم، فهناك مئات التفاعلات والتأثيرات الاختيارية والاتفاقية تمرُّ في طريق أصلاب الآباء وأرحام الاُمَّهات، وتؤثر في الأطفال بصورة خفية حيث تظهر نتائجها جميعا في الرحم، والرحم هو آخر مراحل التأثيرات المختلفة الطارئة على تكوين الطفل، وعند عبوره هذه المرحلة يبدأ الحياة على الأرض.
إذن فالسعادة والشقاء التكوينيّان للإنسان يجب البحث عنهما في آخر المراحل وهو رحم الأم، ولهذا نجد الرسول الأعظم والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام -بالرغم من عنايتهم الشديدة بالتأثير المشترك لأصلاب الآباء وأرحام الاُمَّهات حول سعادة الطفل وشقائه- يوجهون جل اهتمامهم إلى رحم الأم فيقولون: «السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه» (1).
ولهذا السبب اعتبرت الروايات رحم الأم هو الملاك في السعادة والشقاء، وأغفلت ذكر صلب الأب من حيث إنّه لا مندوحة لنا من القول بأن دور الأم في بناء الطفل يفوق دور الأب بكثير. نعم لو اكتفينا بملاحظة دور الأب والأم في تلقيح البويضة بواسطة الحيمن لإيجاد الخلية الأولى للطفل لكانا متساويين في ذلك الدور، إلا أن الواقع من أن الأم تتحمل في دور الحمل مسؤولية كبيرة وبالخصوص فيما يتعلق بأسلوب تغذي الأم ونوعه.
فإنّ دور الآباء في البناء الطبيعي للطفل ينتهي بعد انعقاد النطفة وحصول التلقيح، لكن دور الأم يستمر طيلة أيام الحمل، فالطفل يتغذى من الأم، ويأخذ منها جميع ما يحتاجه في بنائه. ولهذا فإن لسلامة الأم ومرضها، طهارتها ورذالتها، سكرها وجنونها... أثراً مباشراً في الجنين. وأشار إلى ذلك كاريل: «إنّ الأب والأم يساهمان بقدرٍ متساوٍ في تكوين نواة البويضة التي تولد كل خلية من خلايا الجسم الجديد ولكن الأم تهب علاوة على نصف المادة النووية كل البروتويلازم المحيط بالنواة، وهكذا تلعب دوراً أهم من دور الأب في تكوين الجنين».
وقال أيضا: «إنّ دور الرجل في التناسل قصير الأمد. أما دور المرأة فيطول إلى تسعة أشهر، وفي خلال هذه الفترة يغذى الجنين بمواد كيمياوية ترشح من دم الأم من خلال أغشية الخلاص» (2).
إنّ الطفل أشبه ما يكون بعضو من أعضاء الأم تماماً، عندما يكون في بطنها، وجميع العوامل التي تؤثر في جسد الأم وروحها تؤثر في الطفل أيضا. وهذا بخلاف ما إذا ابتلي أب – بعد انعقاد النطفة - بشرب الخمرة أو العوارض الأخرى فإنها لا تؤثر في الطفل، لأن صلة الطفل بأبيه إنما تكون ثابتة إلى حين انعقاد النطفة فقط، لكن صلة الأم تستمر لمدة تسعة أشهر، وعليه فإذا أقدمت الأم - في أيام الحمل - على شرب الخمر فإن الجنين يسكر ويتسمم أيضا.
فإن أحد أسباب سلامة هيكل الطفل ورشاقة قوامه أو عدمها في أيام الحمل يتعلق بالغذاء الذي تتناوله الأم وهي حامل. وكذلك الغذاء الذي كان يتناوله الأب قبل انعقاد النطفة.
آثار الأرحام الملوثة
توجد بين النساء الملوثات بالانحرافات الجنسية طائفة معلنة بالفجور لا تملك الإيمان كي يراقبن الخوف من الله ولا تملك سمعة حسنة في المجتمع كي يخفن من انفضاح الأمر، ولذلك يرتكبن الزنا من دون اكتراث، ولا يرين فرقاً بين الاتصال القانوني وغير القانوني.
وقد حذر الإسلام الحنيف من هذه الشريحة الملوثة، كما ورد عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لا تتزوج المرأة المعلنة بالزنا ولا تزوج الرجل المعلن بالزنا إلا أن يعرف منهما التوبة» (3).
