ليث الكربلائي
السؤال عن حقانيّة مذهب الإمامية يعود في جوهره إلى السؤال عن حقانيّة نظرية الإمامة وأنّ الأوصياء الاثنا عشر منصوص عليهم وأنّ لهم الزعامة الدينية والدنيوية، إذ تمثل هذه النظرية (الإمامة) الفارق الجوهري بين الإمامية وغيرهم، كما أنّ الشيعة يأخذون دينهم عن طريق هؤلاء الأئمة فبطبيعة الحال يكون دليل حقانيّة إمامتهم هو نفسه دليلاً على حقانية المذهب الشيعي.
وقد سلك الإمامية في إثبات ذلك مسالك متعددة بين عقلية ونقلية وعقلائية حتى صح القول بأنّهم المذهب الإسلامي الوحيد الذي بإمكانه إثبات الأساسات العقدية التي يبتني عليها من مصادر المذاهب الأخرى فضلاً عن مصادره الخاصة، وأنا هنا ذاكر لك أربعة أدلّة نصفها من القرآن الكريم وتتمَّتها من السنّة المتواترة عند عامّة المسلمين اخترتها من بين مئات الأدلة .
الدليل الأوّل: آية التطهير
قال تعالى : " إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا " (1) إذ تواتر من طرق الفريقين أنّها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وممّا جاء في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر اسود فجاء الحسن بن علي فادخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء على فادخله ثم قال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (2) .
ولا يدخل في عنوان " أهل البيت " أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) ولا أي شخصٍ آخر لم يُدخله النبي فيه ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه أحمد في مسنده من امتناع النبي (صلى الله عليه وآله) عن إدخال أمّ سلمة مع الخمسة المذكورين (3) مما يعني أنّ مصطلح " أهل البيت " هنا شرعي وليس لغويا وذلك نظير مصطلح " الصلاة " حيث نقله الشارع المقدس من معناه اللغوي إلى معنى خاص ضبط حدوده بالنص عليها .
وأنت لو نقّبت في مرجعيات جميع المذاهب الإسلامية لن تجد فيهم من يتلقى قرآن ربه وسنّة نبيه من مرجعية شهد الله تعالى لها بالعصمة والنزاهة غير مذهب الإمامية، بل ستجد في فقه سائر المذاهب وعقائدهم ما يتعارض تماماً مع ما هو معلوم بالضرورة والتواتر من فقه وعقائد أهل البيت عليهم السلام كما في إباحتهم لإتمام الصلاة في السفر وقولهم بالتجسيم على سبيل المثال لا الحصر بل أسوء من ذلك أنّك ستجد من علمائهم من يتحامَل على أهل البيت ويبخسهم حقهم.
وما من شكٍّ في أنّ حقانيّة مَذهبٍ شهد الله تعالى لمرجعيته بالعصمة لا يمكن معارضتها بأي وجه بدعوى حقانية أي مذهب آخر لا يملك هذه السمة.
الدليل الثاني: آية الولاية
قال تعالى : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " (4) وقد نقل القوشجي (5) من أبناء العامّة وكذلك عضد الدين الإيجي (6) إجماع أئمة التفسير على أنها نزلت في حقّ الإمام علي (عليه السلام) ولم يرتكبا شططاً في دعواهما وإن ارتكباه في صرف معناها إلى النصرة والمحبة لأنّ الولاية في هذا السياق حيث قُرنت بولاية الله ورسوله وجاءت في سياق أداة الحصر (إنما) لا يمكن أن تكون إلا بمعنى (الأولى) لأن ولاية الله على الناس لا تعني المحبة وإنما تعني أنه أولى بهم وقد عُطفت عليها ولاية النبي وولاية علي (صلوات الله عليهما وآلهما) والعطف يدلّ على المشاركة في الحكم ، وكذلك لو كانت تعني النصرة والمحبة لما صح استعمال الأداة (إنما) لأنّهما غير مختصتين بمن يؤتي الزكاة وهو راكع بل عامتين لجميع المؤمنين.
وعوداً على بدء قد أكّد نزول هذه الآية في الإمام علي (عليه السلام) الحسكاني في شواهد التنزيل والزمخشري في الكشاف والفخر الرازي في التفسير الكبير وغيرهم من أئمة التفسير عند أبناء العامّة.
ولا يخفى عليك وجه الاستدلال بهذه الآية لإثبات حقانيّة المذهب الشيعي وذلك من جهة أنّه إذا ثبت النص على إمامة الامام علي (عليه السلام) ثبتت حقانية مذهب الشيعة وبطلان ما عداه بالضرورة وليس ثمة مسلك وسط بينهما.
