76 ــ الشريف الرضي (359 ــ 406 هـ / 969 ــ 1015م)

الشريف الرضي (359 ــ 406 هـ / 969 ــ 1015م)

قال من قصيدة في رثاء الحسين تبلغ (64) بيتاً:

(كربلا) لا زلتِ كــــرباً وبلا     ما لقي عندكِ آلُ المصطفى

كم على تربِكِ لــــمَّا صُرِّعوا     من دمٍ سالَ ومن دمعٍ جرى

كم حصانَ الذيلِ يروي دمعُها     خــــــــدَّها عند قتيلٍ بالظما (1)

ومنها:

ضارباً في (كربلا) خيـمته     ثم ما خــيّــــــــــمَ حتـى قوِّضا

كيفَ لم يستعجلِ اللهُ لــــهمْ      بانقلابِ الأرضِ أو رجمِ السما

لو بسبطي قيصرٍ أو هرقلٍ     فعلـــــــــــوا فعـلَ يزيدٍ ما عدا

الشاعر

أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) الملقب بـ (الشريف الرضي) (2)

كانت بغداد على موعد مع ولادة نجم لامع في سماء الأدب العربي، شعّ على دجلتها، فتلألأ ماؤها بنوره، وتمايل نخيلها على أنغامه، وتنسّم هواؤها بنفحاته، فقد احتضنت أرضها مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة وإماماً من ائمة العلم والأدب.

كان أبوه النقيب أبو الحسين بن موسى أحمد جليل القدر، عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد، وولي نقابة الطالبيين خمس دفعات، ومات وهو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض (3)

أما أمه فهي السيدة فاطمة بنت الناصر الصغير أبي محمد الحسن بن أحمد أبي الحسين صاحب جيش أبيه الناصر الكبير أبي محمد الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب فهو حسيني النسب من الطرفين ولعله لذلك لقب ذو الحسبين وأبوها هذا وآباؤه كانوا من ملوك طبرستان ببلاد الديلم. (4)

نشأ الشريف الرضي نشأة علمية ودرس النحو والفقه والحديث على يد أساتذة هذه العلوم فتتملذ على كبار العلماء منهم: السيرافي، وابن نباتة، والمرزباني، وغيرهم من الأعلام، كما تتلمذ على يد الشيخ المفيد محمد بن النعمان الذي كان أستاذه وأستاذ أخيه الشريف المرتضى (علم الهدى)، وقد روي أن أمه عندما أحضرته مع أخيه إلى المفيد لتعليمهما، كان المفيد رأى في تلك الليلة فاطمة الزهراء جاءت اليه إلى مسجده الذي كان يعلم فيه ومعها ولداها الحسن والحسين وقالت له: أيها الشيخ خذ ولدي هذين وعلمهما الفقه، فلما أصبح تعجب من ذلك. فلما جاءت أم الشريفين اليه بولديها علم تأويل رؤياه. (5)

وقد بلغا مرتبة عظيمة في العلم والأدب حتى قيل (لولا الرضي لكان المرتضى أشعر الناس ولولا المرتضى لكان الرضي أعلم الناس). (6)

ويقول الدكتور زكي مبارك: (طلب إليَّ أن أكتب عن أعظم شاعر أنجبته العربية فكتبت عن الشريف الرضي). (7)

لم يتربّع الشريف الرضي على عرش إمارة الشعر فقط، بل حاز على قصب السبق في باقي مضامير التأليف، فقد كان عمره خصباً بإنتاجه العلمي والأدبي، ويؤدينا الحساب الدقيق لسني عمره إلى أن إنتاجه لتلك المؤلفات القيمة التي تحتاج إلى مادة علمية غزيرة واطلاع واسع كان على حد الإعجاز، فقد كانت مؤلفاته تتشابه في قوة المنطق وأساليب البيان، ولعل أهم مؤلفاته هو جمعه لنهج البلاغة وهو مجموع ما اختاره الشريف من كلام امير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين من خطب ورسائل وحكم ومواعظ.

 يقول السيد محمد حسين الحسيني الجلالي: (ونظرة خاطفة إلى مؤلفاته تنبيء عن مدى اهتمامه بالأدب العربي شعرا ونثرا في القرآن الكريم والروايات والآثار النبوية والعلوية وغيرها ، بل تجاوز ذوقه الأدبي أن يختار من أدب أبي إسحاق الصابي على ما بينهما من خلاف في العقيدة ، وما ذلك إلَّا لتحرّره من عقدة العصبية في ذوقه الأدبي . وتكاد تطبق المصادر المتأخرة عنه أن الرضي كان أشعر قريش، وقد تعاطى هذا الفن منذ صغره) (8)

ومن مؤلفاته:

أخبار قضاة بغداد

تلخيص البيان عن مجازات القرآن / طبع باهتمام السيد محمد المشكاة بطهران عام 1369 هـ /‌ والقاهرة بتحقيق محمد عبد الغني حسن بالقاهرة سنة 1955 م .

