إنّ النفس الإنسانية جوهر بسيط خالد هبط من عالم العقل مزوداً بذكريات من حياته في ذلك العالم ، واتصال النفس بالجسم مصدر ألم لا ينقضي لأنه مصدر رغبات كثيرة لا سبيل إلى تحقيقها . فمن شاء نعيماً مقيماً وجب عليه أن يستغرق في تأملاته العقلية في طلب العلم وتقوى الله ، لذا فإن الشعور بالجميل عند قد يكون كامناً في محاولة الاعتدال بين النفس والجسم مثله مثل الحكمة والعفة.
إذ تمثل اراء فلاسفة الجمال المسلمين الإحساس بأنه تجريد للصورة المحسوسة عن الشيء المحسوس بواسطة الأعضاء الانسانية الحاسة، ومن خلال هذه العملية تتحدد الصورة المحسوسة بالعضو الحاس ولدى غياب الشيء المحسوس تعمد المخيلة إلى استحضار الصورة المحسوسة ، وبقدر ما يتحرر العقل من تأثير الإحساسات الطارئة ينشط عمل التخيل ، ومتى ما تحررت القوى المصورة من تأثير الأشياء الخارجية ، أصبحت قادرة على توليد صور مركبة ليس لها ما يقابلها في العالم الخارجي مثل صور المخلوقات والأكوان الغريبة ، لذا كانت إبداعات الفن الإسلامي متسقة مع هذا الفكر الفلسفي الجمالي، فهي بمثابة محاولة للتوفيق بين مكونات الوجود المرئي المحسوس والوجود الغيبي الحدسي، فلم يتناول الفنانون ما هو مشخص محدود زائل من الأشياء ، بقدر ما استلهموا الخطوط والألوان والنسب والقوانين الرياضية ، التي تشكل المكونات الحسية للوجود وللعمل المجرد لتحقيق قيمته المطلقة ، وبمعنى ادق فأن عالم النفس محاط بتأملات تنتمي إلى عالم خالد متسامي، والجمال الذي ينشده العقل هو الجمال الخالد، الذي كانت تنتمي إليه النفس في عالمها الأول ، فهي تطمح إلى رؤية الأشياء التي تُذكّرها بعالم الخلود، فهي تجد في النسب الرياضية والأشكال الفنية المجردة جمالاً ينبع من علاقتها الأصلية بالتأملات العقلية وطلب العلم الذي يكمن وراء المحسوسات كونها مظاهر مادية لحقائق جوهرية ذات جمال مطلق لا يفنى ولا يتغير .
يؤكد الفيلسوف العربي يعقوب بن اسحاق الكندي في احدى نظرياته الفلسفية في هذا المجال، أن حواس الجسم البشري تدرك الجزئيات والعقل يدرك الكليات، ومعنى ذلك أن كل ما نعرفه عن الموجودات هبة من الله ، وكل ما يؤديه الإنسان من عمل يظل متعلقاً بالعالم المحسوس، وأما ما عند هذا الانسان من علم فهو فيض من الله ، وفي هذا يتضح لنا مدى الانسجام والتكامل في سبل حياة الإنسان وعمله ومعرفته وذائقته الجمالية الذي يجده اغلب فلاسفة العرب - ومنهم الكندي على وجه الخصوص- والذي يرى أن الذائقة الجمالية تعمل في حدود النسق الحيوي المتكامل بين الإحساس بالماديات وطرق فهمها وتأويلها العقلي، فالجمال نجده في مصدره الحقيقي المتعالي وتجلياته البسيطة في الظاهري المحسوس، وما بينهما من خطوط مشتركة تجعل الإنسان يعيش في عالم من الفعل الخلاق الذي يرتقي به دائماً بواسطة التفكير العميق إلى إدراك حقيقة الجمال الذي فاض عن الخالق فغمر بنوره كل الموجودات .
إنَّ تأثر الفكر الإسلامي بمفهوم النظام الإلهي المتكامل الذي يحكم الوجود ويحكم العلاقة بين النفس والجسم هو الذي دفعهم إلى مقاربة كل الموجودات من المنطق الرياضي المحكم ، ومقاربة عالم الأشياء من عالم الأعداد . وهم بهذا يختلفون عن الفيثاغوريين في أنهم لم يتمثلوا العدد مجموعاً حسابياً ، بل مقداراً وشكلاً ونظاماً ثابتاً، ولم يكونوا يرمزون إلى العالم بالأرقام بل كانوا يخلطون الحساب بالهندسة فيرتبون الأعداد على أشكال هندسية وعلى وفق نظم محكمة، لذا جاءت الزخرفة الإسلامية مبنية على نظم هندسية خاضعة لفكر رياضي يسهل الوصول إلى حقائق كونية لا تتعلق بمكان معين ولا زمان محدد ، فحقيقة المثلث أو المربع أو الدائرة ، تظل حقيقة عقلية تصدق عليها المعاني العقلية في تجردها وانطلاقها ، وقد أخذ الفنان المسلم من الطبيعة شجيراتها وأوراقها وأزهارها وحتى مخلوقاتها بعد تحويرها وتحييدها عن اشكالها الاصلية في الطبيعة، لتعطي الحركة الداخلية لعناصر اللوحة الفنية من خلال تداخل الأشكال هندسية كانت او نباتية او غير ذلك فتدرك العين تلك الحركة من خلال الخطوط وتشعر بالتناغم الصادر عن الأشكال الذي يعبر بدوره عن الحركة التي تمثل الديمومة والاستمرارية في حركتها اللانهائية.
اترك تعليق