عادة ما تتجسد فكرة الشكل في الفن التشكيلي العراقي الحديث في جملة من مضامين الإرث الحضاري التي يتأثر بها أي الفنان، فالأشكال العلامية عند الرسام العراقي تعيش ضمن أبعاد التراث العراقي القديم، حيث تمتد بعض العلامات إلى بوادر الوجود الأولى لتواجد الإنسان ومنها لحضارة سومر وبابل وأشور مروراً بالثيمة الدالة على الإرث الإسلامي وصولاً إلى وحدة المعالجة لفن الحداثة، أي ابتداءً من شجرة آدم إلى بساطة الاشكال السومرية ونبتة الخير والعطاء إلى رسوم الحيوانات الحارسة لبوابة عشتار الجدارية والأسد البابلي الجاثم أعلى المكان إلى البعد العلامي لنتوءات أسوار المدن الآشورية مروراً بالقباب وبوابات المساجد الإسلامية.
انه استحضار الفنان الأسلوبي لكل المثابات الحضارية على محك الطرح الجمالي.. وهذا ما نجده في اعمال الفنان والدبلوماسي العراقي )غسان محسن حسين(، ولا غرابة أن كانت تحركه قوى الضغط لإرثه الحضاري ورحلة البحث عن هويته في ذاكرة جمهور التلقي عن الشواخص الحضارية للعراق القديم، فالفنان غسان محسن فنان مغترب يحاول تعميق الصلة داخل نطاق الغربة مع جذوره ونظامه العلامي فلم يكن له بد من سلوك الطرق الجاهزة أو القصيرة والاحتفاظ بالرصيد الكبير لحضارته المحلية.
أن زج العلامات والرموز والأشكال المتداخلة في الأمكنة والأزمنة داخل نموذج فني واحد تصطف فيه الأشكال بتراتب عشوائي سردي، ما هو الا محاولة لإخراج تلك العلامات والرموز عن منطق استعاراتها الواقعية لإخضاعها لمنطق تداولي معاصر، فالأشكال عند غسان محسن تتمتع بأصل كريم في ذاكرة جمهور التلقي وليس من السهل قراءتها خارج ذلك الفهم القبلي، والمتلقي لا يقارب هكذا نص الا من البعد الايقوني للأشكال وأن كثرة الاستعارات الشكلية والعلامات لحضارات متعددة قد تضعف من قوة تأثيراتها وهي منفردة، لكن بالمقابل فأن إجراء تقابلات شكلية مجردة هو واقع وديدن فنون الحداثة، اذ ان شكلية الرقم الصوري على سبيل المثال هي استعارة لشكل الرقم الطيني السومري الذي يبحث عن وجوده الفنان.. والذي تفرضه لغة التداول داخل جمهور التلقي العراقي، باعتباره مستهلكاً لتلك اللغة التي تسري في داخله عبر إجراء مقاربات عدة يثيرها توزيع تلك الأشكال وتداخلاتها تجاوراتها اللونية داخل الوسط الفني المتمثل باللوحة و هذا ما يثير ايضاً جملة من التناقضات حيال واقع الاشكال العيانية مما يسهم بشكل او بآخر في نجاح ظاهرة التلقي.
بحث الفنان غسان محسن في اللوحتين اعلاه وباقي ذخيرته الفنية الابداعية عن الوحدة الصورية للشكل الحضاري، اذ حاول جاهداً ان يقابل لغة الابتذال المتداولة - عند البعض في الطرح الحداثوي - ورصد الأشكال وطرحها بلغة الرموز الجاهز والمتداولة امام عين القارئ المتلقي، فكما هو معروف ان بعض طروحات الفن الحديث وجدت بها الاشكال من حيث بدأ الفنان برسمه بعيداً عن الايمان بوجود حضارات الاسلاف او الرجوع الى موروثه- حيث يكون منقطعاً عن كل المرجعيات ليستعين ببعض الاشكال الصناعية الجاهزة التي يستعيرها من بيئته لأدراجها في لغة خارج نطاق تداولها وسياقها السابق- ، بيد ان اشكال الفنان غسان محسن اتسمت بانها محملة بكم غير قليل من العلامات ذات المضامين التداولية اضافة للخزين الحضاري الذي يحمله فكر الفنان، فالمهمة هنا أصعب واصعب.. إلا في حالة إنشاء مضامين تقترب من دوال الاستعارات المتعددة للعلامات الحضارية فالأشكال السومرية على سبيل المثال ووفق اختزالاتها أعطت أوجهاً متعددة للترميز تتواءم مع حداثة الطرح المعاصر لفنون الحداثة، والابواب الاقواس والعقود بنقوشها ومخطوطاتها تختزل الافكار باتجاه الفن الاسلامي بروعة اشكاله وبهائها، لتدخل بذلك هذه الاشكال الفنية بين ثنايا لغة تداول جمال الموروث وجمال فنون الحداثة وما بعدها، فالفنان غسان محمد في لوحته هذه اجتهد بتأسيس أفق علامي مميز للثيمة الحضارية وبشكل خارج عن مركز منطوقها العلامي نحو الأطراف فهو هنا كما في اغلب لوحاته الفنية يؤسس وحدة علاقات ومتجاورات بين اختلاف الحضارات واظهار مضامين وخزين الأشكال عبر ذلك التجاور، وكأنه يؤكد أن روح الحضارات هي روح الجمال بعينها من حيث وحدة الطروحات المتباينة في وجهتها والوحدة في نتيجتها.
اترك تعليق