تعليق خلاف الفقهاء

تعليقة على الإيضاح لأبي علي الفارسي

الحسن من شعر الحسين: والحسين هو أبو عبد اللَّه بن الحجاج

حقائق التأويل في متشابه التنزيل: طبع منه الجزء الخامس فقط في النجف الأشرف عام 1936 بتحقيق الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء

ديوان شعر

رسائله في ثلاث مجلدات: ونقل ابن معصوم بعضها في الدرجات الرفيعة ص 475 - 478 ، وقد طبع قسم منها بعنوان : رسائل الصابي والشريف الرضي، بتحقيق محمد يوسف نجم، في الكويت ، سنة 1961 م ضمن سلسلة التراث العربي .

الزيادات: وهي بعنوانين: الزيادات في شعر أبي تمام، والزيادات في شعر ابن الحجاج

سيرة والده الطاهر: وهو أول مؤلفاته

مختار أشعار أبي إسحاق الصابي

المجازات النبوية (9)

اجتمعت في الشريف الرضي خصال نادرة قلّما اجتمعت عند أفذاذ الرجال، ومن يطلع على المناصب التي تولاها في حياته يجد ما تتمتع به شخصيته من المؤهلات العلمية والنفسية الكريمة، فقد تولّى نقابة الطالبيين وإمارة الحج والنظر في المظالم وهو في عمر (31) سنة، (10) ومن يقرأ شعره يجد صورة ناطقة عن نفسيته العظيمة ويتجسد له ما تحمل تلك الشخصية الفذة من خصال، فالعلم والفقه والحكم وعزة النفس والعزم والعفة والكرم والإباء قد حُلّيت بالشعر وانتظمت في ديوانه الذي طفح بشاعرية قلّ نظيرها.

وقد أجمع أكثر المؤرخين والمؤلفين على أنه: (أشعر قريش من مضى منهم ومن غبر) (11) وقال عنه الباخرزي: (له صدر الوسادة بين الأئمة والسادة وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاءٍ: ما إنورك! ولخضاره: ما أغزرك وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه وعقد بالنجم نواصيه وإذا نسب انتسب رقة الهواء إلى نسيبه وفاز بالقدح المعلى في نصيبه) (12)

ويقول عنه الرفاعي: (كان أشعر قريش وذلك لأن الشاعر المجيد من قريش ليس بمكثر والمكثر ليس بمجيد والرضي قد جمع بين فضلي الإكثار والإجادة وكان صاحب ورع وعفة وعدل في الأقضية وهيبة في النفوس). (13)

وقال ابن عنبة الحسني: (الشريف الأجل الملقب بالرضي ذي الحسبين نقيب النقباء، وهو ذو الفضائل الشائعة والمكارم الذائعة كانت له هيبة وجلالة وفيه ورع وعفة وتقشف ومراعاة للأهل والعشيرة ولي نقابة الطالبيين مرارا وكانت له إمارة الحج والمظالم كان يتولى ذلك عن أبيه ذي المناقب ثم تولى ذلك بعد وفاته مستقلا وحج بالناس مرات وهو أول طالبي جعل عليه السواد وكان أوحد علماء عصره) (14)

وقال عنه السيد محسن الأمين: (كان أوحد علماء عصره، وقرأ على أجلاء الأفاضل، فكان أديباً بارعاً متميزاً، وفقيهاً متبحّراً، ومتكلماً حاذقاً، ومفسراً لكتاب الله وحديث رسوله محلقاً، وأخفت مكانة أخيه المرتضى العلمية شيئاً من مكانته العلمية، كما أخفت مكانته الشعرية شيئاً من مكانة أخيه المرتضى الشعرية، ولهذا قال بعض العلماء: لولا الرضي لكان المرتضى أشعر الناس، ولولا المرتضى لكان الرضي اعلم الناس) (15)

