اهتم الاسلام بالامور العقلية كثيراً ونجد أن التربية العقلية تقوم على عدة مناهج كالتفكر والتدبر والتأمل إضافة الى عمليات استنباط الاحكام والاستقراء والتحليل، وكلها نجد لها مصاديقها واضحة في الفكر الاسلامي.
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).
وقال أيضا:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ}(2).
وفي الحديث: من لم يهذب نفسه لم ينتفع بالعقل(3).
وعلى سبيل المثال اهتمت الشريعة بمسألة التفكر والتفكير والذي يعد من أساسيات التربية العقلية التي تقوم على تنمية الفكر وتقوية العمليات العقلية كالاستدلال والتحليل والاستقراء وغيره.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(4).
وقال أيضاً:.. {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(5).
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: أفضل العبادة إدمان الفكر في الله وفي قدرته(6).
والإمام الرضا عليه السلام يقول: ليست العبادة بكثرة الصلوات والصوم، إنما العبادة التفكُّر في أمر الله.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه: كان أكثر عبادة أبي ذر رحمه الله التفكّر والاعتبار(7).
وكان عليه السلام يقول: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة، إنما يتذكّر أولو الألباب(8).
ونجد حرص الزهراء عليها السلام على تعليم أولادها من خلال إرسالهم للمسجد ومن ثم اعادة الدرس اليومي الذي اخذاه من المسجد مع الام، وهذه الاعادة تثبت الفكرة في العقل والذهن وتشجع الصغير على الاستمرار في متابعة الامور الفكرية في المسجد، ونجد انها عليها السلام في تكرارها لأداء العبادات امام الابناء تحاول جذب العقل الى الانتباه والتأمل ومن ثم محاولة تحليل الفكرة من خلال السؤال مثلا: لماذا لم تدع الام لنفسها؟...
بل ان الزهراء عليها السلام كانت تحيي التربية السياسية عند أولادها من خلال اصطحابهم معها الى اماكن الثورة سواء خطبتها في المسجد أو في بيت الاحزان، وهذه تنمية للعقل السياسي لدى الاولاد اضافة الى توصياتها لامير المؤمنين عليه السلام بأن يفرغ نفسه لولديه ليلة كي يواصل تعليمهما وتنمية مواهبهما. ومن اهم وسائل التربية العقلية والفكرية هو اسلوب الحوار الذي كان بين الامام الحسن والزهراء عليهما السلام اي المناقشة والسؤال والجواب.. ومن الاساليب الجديدة المتبعة حاليا للتربية العقلية هو اسلوب الوسائل الايضاحية التي تستخدمها المدارس وافضل نموذج على ذلك هو بيت الاحزان نفسه!! (كما سيمر بنا)، وايضا هناك اسلوب القدوة وهو ما سنمر عليه آنفا.
والتربية العقلية تسهم في منح العقل مساحة اكبر لتوجيه العواطف وبلورة الاتجاهات ونضج الشخصية وتهذيب السلوك ولهذا نجد السيدة زينب عليها السلام تمتاز بقدرة عالية على الضبط العاطفي الامر الذي أبهر الاعداء قبل الاصدقاء. كما ان الاهتمام بتنمية الذكاء والاستعدادات العقلية يسهم في زيادة القدرة على التعلم المفيد وعلى امتلاك مهارات افضل في تعليم الآخرين واللجوء الى الاساليب المعقولة لحل المشكلات.
وروي عن أبي بکر قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر والحسن الى جنبه ينظر الى الناس مرّة وإليه مرّة، وقال: انّ ابني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين(9).
المتابعة
تكاد تكون المتابعة لأمور الآخرين أمراً مطلوباً في كل الدوائر التي فيها رعاية وعناية للغير، قال تعالى عن النبي سليمان عليه السلام:
{وتَفَقَّدَ الطَّيرَ فَقالَ ما لِي لا أرَى الهُدهُد أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أو لأذبَحَنَّهُ أو ليَأتِيَني بِسُلطانٍ مُبِين}(10).
