مرة أخرى يعود إلينا الكرباسي برائعة من روائعه الغنية بالعلوم والآداب ضمن موسوعته الخالدة (دائرة المعارف الحسينية) وهي كتابه (الحسين في السنة) وهو الجزء الثاني والأربعون في تسلسلها، وفي الحقيقة أن المرء ليقف إجلالاً لهذا العمل الجبار الذي أنجزه الكرباسي وما بذله من الجهد المضني في استقصاء المعلومات من مظانها وتبويبها والاستشهاد بها والذي يدل على ثرائه العلمي والأدبي إضافة إلى تعضيد مؤلفاته بالنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة وروايات أهل البيت والمصادر التاريخية والأدلة العقلية والنقلية.
إن مما يحث المؤلف على الإبداع والنبوغ في مؤلفاته هو الصفات العظيمة والمزايا الفريدة التي تجسدت في شخصية سيد الشهداء فهو يخوض عالماً زاخراً بالمآثر ويقف أمام إنسان تجلّت فيها أنبل الصفات البشرية التي تكوّن حافزاً روحانياً تجعله يعيش حالة السمو الروحي وهو يلج الى هذا المورد المقدس فيعمل على توثيق هذه المواقف وتوظيفها فكرياً واجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً في تأكيده على حقيقة الصراع بين قيم الخير والصلاح التي جسدها الإمام الحسين (عليه السلام) وبين قيم الشر التي تجسدت في اعدائه
ما المقصود بالسنة ؟ هذا السؤال الذي تتفرع إجاباته وغاياته ومقاصده يجيب الكرباسي عن كل هذه التفرعات التي يكون عمادها استنادا إلى قوله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) هو : (كل ما صدر من القول عن المعصومين الأربعة عشر أو كل ما فعله هؤلاء المعصومون أو أقروه بسكوتهم أو غضوا الطرف عنه فهو حجة وسنة)
وهذا يعني (أن مجرد قول الصحابة والأولياء إذا لم يكن متصلا بالرسول وأهل بيه فلا مجال له هنا بل موقعه السيرة)
وفي هذا التعريف يميز الكرباسي بين السنة الحقيقية التي فرضها القرآن الكريم والنبي (ص) والسنة التي وضعتها السياسة الأموية وغيرها ضد المدرسة الإلهية المتمثلة بأهل البيت (عليهم السلام) فالسنة هي الحديث أو الرواية أو الخبر المنقول عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) كونهم قد اختصوا بالعصمة وهذا أمر مفروغ منه ولكن ما يجب مناقشته هو البحث في عناصر السنة التي تنحصر في أمرين السند والمتن فالأول يشترط البحث عن حال الرواة وعن طبقة الرواة أما الثاني فيشترط البحث عن سلامة النص ودلالته والعلوم التي ترتبط بالحديث سواء المباشرة منها أو غير المباشرة التي قد ترتبط بالسند أو بالمتن وبشكل آخر فالعلوم التي ترتبط بالسنة بغرض التوصل إلى ما هو حجة منها ليتمكن الاعتماد على مضمونها والعمل بمقتضاها
وبعد أن يبين الكرباسي هذه الأمور يشرع في بحثه بـ (علوم الحديث) التي تنقسم بالنسبة إلى السنة إلى مقدماتي وجوهري وكلاهما بما يرتبط بالسند والمتن وتتحدد بعلم الدراية والرجال والتأصيل والتصنيف وعلم تاريخ الحديث وروايته وفي كل باب من هذه الأبواب يشرح الكرباسي الخصائص والشرائط في ذلك ففي علم دراية الحديث يقسم الكرباسي هذا العلم إلى ثمانية عشر فصلا هي الدراية وقوة النص وسلامته وأقسام الحديث وأصناف النقل وتصنيف الرواية وطرق الوصول إلى السنة والتعادل والتراجيح ووحي السنة والتأويل والنسخ في الحديث ومعالجة الرواية بالانجبار وأدب الحديث وحجية النص ومقومات قبول قول الراوي ومقارنة نص الحديث مع المناهل الأخرى وكيف نفهم السنة والمصطلحات والتعامل مع السنة وفي كل فصل من هذه الفصول تنبجس عيون علوم الكرباسي بنمير المعلومات التي تروي ظمأ القارئ، وهو حريص في انتقاء ما يلائم بحوثه بالاستشهادات من الروايات والاحاديث حيث يقوم بتشريح كل مسألة بمبضع الباحث الحاذق الماهر ويذهل القارئ بتضلعه بعلم الرجال حيث يضع قائمة كبيرة في فصل التصحيحات العامة وما بعده بأسماء الرواة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وعدد الأحاديث التي رووها عنهم ويميز بين الثقات وبين الكذابين والوضاعين
وهناك نقطة مهمة ينوه عليها الكرباسي في فصل (نوعية النقل) وهي عملية النقل وهي لا تتحقق إلا بأربعة أمور: نقل النص دون زيادة أو نقصان والنقل بالمعنى والمضمون دون الالتزام بحرفية النص والنقل بالاختزال والاختصار والنقل بالتقطيع وذلك باختيار محل الحاجة والاستشهاد به وهو يشبه عمل الراوي بعمل الصحافي الذي ينقل النصوص والمصرح بها من قبل أصحابها بالصورة التي صدرت منهم بأمانة تامة دون أي تلاعب بها.
ثم يفاضل بين هذه الأنواع فنقل النص كما هو وبكل ملابساته هو أقوى أنواع الحديث وأرقاه ولا دور للراوي في الحديث إلا مسألة حمل الرواية وبذلك لا يفقد النص خصوصيته ...
فالأمانة في النقل هي من أهم سمات المحافظة على النص ومن أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في الراوي والنقل (الأمين) للنص يشارك الى حد بعيد في دراسة واقع النص وغاياته ويشخص طبيعته وحقيقته وأهدافه إلى جانب إبراز ا
المفاهيم الحقيقة له كما هي دون لبس أو تمويه ثم يأتي النقل بالمعنى بالمرتبة الثانية فالنقل الاختزالي فالتجزيئي
أما في فصل علم تاريخ الرجال فيفصل الكرباسي الحديث عن نشأة هذا علم الحديث والدراية والرواية والتأصيل والتصنيف والتأليف فيها مستوفياً البحث عن مؤسسيها ممعناً في التنقيب عن أبرز روادها ورجالها
إن هذا الكتاب يعد بحق مصدرا مهما في هذا الحقل ومنبعا ثرا لا غنى للباحث والدارس عنه
اترك تعليق