ويقول عن شاعريته: (نظم الشريف الرضي الشعر في عهد الطفولية ولما يزد عمره عشر سنين فأجاد ونظم في جميع فنون الشعر فأكثر، وجاء محلقا محرزا قصب السبق بغير منازع. ولم يكن في ناحية من نواحي الشعر أشعر منه في غيرها مما دل على غزارة مادته، وانه كان ينظم قصائده بمنحة نفسانية قلما تؤثر بها العوامل الخارجية. وامتاز الرضي بان شعره على كثرته لابس كله ثوب الجودة والملاحة وهذا قلما يتفق لشاعر مكثر، بل لم يتفق لغيره..) (16)

وقال الشيخ عبد الحسين الأميني: (سيدنا الشريف الرضي هو مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة، وإمام من أئمّة العلم والحديث والأدب، وبطل من أبطال الدين والعلم والمذهب، هو أوّل في كلِّ ما ورثه سلفه الطاهر من علم متدفّق، ونفسيّات زاكية، وأنظار ثاقبة، وإباء وشمم، وأدب بارع، وحسب نقيٍّ، ونسب نبويٍّ، وشرف علويٍّ، ومجد فاطميٍّ، وسؤدد كاظميٍّ، إلى فضائل قد تدفّق سيلها الأتيّ، ومآثر قد ارتطمت أواذيّها الجارفة، ومهما تشدّق الكاتب فإنَّ في البيان قصوراً عن بلوغ مداه، وللتنقيب تقاعساً عن تحديد غايته، وللوصف انحساراً عن استكناه حقيقته) (17)

وقال الصنعاني: (فاضل تزاحمت مناقبه، وغلبت في حلبة الفخار مناقبه، فهو يفتخر بغير الشعر كأبيه، وإنّما رقّ لعصابة الشعر ففصلها بلآلئ فكرته لكلّ نبيه، وما رضي في مواشاته بغير السبق، فأضحى رأس الصناعة ومن ينكر يُضرب على الفرق، فنظم ما هو أعبق من المنثور، وأبهى من العسجد في جيد اليعفور، معاني كمعاني الشعب طيباً، وكمنزلة الربيع من الزمان حبيباً، لا تمليها رتوت الشعر في إنشادها) (18)

شعره

حفل شعر الشريف بالعديد من الأغراض وتفرّعت أبوابه وسنطرق منه باباً لنختار ما أفاضت قريحة الشريف في رثاء جده سيد الشهداء (عليه السلام)، فللشريف في هذا الشأن قصائد عديدة التهبت بها زفراته وهاجت بها أحزانه، ففي قصيدته الرائية التي تبلغ (40) بيتاً يطلق الشريف الرضي صوته من أعماق قلبه ليملأ الصحراء ويتردد صداه مع رياحها ليصل إلى كربلاء ويصبح هذا الصوت انعكاساً لصورة الشهادة بأدق صورها:

يومٌ حدا الظعنُ فيه بابـنِ فاطمةٍ     سنانَ مـــطّرد الــكعبينِ مطـرورِ

وخرّ للموتِ لا كـــــــــفٌّ تقـلّبه     إلّا بوطئٍ مــن الجردِ المحاضيرِ

ظمآن سلّى نجيعُ الطــــعنِ غلّتَه      عن باردٍ من عبابِ الماءِ مقرورِ

كأنَّ بيضَ المواضي وهي تنهبُه      نارٌ تحكّمُ في جســــــمٍ من النورِ

للهِ ملقىً على الرمضاءِ عضّ به     فمُ الردى بين أقدامٍ وتـــــــشميرِ

تحنو عليه الربى ظلاً وتـــسترُه     عن النواظرِ اذيالُ الأعاصـــــيرِ

تهابُه الوحش أن تدنو لمصـرعه     وقد أقـــــــــــامَ ثلاثاً غير مقبورِ (19)

ويستبد الحزن بالشريف حتى يصبح هذا الحزن داءً ينهش قلبه ويقرح كبده، فصورة سيد الشهداء وهو ظمآن ولا يسقى بغير الرماح والسيوف تتغلغل في نفسه وتمتزج بدمه لتصبح جذوة من الغضب والحزن ولتنطلق ضاجّة من الوحشية الأموية، يقول من داليته التي تبلغ (27) بيتاً:

ولي كبدٌ مقروحـــةٌ لـو أضاعها     من السقمِ غيري ما بغاها بنــاشدِ

تأوّبني داءٌ مــــن الـهـمِّ لم يـزلْ     بقلبي حتى عادني منه عـــــائدي

تذكّرتُ يومَ السبطِ من آلِ هاشمٍ     وما يومنا من آلِ حـــــربٍ بواحدِ

وظامٍ يريغُ الماءَ قد حــيلَ دونه     سقوه ذبــــــــاباتِ الرقاقِ البواردِ

أتاحوا له مرَّ المواردِ بـــــــالقنا     على ما أباحوا من عذابِ المواردِ (20)