وهناك بعض النساء يتزوجن ولكن نفوسهن القذرة الدنيئة تميل إلى الرجال الأجانب، ومن الممكن أن ترتكب الزنا بالرغم من أنها ذات زوج وتستفيد من ذلك لأنها تجعل الزوج حصناً منيعاً أمام التهم الاجتماعية. إن ما لا شك فيه أن هذه المرأة مصابة بالانحراف النفسي وحتى إذا حملت من زوجها القانوني، فإن الطفل بالرغم من كونه قانونياً حسب المقررات الشرعية ولكنه من جهة الانحراف الروحي والفساد النفسي لا يقل عن ولد الزنا، إذ أن الطفل يرث الصفات الرذيلة من أمه فهو ينزع إلى الإجرام والخروج على القانون. ونأخذ لذلك مثالاً: كان الحجاج بن يوسف الثقفي فرداً غير طبيعي، وخطراً في نفس الوقت، والتاريخ أحصى له جرائم وجنايات عظيمة سودت وجه البشرية، فقد بلغ عدد من قتله الحجّاج صبراً في غير حروبه مئة وعشرين ألفاً. وعندما توفي خلَّف في محبسه خمسين ألف رجل، وثلاثين ألف امرأة، وكان حبسه لا يكنّهم من برد ولا حرّ، ويسقون الماء مشوباً بالرماد (4). ومن طرائفه المُبكية قالوا عندما أخذه السل وهجره النوم أحضر منجماً فسأله: هل ترى ملكاً يموت؟ قال: نعم أرى ملكاً يموت ولكن أسمه كُليب، فقال: بذلك سمّتني أُمي، قال المنجم: كذلك تدل عليه النجوم، قال الحجّاج: فلأُقدمنّك أمامي، ثم أمر به فضربت عنقه، ثم مات الحجاج(5).
فإنّ مما لا شك فيه أنّ عوامل عديدة تدخلت في انحراف سلوك هذا الإنسان مما جعلته خطراً وشريراً إلى هذه الدرجة، ومن الممكن أن قسطاً وافراً من ذلك يرجع إلى روح أمّه المنحرفة. حيث أنّ اُمَّ الحجاج التي أسمها (فارغة) كانت زوجة (للمغيرة بن شعبة) قبل أن تتزوج يوسف الثقفي، وكان عمر بن الخطاب يسير في أزقة المدينة في بعض الليالي... فسمع امرأة تغني في أحد البيوت وتنشد البيت الآتي:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها - أم من سبيل إلى نصر بن حجاج؟
فتأثر عمر من هذا البيت، وساءه أن تكون في عاصمة حكومته امرأة تترنم بغرام شاب أجنبي بالرغم من أنها متزوجة، فأحضر النصر بن الحجاج (وكان شاباً جميلاً) فحلق رأسه وسفّره إلى البصرة (6)
إنّ المرأة المحصنة التي تفكر في رجل أجنبي وتتمنى معاقرة الخمر والوصول بالنصر بن حجاج إذا حملت من زوجها القانوني نطفة فإنّ انحرافها سيؤثر في نفس طفلها قطعاً. وأيضا المرأة التي لا تفهم لاحترام القوانين الإلهية والتعاليم الدينية معنى لا يستغرب منها أن تلد طفلاً مثل الحجاج في فساده وانتهاكه حريم الناس وأرواحهم وأموالهم.
فقد أثبت الواقع الاجتماعي والواقع العلمي بدراساته المستفيضة الأثر الحاسم للوراثة والمحيط الاجتماعي في تكوين الطفل ونشوئه، وانعكاسات الوراثة والمحيط عليه في جميع جوانبه الجسدية والنفسية، فأغلب الصفات تنتقل من الآباء والاُمَّهات والأجداد إلى الأبناء، كالذكاء والاضطراب السلوكي وانفصام الشخصية والأمراض العقلية والانضباط الذاتي، وصفات التسامح والمرونة، فيكونون وسطاً مساعداً للانتقال أو يكون في الأبناء الاستعداد للاتصاف بها، إضافة إلى انعكاس العادات والتقاليد على الأبناء نتيجة لتكرر الأعمال، ومن هنا أكد الإسلام على الزواج الانتقائي، أي بانتقاء الزوجين من أسرة صالحة وبيئة صالحة.
طهارة اُمَّهات الأئمة
نستخلص مما تقدم أنّ اهتمام الهدي السماوي في شؤون الأم، وكشفه عن مدى أهميتها وخطورتها وما تعكسه بالنسبة إلى الأبناء، والذي يلزم أن يكون هذا الوعاء طاهراً خالياً من الشوائب والأدناس كي يخرج منه الجيل الصالح الذي يسعد البشرية وتتحقق منه أهداف الإنسانية، فلا نستغرب عندما نرى اختصاص اُمَّهات الأئمة الأطهارعليهم السلام قد حظين بالأدب والتربية الإلهية، وما أوعزته السماء من اهتمام كبير في رعاية هذه الأوعية التي كانت مضاجع لخير الخلق وحملة الرسالة الإلهية، وهذا معتقد مسلّم عندنا (أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة)(7)، وهذه الطهارة والصفات الايجابية التي حوتها أمّ المعصوم لم تكن وليدة الفترة المتأخرة أو المزامنة باقترانها بالإمام، حيث ربما يقال أنّه لا يشترط أن تكون أُم الإمام المعصوم طاهرة وكاملة في بداية أمرها، وإنما يكون ذلك بعد دخولها الإسلام وقد تابت وأحسنت توبتها وحصلت على الطهارة والصفات العالية.