فكيف الحال بمن توكل إليه مهمة تربية الانسان وإعداد الجيل الصالح اذ تبدو الحاجة اكبر الى هذا الامر، فالمتابعة امر مطلوب لفهم الطفل نفسه ورغباته ونزعاته وما يفكر فيه وما يريد القيام به، وما يمكنه القيام به وماقام به فعلا، ولكن لاتعني المتابعة أو المراقبة التجسس على الاولاد بالشكل الذي قد يسبب لهم الالم لتصورهم غياب ثقة الآباء بهم وانما المعنى هنا ان لا تكون الام في غفلة عن اولادها وامورهم ومواقفهم المختلفة فهو امر مطلوب، كما ان هذه المتابعة تعزز الشعور عند الابناء أن الآباء مهتمون بهم لحبهم لهم وانهم حريصون على شؤونهم، وكثيرا مانرى الاجيال المعاصرة تشتكي من اهمال الاباء! فنسمع منهم مثلا ان (ابي لا يعرف في اي مرحلة دراسية انا أو لا يدري اين هي مدرستي) ولكن قلوبهم تتمنى ان يبدي الآباء والامهات - على الاقل امامهم- اهتماما بهذه الشؤون.
ومن البديهي ان متابعة الاولاد في الشؤون المختلفة يعرّف الآباء والامهات ايضاً بما يجب القيام به من التوجيه والتأديب والتهذيب، فالمطلوب هو اظهار الاهتمام والمتابعة على اداء الابناء للعبادات والواجبات المدرسية بل حتى شؤون النظافة والملبس واختيار الاصدقاء ومراعاة الاداب الاجتماعية، وقد حرص القرآن على تعزيز هذه الروابط من خلال دعوته الآباء والامهات الى الاهتمام البالغ بكل افراد الاسرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(11).
وهذه الوقاية لابد وان تكون معها متابعة للاولاد بشكل مستمر ونحن نجد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقي يتابع شؤون ابنته الزهراء عليها السلام حتى بعد زواجها وانتقالها الى بيت آخر.
جاء في (اعيان الشيعة): روى الحاكم في المستدرك بسنده عن ابي ثعلبة الخشني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذا رجع من غزاة أو سفر أتى الى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنّى بفاطمة، ثم يأتي أزواجه. (وبسنده) عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة واذا قدم من سفر كان اول الناس به عهداً فاطمة. واستطرد صاحب الاعيان قائلاً: وقد اعتاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان يمرَّ عند خروجه على بيت فاطمة وهي من احب اهله اليه، فمر ذات يوم عليها ورجع من الباب دون ان يدخل واستمر هاجراً فاطمة ثلاثة ايام، فاستقدمت عمار بن ياسر وهو من اكرم صحابته لديه، قالت له ان يستنبئ من ابيها عن سبب هذا الهجران. ولما سأله عمار قال له الرسول الكريم - وانظر لما قال -: رأيت في معصم فاطمة اسورة من الفضة واهل الصُفة يتضورون جوعاً، فجاء عمار وأخبرها الخبر فقالت له: خذ الاسورة وبعها واشتر بثمنها خبزاً لأهل الصفة، ولما فعل ما امرته به عاد فأخبر اباها بما كان فرجع لعادته معها(12).
وفي رواية عن أبي هريرة: انّ النبيّ أتي بتمر من تمر الصدقة، فجعل يقسمه، فلما فرغ حمل الصبيّ وقام، فاذا الحسن في فيه تمرة يلوکها، ففطن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأدخل اصبعه في في الصبيّ فانتزع التمرة ثمّ قذفها، وقال: انّا آل محمد لا نأکل الصدقة(13).
وعن الرضا عليه السلام عن آبائه قال: انّ الحسن والحسين عليهما السلام كانا يلعبان عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتى مضى عامّة الليل، ثمّ قال لهما: انصرفا الى أمّكما، فبرقت برقة في السماء فما زالت تضيء لهما حتى دخلا على فاطمة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ينظر الى البرقة، فقال: الحمد لله الذي أكرمنا أهل البيت(14).
روي ان السيدة زينب عليها السلام كانت شديدة المحبة للامام الحسين عليه السلام منذ الصغر فحكت فاطمة ذلك الى رسول الله فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واخبر بمصابهما واشتراكهما في ذلك(15) ولولا ان السيدة الزهراء عليها السلام لم تكن متابعة لشؤون أولادها لما عرفت بهذه الحالة.