ويشيع هذا الحزن عند الشريف فيصبح شغله الشاغل فهو حزن الإنسان وثورته اللاهبة يقول من قصيدة تبلغ (58) بيتاً:

لم يــــبقَ ذخــرٌ للمــدامـعِ عنكمُ     كلا ولا عـيـنٌ جــرى لرقادِها

شــغلَ الدموعَ عن الديارِ بكاؤنا     لبـكــاءِ فاطمــــةٍ على أولادِها

لم يخلفوها في الشهيدِ وقـد رأى     دفع الفراتِ يُــذادُ عن أورادِها

أترى درتْ أنَّ الحســينَ طريدةٌ     لقنا بني الطرداء عنــد ولادِها؟

كانتْ مــآتمُ بالعـــــــراقِ تعـدّها     أمــوية بالشـــامِ مــن أعيــادِها

ما راقبت غضبَ النبيِّ وقد غدا     زرعُ النبيِّ مضـــنّة لحصـادِها

نسلُ النبيِّ على صـعابِ مطيّها      ودمُ النبيِّ على رؤوسِ صعادِها (21)

ورغم ان هذا الحزن يطبع على قلب الشاعر والمأساة تقيم في نفسه إلا أن صرخته تنطلق إنسانية واعية كبيرة في عطائها دفيقة بالحزن الشفيف يقول من قصيدة تبلغ (52) بيتاً:

يا حــــــساماً فلّتْ مضاربَه الها     مُ وقد فلّه الحسامُ الـصقيــــــلُ

يا جواداً أدمى الجوادَ من الطعـ     ـنِ وولّى ونحـــــــــرُه مبلـولُ

حجلَ الخــيلَ من دماءِ الأعادي      يومَ يبدو طعنٌ وتُخـفى حجولُ

أتراني أعيرُ وجـــــــهيَ صوناً     وعلى وجههِ تجـــــولُ الخيولُ

أتراني ألذُّ مـــــــــــــــــاءً ولمّا     يروَ من مـهجةِ الإمـــامِ الغليلُ

قبّــلتــه الــرماحُ وانتضـلتْ فيـ     ـه المنــايا وعانـقته النصـــولُ

يا غريبَ الديارِ صبري غريبٌ     وقتيلُ الأعـداءِ نــــــومي قتيلُ

بي نزاعٌ يطغى إليكَ وشــــوقٌ     وغـــــــــرامٌ وزفـــرةٌ وعـويلُ

ليتَ أنّي ضجيــعُ قبـرِكَ أو أنَّ     ثراهُ بمدمـــــــعي مطـــلـــــولُ (22)

ويسقط الشاعر عصارة روحه في مقصورته المشهورة التي تأتي بكلمات مباشرة لكنها كالمطر في عطائها الفني معبرة عن الألم والحزن العميقين بروح أكثر أفقاً، فكانت هذه المقصورة عبارة عن لوحة تراجيدية لذلك اليوم المأساوي على إيقاع حزين كان الشاعر أكثر التحاماً وتداخلاً مع صور مشهد الطف، ويمكننا أن نطلق على (مقصورته) بنشيد الطف:

كربلا لا زلـــتِ كــــرباً وبلا     مالـــقي عندكِ آلُ المصـطفى

كم على تربِكِ لمَّا صُرِّعــــوا     من دمٍ سالَ ومــن دمعٍ جرى

كم حَصانَ الذيلِ يروي دمعُها     خدَّهـــــا عـــــند قتيلٍ بالظما

تمسحُ التربَ على أعجــــالِها     عن طـــــلى نحرٍ رميلٍ بالدما

وضيــوف لفـــلاةٍ قـــــــــفرةٍ     نزلــوا فيها على غيـــــر قرى

لم يذوقوا الماءَ حتى اجتمعوا      بجدى السيف على وردِ الردى

تكسفُ الشمسُ شمــوساً منهم     لا تــــــــــدانيـها ضياءً وعــلا

وتنوشُ الوحشُ من أجسادِهم     أرجــــلَ السبـــقِ وإيمانَ الندى

ووجوهاً كالمصابيــــــحِ فمِن     قمـــرٍ غابَ ونجـــمٍ قد هــــوى

وتتصاعد هذه النبرة الحزينة عند الشاعر فهو هنا يستعين بالخطابية فيراه الطريق المباشر للتعبير عمّا بداخله:

