الزخارف الاسلامية.. ابداع عرفاني ورفعة في الاخلاق

يرتكز الفهم الإسلامي للوجود على الرؤية التوحيدية للبارئ جل وعلا، فالتوحيد هو الذي يصنع أسس التعامل السليم بين بني البشر والأشياء.. بما يؤدي إلى الوحدة المتكاملة في وجود سائر أجزاء الكون، من حيث هو صادر عن الإرادة المطلقة لله سبحانه وتعالى، وهذه الوحدة لا تفرض التناسق والتعاون بين أجزاء الكون فحسب، بل وبين الناس أيضاً بحيث يصبح الوجود الإنساني قائم على التكامل والتعاون، فتوحيد الله هو الوحدة بين القوى الكونية وبين العبادات والمعاملات والعقائد والسلوك الانساني وبين الروحيات والماديات .

والدين الإسلامي إنما يؤسس العلاقة بين إدراك المحسوسات عن طريق الحواس وإدراك غير المحسوسات عن طريق العقل والروح وفقاً لمبدأ الوسطية والتوازن في نقطة يلتقي فيها الجسم والروح ، ويتكامل فيها طريق المعرفة الإنسانية المزدوجة بين الحس  والعقل، فالتصور الإسلامي للكون تصور يتسم بالشمولية ولا يدع جانباً دون آخر، فهو التصور الذي لا يجعل الحواس بمعزل عن الحياة بل يطلقها لتمتلئ بالحياة من كل شيء في هذا الكون وتتصل به اتصالاً مباشراً، وهذا التصور لا يأخذ الإنسان جسماً ويدعه روحاً أو يدع العقل دون الجسم والروح ،بل يتبنى ترابط كل هذه العناصر ويجعلها مجتمعة مع بعضها البعض .

و لم يهمل العرب المسلمين الطبيعة التعليمية والأخلاقية للفن، فكل عمل فني اسلامي نجده محمل بمعرفة كامنة بالإمكان ان تنتقل إلى نفوسنا من خلال استمتاعنا بالصورة الجمالية، فالفن الإسلامي يعلم الناس بشكل ما، انطلاقاً من ان للفن علاقته الخاصة بميدان الأخلاق وهو يرتبط بالخير والجمال وكلاهما يتفقان غالباً ، فالخطوط ليست مجرد خطوط ، والصور ليست مجرد صور ، إنما هي صناعة تسندها الروح وهي صنعة يستعان عليها بالفكرة، فالصورة الذهنية عند الفنان المسلم تمتلك طاقة للتشكل المتوازن بين المادة والروح وفقاً لطبيعة التوجه الإسلامي المجرد فتكون الصورة الفنية الاسلامية الماثلة صورة بسيطة غير مركبة وخالية في نفس الوقت من أي مضامين مباشرة، فعند اختفاء بعض الرمز الواضحة في الاشكال الفنية الاسلامية ، فهذا يقابل بتشكيل مفاهيم اخرى باطنة للرموز ورسائلها الروحية الموجهة للمتلقين، إذ أنَّ الرغبة والتوجه نحو مرضاة الله هو الشاغل الفعلي لأي فرد مسلم ، بما يجعل ذلك الحس الديني عند الفنان المسلم يتجه نحو القدرة على التفريق بين الجمال المادي والجمال الروحي ، أو الجمال الظاهر المدرك بالحواس والجمال الباطن الذي يدرك بالبصيرة ، لأن التجربة الجمالية هي استيعاب لكل أنواع المحسوسات والنفاذ إليها بالبصيرة والقلب للوصول إلى الحب الذي يدفع الفنان والمتلقي إلى الرغبة في ابتداع الجمال وتذوقه في أكمل تحقق له بعد معرفة الخالق الواحد.. فالمعرفة هي اساس وشرط المحبة والجمال.

ويقدم فن الزخرفة الإسلامية استعارات معبرة عن الكون والوجود والانطلاق نحو اللامحدود، كونه فن يعبر عن نظام متفرد ومتتالي آخذ بالتكاثر والاستزادة والتنوع ، إذ ينتقل المتلقي من خلال النظام الزخرفي من المجرد إلى مجموعة من المثارات الحسية ، مثل رؤية النظام الكوني الذي يتشابه في توازنه وحركته وروابطه التي تربط عناصره . فالزخرفة تسمو بالمتلقي من المجرد إلى المتعالي المطلق.. حيث قدرة الله على الكون والوجود ، فهي إشارة للنظم المتعددة التي يحيى بها الإنسان بدءاً من الغيب حتى الشهادة، ولا شك في إن الاعتقاد بمبدأ الروح الكامن وراء مظاهر الأشياء في الوجود - الذي يحرك طبائع الأشياء ويمنح صورها الحياة - ،هو المبدأ الذي يتقصى ابعاده الفن الإسلامي وفن الزخرفة على وجه الخصوص في باطن عمله، فالروح هي التي تساعد الفنان والمتلقي على تذوق جماليات الوجود . لذا فإن الفن الإسلامي ليس مجرد إبداع عقلي ، أو مهارة ، أو صناعة ، بل هو مزيج من عمل الروح والقلب ومهارة يد الفنان المبدع.

إن التكوين الفني والجمالي لتكوينات الزخرفة الإسلامية يفترض محيط ذو امتداد دائم ومكان لا متناهي ، تتوالد فيه ومن خلاله الاشكال الزخرفية باستمرار وتظل في انتقال دائم، وهذا بحد ذاته يمثل ايمان الفنان المسلم المطلق بلا نهائية وخلود الخالق جل وعلا، فهو فن لا يقلد الطبيعة بما هي عليه من جزئيات وصفات متغيرة ، إنما يتطرق الى جواهر الاشكال المتصفة بالروحانية والاستمرارية باتصالها بالزمان والمكان المطلقين اللذين لا يخضعان لشروط العالم الأرضي، وهذا ما تواجد في نتاجات فنون الزخرفة الإسلامية ، والذي حفز الفنان المسلم بدوره للاستعانة  بدلالات اللون والخط المعتمدة على أفكار اللانهائية المتصفة بالروحانية والاستمرارية في أغلب الاعمال الفنية التي تحف بجدران وسقوف ومداخل المساجد والمشاهد الدينية والمراقد المقدسة، فالتجربة الفنية لفن الزخرفة الاسلامية تفترض حضوراً جمالياً دلالياً بعيداً عن الجمال الظاهري الزائف، وهذا ما يسمى بالجانب  العرفاني في الإبداع الفني.. والذي يتظافر مع الجوانب التقنية والفنية ضمن إطار حيوي غير منعزل عن الحياة، وإنَّ هذا الفن العرفاني صادر بطبيعة الحال عن النفس التي هي فيض من فيوضات الله جل وعلا على البشر.

المرفقات

: سامر قحطان القيسي