الدليل الثالث: حديث الثقلين
إنّ الأحاديث الداعية إلى لزوم التمسك بأهل البيت والرجوع لهم في تلقي الدين كثيرة متواترة في كتب جميع المذاهب الاسلامية ومنها حديث الثقلين الذي رواه الفريقان بطرق صحيحة منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " ألا أيها الناس فإنما انا بشر يوشك ان يأتي رسول ربى فأجيب وانا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" (7) .
وكذلك أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك بلفظ: " كأني دُعِيتُ فأجبـتُ، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلِّفوني فيهما، فإنهما لن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض". (8) .
ويبدو أنّ هذا المضمون قد صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) في مواطن كثيرة حتّى كثُرَت عباراته في كتب الفريقين وجاء متواتراً في مضمونه.
وهذه كتب المذاهب الاسلامية من غير الشيعة ببابك وأنا أدعوك للنظر فيها بتمعّن لترى كم استندوا إلى أهل البيت في فقههم وكم رجعوا إليهم في عقيدتهم وتفاسيرهم؟! اطمئِنَّ أنَّك لن تجد شيئا يستحق الذكر بل ستجد فيهم من هو على خلاف ذلك تماماً ستجد فيهم من يتهم أهل البيت بالابتداع ويتحامل عليهم بالسوء!!
لن تجد في المذاهب الاسلامية من يرجع إلى القرآن وأهل البيت في عقيدته وتفسيره وفقهه غير مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ومن هنا يكون حديث الثقلين دليلاً قطعيا على حقانيّة هذا المذهب وبطلان ما سواه.
الدليل الرابع: حديث الغدير
من جملة ما جاء في خطبة الغدير قوله (صلى الله عليه وآله): " من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه " وهو حديث متواتر عند الفريقين وقد صححه أكابر أعلام أهل السنة والجماعة فممن صرّح منهم بصحته الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك والهيثمي في مجمع الزوائد وابن حجر في فتح الباري وغيرهم كثير (9) .
ووجه الاستدلال به على حقانية مذهب المذهب الإمامي هو أنّه صريح في النص على إمامة ومرجعية الإمام علي (عليه السلام) ولن تجد من بنى مذهبه بالكامل على مرجعية الإمام علي (عليه السلام) وإمامته غير المذهب الشيعي.
ولا يُقال أنّ الولاية مشترك لفظي يراد به المحبة والنصرة لأنّه مدفوع بقرائن كثيرة:
- منها: أنه قد جاء هذا النص في كثير من أسانيده التي صححها مَن سبق ذكرهم من الأعلام في سياق قوله (صلى الله عليه وآله): "أيها الناس، ألستُ أولى بكم من أنفسكم.." ثم عطف عليه قوله " من كنت مولاه فعلي مولاه " وهذه قرينة لفظية متصلة تدل على أن المراد بالمولى في الحديث هو الأولى وليس الناصر او المحب.
- ومنها: أنّه من غير المقبول من الناحية العقلائية أن يحبس النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه وتلك الجموع الغفيرة من الناس في حر الهجير وقد أهلكتهم متاعب السفر ثمّ يأمر بإرجاع من تقدَّم منهم وانتظار من تأخر وينصب منبرا ليرتقيه ثم يحدِّثهم عن حب علي عليه السلام ونصرته بما لا يختلف فيه عن غيره من سائر المؤمنين فهذه قرينة حالية تمنع ما تأوّله أهل السنة والجماعة في هذا الحديث.
- وثمة قرائن أخرى تدلّ على المطلوب أيضا أتركها اختصاراً.
هذا تمام الأدلة الأربعة التي اخترتها ولا يخفى عليك أنّ حديث الثقلين من سنخ آية التطهير وأما حديث الغدير فمن سنخ آية الولاية وقد اخترتُ هذا الترتيب للتنبيه على أنه كما أنّ مرجعية أهل البيت ثابتة بالقرآن والسنّة المتواترة كذلك النص على الإمامة الخاصة للإمام علي عليه السلام هي الأخرى ثابتة بالقرآن والسنة المتواترة.
إشكال وجواب حول اختلاف الشيعة نفسهم في أمر الإمامة
من الأسئلة التي يوردها بعض الكتّاب في هذا السياق أنّه ( لو كان مذهب الإمامية على حقٍ لما تشرذمت منه كلّ هذه الفرق الكثيرة ولما انفصل عنه بعض المنتمين إليه كلّما توفي إمامٌ وقام مقامه آخر..) وهذه في الواقع مغالطة منطقية تُعرَف بـ (مغالطة عدم الترابط) لعدم وجود أي ترابط منطقي بين المقدمات والنتيجة إذ أنّ انتماء الناس لفكرة أو نظرية أو جماعة أو انفصالهم عنها لا يشكلّ مؤشراً على حقانيتها أو بطلانها لا من قريب ولا من بعيد إنما القول الفصل في ذلك متروك لقوة الدليل الذي يمكن إقامته عليها لا غير.