يا رســــولَ اللهِ لو عــاينتهم     وهــمُ ما بيـــنَ قتــلى وسـبا

من رميضٍ يُمنع الظلُّ ومن     عــــاطشٍ يُسقى أنابيبَ القنا

ومسوقٍ عــــــاثرٍ يسعى به     خلفَ محمولٍ على غيرِ وطا

لرأتْ عيناكَ مــــنهمْ منظراً     للحـشى شجــواً وللعيـن قذى

وتصبح اللوحة ملحمية في استرسال القصيدة المتصاعد حدة وغضباً وحزناً وألماً فالمشهد يذكي أحاسيس الشاعر ويؤجِّج انفعالاته

يا قتيلاً قــوّضَ الـدهرُ به     عمدَ الدينِ وأعلامَ الــــــــهدى

قتــلوهُ بــعدَ علمٍ مـــــنهـمُ     أنّه خامسُ أصـــــــحابِ الكسا

وصريعاً عالجَ الموتَ بلا     شــدِّ لحــــــــييـن ولا مدِّ ردى

غسلوهُ بدمِ الــطعنِ ومـــا     كفنوه غيـر بوغاء الثــــــــرى

كيفَ لم يستعجلِ اللهُ لــهم      بانقلابِ الأرضِ أو رجمِ السما

وله قصيدة في أهل البيت تبلغ (58) بيتاً يقول

سقى اللهُ المـــــدينةَ مِن محلٍ      لبابَ الــودقِ بالنطفِ العذابِ

وجادَ علـــــى البقيعِ وساكنيهِ     رخـــــيَّ الذيلِ ملآنَ الوطابِ

وأعلامِ الغريِّ وما استباحتْ      مـــعالمها من الحسبِ اللبابِ

وقبراً بالـــطفوفِ يضمُّ شلواً      قضى ظمأ إلى بردِ الشرابِ

وســـــامـرّا وبغداداً وطوساً     هطولَ الودقِ منخرقَ العذابِ (23)

وبقي يوم الطف يتجلى في إحساس الشاعر فيهز كيانه ويملأ عينيه بالدموع وتفيض روحه ألماً وحسرة حتى فاضت تلك الروح الطاهرة إلى بارئها وحضر عند وفاته الوزير فخر الدولة وسائر الوزراء والأعيان والأشراف والقضاة حفاة مشاة وصلى عليه الوزير فخر الدولة ودفن في داره الكائنة في الكرخ قرب مسجد الأنباريين (24)

وقد ذكر كثير من المؤرخين نقل جثمانه إلى كربلاء بعد دفنه في داره، يقول السيد محسن الأمين: (ولد 359 وتوفي 406 عن 46 سنة ودفن بداره في بغداد ثم نقل إلى مشهد الحسين بكربلا) (25)

ويقول الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء: (وقد ذكر كثير من المؤلفين نقل جثمانه إلى كربلا بعد دفنه في داره فدفن عند أبيه الحسين بن موسى وهذا قريب إلى الاعتبار عندي، لأن بني إبراهيم المجاب قطنوا حائر الحسين عليه السلام مجاورين لجدهم الأعلى (الحسين السبط)، فدفن فيه إبراهيم المذكور في موضع قريب من قبر الحسين مما يلي رأسه، واتخذوا تربته مدفناً لهم، فدفن فيه من مات من بنيه وأبنائهم، وأما من شذ منهم فقطن بغداد أو البصرة كبني موسى الأبرش، فإنه ينقل بعد موته إلى تربة جده، وقد صح أن والد الشريف نقل جثمانه إلى الحائر عندما توفي سنة ٤٠٠ ولم يدفن ببغداد، ويشهد لذلك استهلال الأستاذ أبي سعيد علي بن محمد الكاتب مرثيته له بقوله:

يا برقُ حامَ على حياكَ وغائرِ     أن تستهلَّ بغيرِ أرضِ الحائرِ

وصح أيضا نقل جثمان الشريف المرتضى إلى الحائر بعد دفنه في داره، بالرغم على قول النجاشي (توليت غسله ودفن في داره) ولا بدع لو نقل الشريف الرضي وأبناؤه إليه على عادتهم وطريقتهم هذه) (26)

ورواية النجاشي التي ذكرها كاشف الغطاء هي: (مات رضي الله عنه لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة 436 ه‍ وصلى عليه ابنه في داره، ودفن فيها وتوليت غسله ومعي الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وسلار بن عبد العزيز) (27)