قلنا: صحيح أنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، لكن هذا لا يرفع الآثار التكوينية والمخلفات النفسية والجسدية، نعم يصح أن نقول يرتفع عنه العقاب الأخروي بحسب تطبيق موازينه وإجراء أحكامه، وإنما تبقى الآثار التكوينية في الجسد والنفس جراء تلك الذنوب وممارسة المنكرات، ويمكن أن نقرب ذلك بمثال: من قبيل لو شرب الإنسان الخمرة وبعد الشرب مباشرة أدركته الرحمة الإلهية وتاب توبة نصوحة فلا تجديه هذه التوبة عن ترتب الآثار التكوينية (السكر) حيث يصاب بالسكر والغثيان وتترتب عليه كل الآثار الجسدية والنفسية، نعم كل ما هنالك يرتفع عنه العقاب الأُخروي في حال قبول التوبة، وهنا لو فرضنا أنّ أمّ المعصوم عليه السلام كانت تزاول وتمارس المنكر قبل اقترانها بالإمام عليه السلام، بلا شك يبقى أثره في جسمها ونفسها ولا تصلح أن تكون وعاءً وحجراً للمعصوم؛ لأنه سينعكس عليه جملة من الآثار السلبية جراء تلوث جسد ونفس الأم، كما تقدمت الإشارة إليه من الناحية العلمية والشرعية، فعليه لابد أن تكون أمّ المعصوم عليها السلام خالية من الشوائب والآثار السلبية لاسيما من اللحاظ الجسدي والنفسي في كل أطوار حياتها، فلابد أن تكون لأم المعصوم درجة رفيعة في مجال التكامل النفسي والطهارة الروحية بحيث تجعلها أهلاً لحمل السر الإلهي الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها، والنور الرباني الذي أودع في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، فلها إذن درجة ترتفع بصاحبها عن مرديات الهوى، ومهلكات النفس، وتسمو به عالياً نحو المقصود الكلي والوجود الأزلي، من هنا كان اختيار أم المعصوم محفوفاً بألطاف جلية، ورعاية إلهية، ومعاجز ربانية لذلك جاءت جملة من الروايات تكشف لنا اهتمام السماء في باُمَّهات المعصومين عليهم السلام، حيث نجد أنّ من ألقاب فاطمة الزهراء عليها السلام (البتول): وذلك لأنها لم ترَ الحيض، كما فسّره النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: هي المرأة التي لم تحض ولم تر حمرة قط وإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء عليهم السلام (8).
وقد رُويَ عنهم عليهم السلام أن سبيل اُمَّهات الأئمة عليهم السلام سبيل فاطمة عليها السلام في ارتفاع الحيض عنهن. وهذا مما تميزت به اُمَّهات أئمتنا عليهم السلام من سائر النساء لأنه لم يصح في واحدة من جميع النساء حصول الولادة مع ارتفاع الحيض عنها سواهن تخصيصاً لهن لمكان أولادهن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين(9).
فالمتتبع لقصة أسر شهر بانويه، كما ستأتي في محلها، واختيارها للإمام الحسين عليه السلام من دون الرجال، وتقريظ أمير المؤمنين عليه السلام لها بقوله للحسين عليه السلام: (ليلدن لك منها خير أهل الأرض)، لا يخفى عليه عمق التسديد الإلهي، والإعداد الرباني للحادثة.
ويحدثنا الصادق عليه السلام عن حميدة أم الإمام الكاظم عليه السلام فيقول: حميدة مصفاة من الأدناس، كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي، كرامة من الله لي والحجة من بعدي (10)، وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أنّ أمّ المعصوم عليها السلام تعيش تحت الحراسة والرعاية الإلهية منذ البدء، حيث وَكَّلَ الله تعالى أملاكاً تحرسها وتدرأ عنها شوائب الأقذار؛ وذلك لكي تكون الوعاء المناسب للحجة عليه السلام.
وأيضا ذكر أبو عبد الله الصادق عليه السلام جدته أم أبيه فقال عليه السلام: كانت صديقة لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها (11). وهذا يعني أنها كانت منذ البدء كاملة طاهرة.
وقد ذكر ابن مهزيار عن الإمام الهادي عليه السلام يصف أمه قائلا: أمي عارفة بحقي وهي من أهل الجنة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبار عنيد، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام، ولا تختلف عن اُمَّهات الصديقين والصالحين(12).
وهكذا كل اُمَّهات الأئمة طاهرات مطهرات مصطفيات، لجليل ما يحملن، وعظيم ما اختير لهن.
الهوامش: ___________________________________
(1) شرح أصول الكافي، صالح المازندراني، ج1 ص232.
(2) أنظر: الإنسان ذلك المجهول، الكسيس كارل، ص 79.
(3) الاستبصار، الشيخ الطوسي، ج 3 ص 168
(4) راجع: موسوعة التأريخ الإسلامي، اليوسفي الغروي، ج 6 ص 518.
(5) تاريخ مختصر الدول، ابن العربي، ص 113.
(6) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج40 ص275.
(7) مصباح المتهجد، الطوسي، ص721.
(8) معاني الأخبار، الصدوق، ص64.
(9) تاج المواليد، الشيخ الطبرسي، ص 20
(10) الكافي، الكليني، ج1ص477.
(11) المصدر نفسه، ج1 ص469.
(12) الأنوار البهية، الشيخ عباس القمي، ص 273.
اترك تعليق