نعم تمكن بعض المؤلفين من وضع هذا النقض في قالبٍ يخاله المرء لوهلة علمياً وذلك بأن قال: " لو كان الدليل على إمامة الأئمة الاثني عشر متواتراً وواضحاً كما يدعي الإمامية لما اختلفوا فيما بينهم حول إمامة غير واحد من الأئمة ولما ظهرت فيهم كلّ هذه الفرق من زيدية واسماعيلية وواقفة و...".
وكلّ الظنّ أنّ تهافته لا يخفى عليك إذ يُجاب عنه نقضاً وحلّاً..
أمّا النقض فإنّا نتفق على أنّ أدلّة وجود صانع لهذا الكون عقلية قطعية ترتكز على أسُسٍ بديهية كقانون السببية وغيره ومع ذلك تجد الناس مختلفين فيه على مذاهب شتى بين مُنكِر ومُثبِت ومتحير فهل يضرّ إنكار من أنكر او حيرة من احتار او ارتداد من ارتدّ في أصل حقانية قضية وجود الصانع ويكشف عن ضعف الأدلة القائمة عليها؟! ما تقوله هنا نقوله هناك .
ثمّ ألم ينقسم أهل السنّة والجماعة على عدة مذاهب أيضاً فمن حيث العقيدة معتزلة وماتريدية وأشعرية وسلفية ومذاهب أخرى فرعية كثيرة ومن حيث الفقه برزت المذاهب الأربعة بالإضافة إلى الظاهرية ومذاهب أخرى فرعية كثيرة لم يُكتب لها الرواج علما أنّ الخلاف بينهم بلغ سفك دماء بعضهم بعضاً فضلاً عن التكفير حتى طفحت كتب التاريخ برواية المعارك والوقائع التي نتجت عن ذلك.
وخلاصة الجواب النقضي أنّ كثرة الانقسامات لو كانت تدلّ على ضعف الحجة لعمّ ذلك حجج جميع المذاهب بل الأديان والنظريات وما إلى ذلك إذ لا يخلو شيء منها من مثله.
وأمّا الجواب الحلّي فقد ذكر المناطقة أن أسباب الخطأ قد لا ترجع إلى ضعف الحجة في نفسها بل قد ينشأ الخلاف بسبب شبهةٍ أو جحودٍ نفسيٍ أو غفلةٍ أو غيرها من مناشئ الخطأ التي ينجم عنها الخلاف والاختلاف ومن هنا أجازوا وقوع الخلاف حتى في البديهيات من دون أن يضر ذلك ببداهتها.
وبالإضافة إلى ذلك إنّ الحجة المذكورة نفسها مبنية على الغفلة عن معنى التواتر، لأنّ تواتر النص لا يعني تسليم الجميع به كما لا يعني تواتره أنه معلوم عند الجميع وإنما كلّ ما يعنيه أنه مروي في كلّ طبقة عن عدد من الرواة يمتنع عادة اشتباههم جميعا او تواطؤهم على الكذب.
وعلى ضوء ذلك يتضّح أن كون الحديث متواتراً لا يعني إطّلاع جميع أصحاب الأئمة عليه وحتى تلك الجماعة المطلّعة عليه يمكن أن تعمل بخلافه لعروض شبهة منعتها من الأخذ به أو لسُقمٍ في فهمهم لمتنه أو لطمعٍ في مالٍ أو منصبٍ أو غيرها من الموانع التي لا تخفى على أحد وكل ذلك بطبيعة الحال لا يضر بكون الحديث متواترا كما أنّ الخلافات التي من هذا القبيل لا تكاد جماعة تخلو منها والامامية ليسوا بدعاً من ذلك.
إذا تمهَّد هذا تتضح الإجابة على الإشكال بأنّ الخلاف حول تشخيص الإمام ليس مانعا من إثبات حقانية التوجُّه العام داخل المذهب الشيعي وهو القول بإمامة الاثني عشر، لأنّ الحقانية تتوقف على قوّة الدليل لا غير، نعم إنّ كثرة الأطراف التي تكون بدواً مظنّة لموافقة الحق غاية ما توجبه النظر في أدلتها جميعاً ومحاكمتها للوقوف على حقيقة كلّ دعوى منها .
الهوامش
سورة الأحزاب / 33 . صحيح مسلم : 7 / 130 . يُنظر: مسند أحمد : 6 / 292 . سورة المائدة / 55 . شرح تجريد العقائد : 368 . (حجري) . المواقف : 3 / 601 . صحيح مسلم : 7/ 123 . مسند أحمد: 3/ 26 ؛ المستدرك : 3/ 109 واللفظ في المتن للأخير . سنن الترمذي: 5 / 297 ؛ المستدرك : 3/ 110 ؛ مجمع الزوائد: 9/ 104 ؛ فتح الباري: 7/ 61.
اترك تعليق