وقد فصّل السيد محمد مهدي بحر العلوم الحديث في هذا الموضوع (28) حيث نقل عن الشيخ زين الدين بن علي المعروف بـ(الشهيد الثاني) قوله: (أنه رحمه الله نقل بعد ذلك إلى جوار جده الحسين عليه السلام) (29)

وقال الطهراني عن هذا الكتاب: (تنزيه ذوي العقول في أنساب آل الرسول): (ينقل عنه الشهيد الثاني في حاشية " الخلاصة " عند ترجمة الشريف المرتضى علم الهدى) (30)

كما أكد دفن الرضي في كربلاء ابن معصوم المدني (1052 - 1119 هـ / 1642 - 1707 م) ــ وكانت قبور الرضي والمرتضى وأبيهما في زمنه ظاهرة مشهورة ــ حيث قال: (وصلى عليه ابنه أبو جعفر محمد، ودفن - أولاً - في داره ثم نقل منها إلى جوار جده الحسين - عليه السلام - ودفن في مشهده المقدس مع أبيه وأخيه وقبورهم ظاهرة مشهورة، قدس الله أرواحهم الطاهرة) (31)

وقال النسابة ابن عنبة الحسني: (دفن في داره ثم نقل إلى كربلا فدفن عند أبيه وأخيه، وقبورهم ظاهرة مشهورة) (32)

وقد نقل المحقق السيد محمد صادق بحر العلوم من قال بدفن الرضي في كربلاء فقال: (ونقل الشيخ أبو علي الحائري في (منتهى المقال) عن تعليقة الشهيد الثاني خبر نقل السيد المرتضى إلى جوار جده الحسين - عليه السلام - كما ذكرنا.

ومنهم: السيد الشريف الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن شدقم الحسيني المدني في كتاب (زهر الرياض) كما ذكره سيدنا - رحمه الله - في الأصل، ومنهم: سيدنا الإمام الحجة الحسن صدر الدين الكاظمي - رحمه الله - في رسالته (تحية القبور بالمأثور) - عند ذكره المدفونين في كربلاء من الاعلام - فقال: (... ومنهم: إبراهيم الأصغر ابن الإمام الكاظم - عليه السلام - قبره خلف ظهر الحسين - عليه السلام - بستة أذرع، وهو الملقب بالمرتضى، وهو المعقب المكثر، جد السيد المرتضى والرضي - رحمهما الله - وجدنا، وجد أشراف الموسوية، ومعه جماعة من أولاده كموسى أبي شجة، وأولاده، وجدنا الحسين القطعي، وجماعة من أولاده، في سردابين متصلين خلف الضريح المقدس، وكانت قبورهم ظاهرة، ولما عمر الحرم التعمير الأخير محوا آثارهم، ومعهم قبر السيد المرتضى والسيد الرضي، وأبيهما وجدهما موسى الأبرش...

وقد شرحت التفصيل في كتاب (تكملة أمل الآمل) في ترجمة السيد المرتضى، وتعرضت إلى تحقيق أن قبر السيد المرتضى وأخيه السيد الرضي في كربلا وأن المكان المعروف في بلد الكاظمين - عليهما السلام - بقبرهما هو موضع دفنهما فيه أولاً ثم نقلا منه إلى كربلا، ولا بأس بزيارتهما في هذا الموضع أيضاً، وإنما أبقوه كذلك لعظم شأنهما) (33)

ونقل هذا قول السيد حسن الصدر الكاظمي أيضاً السيد جواد شبر (34)

وقال الأستاذ المحقق الدكتور مصطفى جواد بعد أن جزم بأن السيدين المرتضى والرضي بعد أن دفنا في داريهما نقلا إلى المشهد الحسيني بكربلاء، وأن القبر الذي في خارج سور المشهد الكاظمي هو ليس للشريف المرتضى. (35)

وقال محقق ديوانه الأستاذ أحمد عباس الأزهري: (توفي يوم الأحد السادس من المحرم سنة ست واربعمائة ودفن في داره ثم نقل إلى مشهد الحسين عليه السلام بكربلاء فدفن عند أبيه وقبره ظاهر معروف...) (36)

وقال الدكتور محمد أبو الفضل إبراهيم في ترجمة والد الشريف الرضي: (ودفن النقيب أبو أحمد أولا في داره، ثم نقل منها إلى مشهد الحسين عليه السلام) (37)