روى الحمويني عن عبدالله بن عباس، قال: كنّا ذات يوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله إذ أقبَلَتْ فاطمة عليها السّلام تبكي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: فداكِ أبوكِ، ما يُبكيكِ؟
قالت عليها السّلام: إنّ الحسن والحسين (عليهما السّلام) خَرَجا، فما أدري أين باتا، فقال صلى الله عليه وآله: لا تبكي يا بُنيّة، فإنّ الذي خلقهما ألطَفُ بهما منيّ ومنكِ. ثمّ رفع النبيّ صلى الله عليه وآله يديه فقال: اللهمّ إن كانا أخذا بَرّاً أو بحراً فاحفظهما وسلّمهما. فهبط جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد، لا تغتمّ ولا تهتمّ، وهما فاضلان في الدنيا والآخرة وأبوهما خيرٌ منهما، هما في حظيرة بني النجّار نائمَين، وقد وكّل اللهُ بهما مَلَكاً يحفظهما(16).
عن عون بن محمد عن أمه أم جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس عن فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زارها يوما فقال: أين ابناي يعني حسنا وحسينا قالت أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق فقال علي أذهب بهما فإني أتخوف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء فذهب إلى فلان اليهودي فتوجه إليه النبي صلى الله عليه وآله فوجدهما يلعبان في شربة بين أيديهما فضل من تمر فقال يا علي ألا تقلب.. قبل أن يشتد عليهما الحر فقال علي أصبحنا وليس في بيتنا شيء فلو جلست يا نبي الله حتى اجمع لفاطمة تمرات فجلس النبي صلى الله عليه وآله حتى اجتمع لفاطمة شيء من تمر فجعله في صرته ثم أقبل فحمل النبي صلى الله عليه وآله أحدهما وعلي الآخر حتى أقلبهما(17).
وقد جاء في الروايات عن علي بن ابي عمران قال: خرج ابن للحسن ابن علي عليهما السلام في الرحبة وعليه قميص خز وطوق من ذهب فدعاه الامام فشقه عليه واخذ الطوق منه فجعله قطعا قطعا(18).
وعن سلمة بياع القلانس قال كنت عند أبي جعفر عليه السلام اذ دخل عليه ابو عبد الله عليه السلام فقال ابو جعفر يا بني ألا تطهر قميصك؟ فظننا ان ثوبه أصابه شيء فرجع فقال انه هكذا فقلنا جعلنا فداك ما لقميصه؟ فقال كان قمصه طويلا فأمرته ان يقصره.. ان الله عز وجل يقول وثيابك فطهر(19).
وهذه امور تلمسها في وصاياهم منها وصية الامام الحسين عليه السلام لاحد ابنائه حيث يقول: يابني لا تؤاخ احدا حتى تعرف موارده ومصادره فاذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العسرة(20).
وفي الروايات أن الزهراء عليها السلام لما شعرت باقتراب الاجل أرسلت ابنتيها زينب وام كلثوم الى بيوت بعض الهاشميات بينما كان الحسنان خارج المنزل(21).
ان متابعة الاولاد لها دور كبير في تنبيه الابناء الى مواقع الخطأ بما يصونهم عن الانحراف ويبقيهم عند جادة الصراط.
الهوامش: _________________________________
(1) (النمل/ 20-21).
(2) التحريم 6.
(3) (اعيان الشيعة / السيد محسن الامين العاملي / ج 2 / ص 430).
(4) (ينابيع المودة ص 46 وبحار الانوار ج 43 ص 305).
(5) (البحار ج 43 ص 266).
(6) (الحائري المازندراني شجرة طوبى ج2 ص392).
(7) (فرائد السمطين الحمويني2: 91-92)
(8) (المعجم الكبير للطبراني: 22/422).
(9) (النوري، مستدرك الوسائل، ج3 ص 309 ش3646).
(10) (الحويزي تفسير الثقلين ح5 ص454).
(11) (تحف العقول ص236).
(12) (فاطمة من المهد الى اللحد ص616).
(13) (البقرة242).
(14) العنكبوت(43).
(15) (غرر الحكم ج1 ص153).
(16) (سورة النحل: الآية 11).
(17) [سورة آل عمران: الآية 191].
(18) [أصول الكافي/ باب التفكّر].
(19) [بحار الأنوار، المجلد رقم15، ص195].
(20) [بحار الأنوار، ج15، ص195].
(21) (البحار ج 43 ص 305).
اترك تعليق