وقال السيد الجلالي: (نقل جسده  ــ الرضي ــ إلى مشهد جدّه الحسين ونبش قبره في سنة 942 بإغراء بعض قضاة الأورام، فوجد كما هو لم تغيّر الأرض منه شيئا، والظاهر أن قبر السيد وقبر أخيه وأبيه في المحلّ المعروف بإبراهيم المجاب ، وكان إبراهيم هذا هو جدّ المرتضى وابن الإمام موسى عليه السّلام، وقبر إبراهيم المجاب الحائري معروف مشهور) (38)

ويؤكد ذلك رثاؤه لشقيقته التي دفنت أيضا في كربلاء فيرثيها بقصيدة يقول فيها:

يضيءُ بالطفِّ قبراً      فيهِ الأعزّ الأحبّ (39)

والظاهر أنها كانت تسكن كربلاء حيث يقول شارح ديوانه: (وقال يرثي يعض أخواته توفيت ودفنت في مشهد الحسين عليه السلام) (40)

أما الموضعان المعروفان بقبري الشريفين الرضي والمرتضى في الكاظمية فيقول السيد حسن الصدر: (وإن المكان المعروف في بلد الكاظمين - عليهما السلام - بقبرهما هو موضع دفنهما فيه أولا ثم نقلا إلى كربلاء... وإنما أبقوه كذلك لعظم شأنهما) (41)

وقد رثى الشريف كبار الشعراء في عصره منهم: مهيار الديلمي بقصيدتيه الدالية والميمية، وهما مثبتتان في ديوانه وممن رثاه أيضاً سليمان بن فهد، وأخو الشريف الرضي الشريف المرتضى (علم الهدى) بقصيدة مطلعها:

يا للرجال لفجعةٍ جذمت يدي     ووددتُ لو ذهبتْ عليَّ براسي (42)

ويقول فيها:

لا تنكروا من فيضِ دمعي عبرةً     فالدمعُ غير مساعدٍ ومواسي

للهِ عمركَ من قصيـــرٍ طــاهرٍ     ولرب عمــرٍ طــالَ بالأدناسِ

...............................................................

1 ــ ديوان الشريف الرضي، تحقيق الأستاذ أحمد عباس الأزهري / المطبعة الأدبية ــ بيروت 1307 هـ ج 1 ص 33 ــ 36 / ديوان القرن الخامس ص 35 ــ 43 / الدر النضيد ص 3 / أدب الطف ج 2 ص 206 / ناسخ التواريخ ج 4 ص 154 / تذكرة الخواص ص 271 / ونقل قسماً منها في مقتل الحسين للمقرم ص 285 / رياض المدح والرثاء ص 151 / مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 122 ، إثبات الهداة ج 3 ص 281 / التحفة الناصرية ص 548

 2 ــ لسان الميزان لإبن حجر العسقلاني ج ٢ ص ٣٧٥ / مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١ ص ٣١ ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ــ دار احياء الكتب العربية / الوافي بالوفيات ج ١ ص ٣٠٧ / تاريخ بغداد ج ٢ ص ٢٤٦

3 ــ مقدمة شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٣١

4 ــ أعيان الشيعة ج ٩ ص ٢١٦

5 ــ نفس المصدر والصفحة

6 ــ أعيان الشيعة ج 9 ص 218

7 ــ عبقرية الشريف الرضي ص 65   

8 ــ دراسة حول نهج البلاغة / منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت – لبنان ج 1 ص 19

9 ــ نفس المصدر ص 39 ــ 41

10 ــ المنتظم ج 7 ص 279 / الغدير ج ٤ ص ٢٥٠

11 ــ تاريخ بغداد ج 2 ص 246 / المجدي ص 126 / يتيمة الدهر ج 3 ص 155 / المنتظم ج 7 ص 279

12 ــ دمية القصر ج 1 ص 292

13 ــ صحاح الأخبار ص 61

14 ــ عمدة الطالب ص 207

15 ــ أعيان الشيعة ج 9 ص 218

16 ــ نفس المصدر ص 217

17 ــ الغدير ج ٤ ص ١٨١ ــ ١٨٢

18 ــ نسمة السحر ج ٣ ص ٥٢

19 ــ ديوان الشريف الرضي، تحقيق الأستاذ أحمد عباس الأزهري / المطبعة الأدبية ــ بيروت 1307 هـ ج 1 ص 376 ــ 378

20 ــ نفس المصدر ص 281 ــ 282 / ديوان القرن الخامس ص 87 ــ 90

21 ــ نفس المصدر 278 ــ 281 / ديوان القرن الخامس ص 77 ــ 86

22 ــ ديوان القرن الخامس ص 218 ــ 225 / رياض المدح والرثاء ص 148 / الدر النضيد ص 245

23 ــ ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 90 ــ 93

24 ــ مقدمة شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٤٠

25 ــ أعيان الشيعة ج ٩ ص ٢١٦

26 ــ مقدمة كتاب حقائق التأويل للشريف الرضي تحقيق محمد رضا آل كاشف الغطاء ص 111

27 ــ رجال النجاشي ص 270 ــ 271

28 ــ الفوائد الرجالية ج ٣ ص ١٠٨ بتحقيق السيدين محمد صادق بحر العلوم وحسين بحر العلوم

29 ــ يقول المحقق في الهامش: (حاشية الشهيد الثاني - رحمه الله - على (الخلاصة) في الرجال للعلامة الحلي - رحمه الله - ما زالت مخطوطة، توجد في مكتبتنا وفى غيرها من المكتبات، فقد ذكر فيها - تعليقا على ما ذكره العلامة - رحمه الله - في ترجمة الشريف المرتضى - قوله: (ثم نقل إلى جوار جده الحسين - عليه السلام - ذكره صاحب تنزيه العقول

30 ــ الذريعة ج ٤ ص ٤٥٧

31 ــ الدرجات الرفيعة ص ٤٦٣

32 ــ عمدة الطالب ص ١٩٤

33 ــ الفوائد الرجالية ج ٣ ص ١٠٨ الهامش

34 ــ أدب الطف ج 2 ص 221

35 ــ مقدمة ديوان الشريف المرتضى ص 26

36 ــ ديوان الشريف الرضي ص 4

37 ــ مقدمة شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٣١

38 ــ دراسة حول نهج البلاغة ج 1 ص 42 عن زهر الرياض للحسن بن شدقم

39 ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 129 ــ 133 من قصيدة تبلغ (76) بيتاً / ديوان القرن الخامس ص 54

40 ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 129

41 ــ الفوائد الرجالية ج ٣ ص ١٠٨ الهامش عن كتاب تحية أهل القبور بالمأثور للسيد حسن الصدر

42 ــ مقدمة شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٤١

كما ترجم له وكتب عنه:

النجاشي / الرجال ص 398

ابن داود / الرجال ص 170

العلامة الحلي / خلاصة الأقوال ص 270

التفريشي / نقد الرجال ج 4 ص 188

السيد علي خان المدني / الدرجات الرفيعة ص 466 ــ 480

الخوانساري / روضات الجنات ج 6 ص 190

عبد الله الأصفهاني / رياض العلماء ج 5 ص 79

ابن شهراشوب / معالم العلماء ج 1 ص 266

المامقاني / تنقيح المقال ج 3 ص 107

السيد بحر العلوم / الفوائد الرجالية ج 3 ص 129

الأردبيلي / جامع الرواة ج 2 ص 99

عباس القمي / الكنى والألقاب ج 2 ص 266

القفطي / إنباه الرواة ج 3 ص 114

الحر العاملي / أمل الآمل ج 2 ص 261

السيد حسن الصدر / تأسيس الشيعة ص 213

التستري / مجالس المؤمنين ج 1 ص 503

ابن الأثير / الكامل في التاريخ ج ٩ ص ٢٦١

البغدادي / تاريخ بغداد ج ٣ ص ٤٠

ابن خلكان / وفيات الأعيان ج ٤ ص ٤١٤

الثعالبي / يتيمة الدهر ج ٣ ص ١٥٥

القفطي / المحمّدون من الشُعراء ص ٣٣٦

الذهبي / سير أعلام النبلاء ج ١٧ ص ٢٨٥

ابن خلدون / العبر ج ٢ ص ٢١٣

الذهبي / ميزان الاعتدال ج ٦ ص ١١٨

ابن الجوزي / المنتظم ج ١٥ ص ١١٥

ابن العماد / شذرات الذهب ج ٣ ص ١٨٢

ابن عنبة الحسني / عمدة الطالب ص ٢٥٣

اليافعي / مرآة الجنان ج ٣ ص ١٥

ابن كثير / البداية والنهاية ج ١٢ ص ٣

الذهبي / تاريخ الإسلام ج ٢٥ ص ١٤٩

ابن حزم / جمهرة أنساب العرب ص ٦٣

الدمشقي / توضيح المشتبه ج ٤ ص ٢٠١

عباس المكي / نزهة الجليس ج ١ ص ٥٤٤

الزركلي / الأعلام ج ٦ ص ٩٩

 

 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار