62- السيد الحميري (105 – 173 هـ / 723 – 789 م)

السيد الحميري (105 – 173 هـ / 723 – 789 م)

قال من القصيدة (المُذهّبة) في مدح أمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) وتبلغ (112) بيتاً:

ولقد سرى فيما يــسـيـرُ بـليلةٍ     بعدَ العشاءِ بـ (كربلا) في موكبِ

حتى أتـــى مُتبتّـــلاً فـي قـائمٍ     ألـقـى قـواعــدَه بـــقـــاعٍ مجــدبِ

تأتيهِ ليسَ بحيثُ تلقى عامراً     غيرَ الوحوشِ وغير أصـلعَ أشيبِ (1)

وقال:

(كربلا) يا دارَ كربٍ وبلا     وبها سبطُ النبي قد قُتلا (2)

الشاعر

إسماعيل بن محمد بن يزيد بن وداع الحميري (3) وروي في نسبه أيضاً: إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة (4) وربيعة هو جد الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري ومفرغ لقبه، وإنّما سُمِّي مفرَّغاً لأنه راهن على سقاءٍ من لبن يشربه كله فشربه حتى فرّغه فسمي مفرّغاً، فعرف جد الشاعر يزيد بلقب ابن مفرّغ الحميري (5)

قال الشيخ عبد الحسين الأميني عن نسبه: (أبو هاشم وأبو عامر إسماعيل بن محمد بن يزيد بن وداع الحميري الملقب بالسيد " نسبه " ذكر أبو الفرج الأصبهاني وكثير من المؤرخين: إنه حفيد يزيد بن ربيعة مفرغ أو ابن مفرغ الحميري الشاعر المشهور الذي هجا زياداً وبنيه ونفاهم عن آل حرب، وحبسه عبد الله بن زياد لذلك وعذبه ثم أطلقه معاوية، لكن المرزباني نسبه إلى يزيد بن وداع وقال في كتاب " أخبار الحميري ": أمه من حدان تزوج بها أبوه لأنه كان نازلا فيهم، وأم هذه المرأة بنت يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر المعروف، وليس ليزيد بن مفرغ عقب من ولد ذكر، ولقد غلط الأصمعي في نسبة السيد إلى يزيد بن مفرغ من جهة أبيه لأنه جده من جهة أمه) (6)

وهذا يعني أنه سبط الشاعر يزيد بن مفرغ وليس حفيده، وهذه النسبة هي الأقرب للصحة لأن يزيد بن مفرغ لم يكن ناصبياً كما كان عليه والد السيد الحميري، ثم إن الأصمعي كان متحاملاً على السيد كما روى الأصفهاني عن التوزي، أنّه قال: (رأى الأصمعي جزءاً فيه من شعر السيد، فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه، فأقسم عليّ ان أخبره فأخبرته، فقال: أنشدني قصيدة منه، فأنشدته قصيدة ثمّ أخرى، وهو يستزيدني، ثمّ قال: قبّحه اللّه ما أسلكه لطريق الفحول! لولا مذهبه، ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحداً من طبقته) (7)

ولعل نسبته للسيد هذه فيها غاية لما عرف عنه ببغضه للعلويين وشيعتهم ومن ذلك ما رواه السيد الأمين قوله: (ونقل ابن كثير الشامي في تاريخه عن الأصمعي أنه قال في السيد الحميري: لولا تعرضه للسلف في شعره ما قدمت عليه أحداً في طبقته، قال صاحب المجالس: صحة العقيدة وفسادها لا دخل له في جودة الشعر ورداءته والتقدم والتأخر فيه لكن الأصمعي لعداوته لأهل بيت النبوة يقول هذا في حق مداحهم وفقا للمثل المشهور وكل اناء بالذي فيه يرشح، ويعلم صحة ذلك مما حكاه الشيخ نور الدين علي بن عراف المصري في تذكرته عن أبي العيناء أنه قال سمعت أبا قلابة الجرمي يقول في جنازة الأصمعي:

قـــــــــبَّحَ اللهُ أعظماً حملوها     نحوً دارِ البلا على خشباتِ

أعظماً تبغضُ النبيَّ وأهل الـ     ـبيتِ الطــيبينَ والطاهراتِ

وفي المناقب عن كامل المبرد كان أصمع بن مظفر جد الأصمعي قطعه علي ع في السرقة فكان الأصمعي يبغضه قيل له من أشعر الناس قال من قال:

كأنَّ أكفهم والهامُ تهوي     عن الأعناقِ تلعب بالكرينا

فقالوا السيد الحميري فقال هو والله أبغضهم إليَّ وسبّه) (8)

 

ولد السيد الحميري بعمان ونشا بالبصرة (9)، ثم غادرها إلى الكوفة وتعلم فيها الحديث على يد الأعمش وعاش متردداً بينهما، (10) وكان في بداية حياته يعتقد مذهب الكيسانية التي تقول بإمامة محمد بن الحنفية بعد الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنه الإمام الغائب وله في ذلك شعر، (11) ولكنه نبَذَ هذا الاعتقاد عندما قابل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في الكوفة، فرأى السيد منه حججه القوية وأدلته الساطعة ما عرف به الحق فأتبعه، (12) وله في ذلك قصيدة طويلة يقول منها:

ولما رأيتُ الناسَ في الدينِ قد غَوُوا     تجَعْفَــرتُ باسمِ اللهِ فيمن تجعفروا

ونــــاديــتُ بــــاســمِ اللهِ واللهُ أكبــرُ     وأيــــقـــنــتُ أن اللهَ يعفـــو ويغفرُ

ودِنتُ بدينٍ غيــر ما كــنــتُ دائِـــناً     بــه ونهــانــي ســــيِّدُ الناسِ جعفرُ

مع الــطـيبينَ الطاهرينَ الأولى لهم     مِن المصطفى فرعٌ زكيٌّ وعنصرُ (13)

عُرف (السيد الحميري) بحدَّةِ الذكاءِ وسرعةِ البديهة حتى ضُرِبَ فيه المثلُ بهما، كما كان متضلِّعاً في تفسير القرآن ومعانيه والكثير من العلوم والتاريخ والأدب، ويستشفُّ القارئ لديوانه مدى إحاطته بهذه العلوم وإلمامه بها من خلال موارد شعره والمعاني التي طرقها وإدراكه واستيعابه وتعمُّقه في فهمِ مغازي الكتاب الكريم والسنة المطهّرة والأحاديث الشريفة وروايات أهل البيت وإحاطته بمرامها وإشاراتها ونصوصها، وإن رفضه القاطع للإباضية منذ صغره وانتقاله من الكيسانية إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لهو أكبر دليل على بصيرته النافذة وعلمه ومعرفته الناضجة التي تأبى أن تتلقّى المبدأ عن تقليد أعمى، فنال أعظمَ لقبٍ من الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حين قال له: (سمتك أمك سيداً وفقت في ذلك وأنت سيد الشعراء) (14)

قال الشيخ الصدوق: فلم يزل السيد ضالاً في أمر الغيبة يعتقدها في محمد بن الحنفية، حتى لقي الصادق جعفر بن محمد عليهما‌ السلام ورأى منه علامات الإمامة وشاهد منه دلالات الوصية، فسأله عن الغيبة، فذكر له انّها حقٌّ، ولكنّها تقع بالثاني عشر من الأئمة عليهم‌ السلام، وأخبره بموت محمد بن الحنفية وانّ أباه محمد بن علي ابن الحسين بن علي عليه ‌السلام شاهد دفنه، فرجع السيد عن مقالته، واستغفر من اعتقاده ورجع إلى الحقّ عند اتضاحه له ودان بالإمامة) (15)

كان أبوا السيد من النواصبِ المتشدِّدين ببغضهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانا على مذهبِ الأباضية (16) وهي فرقة من فِرَقِ الخوارج التي تُكفّرُ علياً، إلّا أن حبَّه لأمير المؤمنين كان أكبر من كل عاطفةٍ أو صلةٍ مهما كانت لصيقة به، فكان يرتعدُ عندما يسمعُ والديه وهما يسبَّانِ أمير المؤمنين وولده آناءَ الليل وأطرافَ النهار، وكثيراً ما يحبسُ دموعَه عندما يسمعهما وهما يسبَّانه ويلعنانهِ بعد صلاةِ الصبح، فينتظرُ طلوعَ الشمسِ ليخرجَ عنهما إلى قارعة الطريق... يطوفُ في الطرِقِ والأزقّة لا يلوي على شيء فكلُّ همِّه هو الإبتعاد عن هذا البيت اللعين.

ويظل يتنقّلُ من طريقٍ إلى طريق حتى تتهالكُ قواه فيلجأ إلى المسجد ليريحَ قدميه، وما إن يشعر بأن التعبَ قد تلاشى تدريجياً عنه حتى تبدأ لسعاتُ الجوعِ تنهشُ بطنَه فيعود إلى البيت ليتناولَ ما يسدُّ به رمقه ثم يعود إلى طوافهِ اليومي حتى لا يسمع من أبويه سبُّ علي، وفي الليل يرجع وقد أنهكه التعب ليغطّ في نومٍ عميق.

لم تمنع هذه المعاناة ذلك الصبي من حبِّه لعلي، بل أن حبَّه كان يزدادُ يوماً بعد يوم رغم الشقاء اليومي الذي يعانيه جرّاء هذا الحب الذي فاق حبَّه لوالديه بل إنه أبغضهما غاية البغض وأحبَّ فراقهما لسبِّهما علياً، ولنستمع إليه وهو يصف شعوره نحو والديه في تلك الفترة فيقول: (كنتُ وأنا صبي أسمع أبويّ يثلبانِ أمير المؤمنين فأخرجُ عنهما وأبقى جائعاً، وأؤثر ذلك على الرجوع إليهما، فأبيتُ في المساجد جائعاً لحبِّي فراقهما وبغضي إياهما حتى إذا أجهدني الجوع رجعتُ فأكلتُ ثم خرجت). (17)

لقد غطّى حبُّ أمير المؤمنين على كل حبٍّ وعاطفةٍ في قلبِ هذا الفتى، وأبغضَ والديه من أجل هذا الحب، وكأن والديه قد عرفا منه هذا الحب لعلي وكرها ذلك منه فبَدَآ يضايقانه بترديد سبِّ أمير المؤمنين على مسامعه عند حضوره إلى البيت، فقال لهما يوماً: (إن لي عليكما حقاً يصغر عند حقكما عليّ، فجنّباني إذا حضرتكما ذكر أمير المؤمنين بسوء، فأن ذلك يزعجني وأكره عقوقكما بمقابلتكما).. (18)

ولكنهما (تماديا في غيِّهما) وصاحا في وجهه...، وكثيراً ما كانت أمه توقظه في الليل لتقول له: (إني أخافُ أن تموتَ على مذهبكَ فتدخل النار، فقد لهجتَ بعليٍّ وولده فلا دنيا ولا آخرة، ولقد نغّصتَ عليّ مطعمي ومشربي). (19)

وفي بعض الليالي رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام وكأنه في حديقة سبخة فيها نخلٌ طوال وإلى جانبها أرض كأنها الكافور ليس فيها شيء، فقال له النبي: أتدري لمن هذا النخل؟

قال: لا يا رسول الله.

قال: لأمرئ القيس بن حجر، فأقلعها واغرسها في هذه الأرض، ففعل...

وفي الصباح جاء إلى ابن سيرين ـ المفسِّر المشهور ـ فقصّ عليه رؤياه فقال له ابن سيرين: أتقول الشعر؟ فقال: لا، فقال: أما إنك ستقول شعراً مثل امرئ القيس، إلا إنك تقوله في قومٍ بررةٍ أطهار فكان كما قال... (20)

زادتْ هذه الرؤيا من إيمانه ويقينه بعلي وأولاده البررة وكان يعرف أن حبه هو الصراط المستقيم فلما سمع والديه يسبَّان علياً قال:

لــعـــنَ اللهُ والـــديَّ جــــمــيـــعاً     ثم أصــلاهما عـــذابَ الـــجحيمِ

حكما غــدوةً كــلمـا صَـلَّـيا الفجـ     ـــرَ بلعنِ الوصـيِّ بابِ الـعلــومِ

لعَنا خيرَ من مـشى فوق ظهرِ الـ     أرضِ أو طافَ مُحرِماً بالحطيمِ

كـــفَرَا عنـــد شــتــمِ آلِ رســـولِ      اللهِ نســـلِ المهـــذَّبِ المعصــومِ

والوصيِّ الذي بـــه تــثبـــتُ الأر     ضُ ولــولاهُ دُكــــدِكتْ كالرميمِ

وكــــذا آله أولـــو العلـــمِ والفــهـ     ـمِ هــداةٌ إلى الصـــراطِ القـــويمِ

خــلفاءُ الإلـــهِ في الخــلقِ بـــالعد     لِ وبـــالقسطِ عـــند ظلمِ الظلومِ

صلواتُ الإلــهِ تُتـــرى عليـــــهمْ     مــقـــرنـاتٌ بــــالرحبِ والتسليمِ (21)

ولما أيقظته أمُّه في الليلِ وعنَّفته على حبهِ لعلي وأولاده الذي كان سبباً في مفارقتهِ لأهلهِ وإخوانهِ وأقربائهِ وجيرانهِ الذين أبغضوه وهجروه فأصبح بينهم غريباً، قال:

إلى أهل بيتٍ أذهبَ الرجسُ عنهمٌ     وصفّوا من الأدناسِ طرَّاً وطيِّبوا

إلــى أهلِ بيتٍ ما لمن كانَ مؤمناً     من الناسِ عنهم في الـولايةِ مذهبُ

وكــم من شقيقٍ لامني في هواهمُ     وعـاذلةٌ هـــبَّـــتْ بــــلـــيــلٍ تؤنِّبُ

تقولُ ولــمْ تقصــدْ وتــعتبُ ضلّةً     وآفـــةُ أخـلاقِ الــنـــسـاءِ الـتـعـتّبُ

وفارقتَ جــيراناً وأهــلَ مــــودةٍ     ومن أنتَ مـنه حيـن تُدعى وتُنسبُ

فأنتَ غريـــــبٌ فــيــهم متبـــاعدٌ     كــأنّـــكَ فــيــما يـتّــقـونـكَ أجربُ

تــعــيــبـهمُ فــي دينِــهم وهمُ بما     تُــديـنُ بــه أزرى عـلـيـكَ وأعـيبُ

فقلتُ: دعيـــني لن أحبّــرَ مدحةً     لــغــيــرهمُ مـــا حـــــجَّ للهِ أركــبُ

أتنهينــني عــن حـبِّ آلِ محمدٍ؟     وحــبُّــهـــم مــمَّـا بــه أتــقــــــــرَّبُ

وحــبُّــهـم مـثـــلُ الصـلاةِ وإنهم     على الناسِ من بعدِ الصلاةِ لأوجبُ (22)

ضاق أبوه به ذرعاً وعزمَ على ثنيهِ عن حبِّ عليٍّ مهما كلّفَ الأمر حتى وأن اضطره ذلك إلى قتله! فأمره بسبِّه فامتنع، وألحَّ عليه في ذلك، لكنه فوجئ بابنه وهو يردُّ عليه:

خِفْ يا مــحــمّدَ فالـقَ الأصباحِ     وأزِلْ فسادَ الــديــنِ بالإصـــلاحِ

أتــسـبُّ صـنوَ محـمدٍ ووصــيِّهِ     ترجـو بـذاكَ الـفـــوزَ والإنــجاحِ

هيهاتَ قد بعُدا عـلـيـــكَ وقـرَّبا     منكَ العذابَ وقابـــــضَ الأرواحِ

أوصى النبيُّ له بــخـيـرِ وصيةٍ     يـومَ الــغديـرِ بأبـــيـنِ الإفــصاحِ

من كنتُ مولاهُ فــهــذا واعلموا     مولاهُ، قـــولُ إشـــاعةٍ وصِــراحِ

قاضي الديونِ ومــرشدٌ لكمْ كما     قد كنتُ أرشدُ من هـدىً وفـــلاحِ

أغويتَ أمِّي وهـــي جِدّ ضعيفة     فـجرتْ بقاعِ الغيِّ جريَ جِــــماحِ

بالــشتمِ للعَلَمِ الإمــامِ ومــن لــه     إرثُ النبــيِّ بـــأوكــدِ الإيـــضاحِ

إنِّي أخـافُ عليكمـــا سخطَ الذي     أرسى الجبالَ بسبسبٍ صحصاحِ

أبــويَّ فــاتَّـقـيـا الإلــــهَ وأذعِـنـا     لـلـحـقِّ تـعـتـصـــما بحبلِ جناحِ (23)

لم يستطعِ الأبوانِ مقارعة هذه البلاغة المدعومة بالحجج والقرائن الواضحة على منزلة أمير المؤمنين العظيمة، ولكنهما أبَيَا أن يستجيبا لابنهما وأخذتهما العزة بالإثم فصمَّمَا على قتلهِ وتواعدا على ذلك!

أحسَّ الولدُ بما يضمرُه أبواهُ له من الشر فهربَ إلى الأمير عقبة بن سلم وأخبره بقصته فقال له: لا تقربهما، وأعدّ له منزلاً أمر له فيه بما يحتاج إليه وأجرى عليه مالاً يكفيه ويفضل على مؤونته، فكان هذا الفراق بينه وبين والديه أبديَّاً حتى ماتا فورثهما. (24)

صدّق السيد الحميري بشعره رؤياه فقد سخّرَ شعره لمدح أهل البيت وفاق شعراء عصره كثرة وجودة حتى قال له الإمام الصادق (عليه السلام): أنت (سيد الشعراء)، وهذه الشهادة من الإمام لا تحتاج إلى توضيح على مكانة السيد في عالم الشعر، أما في التاريخ فله باع طويل فيه، وقد ذكرت المصادر أن له كتاب (تاريخ اليمن). (25)

وكانت له منزلة كبيرة عند الإمام الصادق الذي كان يكرمه ويقدّر سعيه ويشكرُ جهده في الذبِّ عن قضية أهل البيت وإبراز مظلوميتهم وذكر فضائلهم وجهره بموالاتهم وإكثاره من مدائحهم والرد على أعدائهم ومناوئيهم، فكان (عليه السلام) يلحُّ على رفده بالأموال رغم امتناع السيد عن أخذها لحقيقة إخلاصه وإيمانه واعتقاده بأنه لم يمدحهم لأجل المال بل للتقرِّب إلى الله تعالى بهم.

ومما يوضحُ تقدّمه على شعراء عصره أقوال أئمة الشعر والأدب ممن عاصروه وما بعدهم بحقه، فقد عدَّه المؤرخون أحد الشعراء الثلاثة الذين كانوا أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام وهم: السيد الحميري، وبشار بن برد، وأبو العتاهية. يقول عنهم أبو الفرج الأصفهاني: (لا يُعلم أن أحداً قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع). (26)

وقال المرزباني: (لم يُسمَع أن أحداً عمل شعراً جيِّداً وأكثر غير السيِّد) (27)

ومما روي عن كثرة شعره قول عبد الله بن اسحق الهاشمي: (جمعتُ للسيد ألفي قصيدة وظننت إنه ما بقي عليَّ شيء فكنتُ لا أزال أرى من ينشدني ما لي عندي فكتبت حتى ضجرت ثم تركت). (28)

ويقول مروان بن أبي حفصة عندما سمع شعراً للسيد: (ما سمعتُ قط شعراً أكثر معاني وألحظ منه). (29)

وقال التوزي: (لو إن شعراً يستحق أن لا ينشد إلّا في المسجد لحسنه لكان هذا ولو خطب به خاطب على المنبر في يوم الجمعة لأتى حسناً ولحاز أجراً). (30)

وقال بشار بن برد ـ الذي كان متزلفاً للسلطة ـ: (لولا إن هذا الرجل قد شغل عنَّا بمدح بني هاشم لشغلنا ولو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا) (31)

لقد تولّع السيد بمدح أهل البيت (عليهم السلام) ولهج بهم لسانه فأكثر، ويدلّنا أبو الفرج الأصفهاني على مدى تعلق السيد الحميري بذكر أهل البيت وحبه لهم ما رواه عن أحدهم: (كنا جلوساً عند أبي عمرو ابن العلاء فتذاكرنا السيد فجاء وجلس وخضنا في ذكر الزرع والنخل ساعة فنهض فقلنا: يا أبا هاشم ممَّ القيام؟ فقال:

إنِّي لأكرهُ أن أطيلَ بمجلسٍ     لا ذكـرَ فـيـهِ لفضلِ آلِ محمدِ

لا ذكرَ فيه لأحـمـدٍ ووصيِّهِ     وبنيهِ ذلكَ مجلسٌ نَطِفٌ ردي

إن الذي ينساهم في مجلسٍ     حـتـى يـفـارقه لَـغَـيـرُ مــسـدَّدِ (32)

وكان إذا استُنشد شيئاً من شعرهِ لم يبدأ بشيء إلّا بقوله:

أجدُّ بآلِ فاطمةِ البكورُ     فدمعُ العينِ منهمرٌ غزيرُ (33)

وقد رُوي إنه لم يترك فضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلّا قالها شعراً، (34) وفضلاً عن سيادته الشعرية فإن له مكانته المتقدِّمة في المذهب حيث عُدَّ من أعلام الشيعة وعلمائهم، وقد أثنى عليه كبار علماء الشيعة في كتبهم. وقد عده ابن شهر آشوب في شعراء أهل البيت المجاهرين، استنفد شعره في معنى واحد وهو مدح اهل البيت ولم يترك منقبة لأمير المؤمنين عليه ‌السلام إلا نظم فيها شعراً. (35)

كما عدّه ابن عبد ربه الأندلسي من رموز الشيعة فقال: (السيد الحميري وهو رأس الشيعة وكانت الشيعة من تعظيمها له تلقي له وسادة بمسجد الكوفة). (36)

قال عنه العلاّمة الحلّي: (ثقة، جليل القدر، عظيم الشأن والمنزلة رحمه الله) (37)

وقال له جعفر بن عفان الطائي ـ شاعر الإمام الصادق ـ: (يا أبا هاشم: أنت الرأسُ ونحن الأذناب) (38)

ألّف عن حياة السيد الحميري الكثير من الأعلام ــ قديماً وحديثاً ــ من المسلمين وغيرهم منهم: أبو بكر الصولي، وأبو بشر البصري، وابن عبدون ـ شيخ النجاشي ـ، والمرزباني، وابن عيّاش، والمستشرق الفرنسي بربيه دي مينار وغيرهم.

عاصر السيد من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) إضافة إلى الإمام الصادق، ابنه الإمام موسى الكاظم (عليهما السلام) وعُدَّ من شعرائهما، أما من الخلفاء فقد عاصر عشراً، منهم خمسة من بني أمية وهم: هشام بن عبد الملك، ـ والذي وِلدَ السيد الحميري في خلافته ـ والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمد، كما عاصر خمساً من خلفاء بني العباس وهم: السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد وقد توفي السيد في خلافة الأخير، ودفن في بغداد (39) تاركاً قصائده الخالدات خلود الدهر

ومن أروع قصائده البائية والتي تسمى (المذهَّبة) وتبلغ (112) بيتاً والتي قدمناها وقد شرحها علمان من أعلام اللغة والأدب في تاريخ العربية هما السيد الشريف المرتضى علم الهدى، والحافظ النسابة الأشرف ابن الأغر المعروف بتاج العلى الحسيني محمّد بهاء الدين الاصبهاني (40)

 يقول السيد منها:

وبخمِّ إذ قالَ الإلــهُ بــعـــزمهِ     قمْ يا محمدَ في البريةِ فـأخطبِ

وانصُبْ أبا حسنٍ لقومِـكَ إنه     هــادٍ ومــا بلّغت إن لم تـنصُبِ

فدعاهُ ثم دعـــاهمُ فــأقــــامـه     لهمُ فبينَ مــصــدِّقٍ ومـــكــذِّبِ

جعلَ الولايةَ بعده لـمُـهـــذبٍ     ما كـان يـجـعـلـهـا لغيرِ مهذَّبِ

وله مناقبُ لا تُرامَ مـتى يَرد     ساعٍ تناولَ بــعــضَــها بتذبذبِ

إنّـا نــديــنُ بـحـبِّ آلِ محمدٍ     ديناً ومن يحببهمُ يــسـتــــوجبِ

منَّا المودةُ والولاءُ ومن يَرِدْ     بدلاً بآلِ مــحــمــدٍ لا يــحــببِ

وله القصيدة العينية التي مطلعها:

لأُمّ عمر باللوى مربعُ      طامسة أعلامه بلقعُ

وهي في (50) بيتاً وقد ناهزت شروحها ١٥ شرحاً. فقد شرحها من الأعلام: الشيخ حسين بن جمال الدين الخوانساري، والميرزا علي خان الكلبايكاني، والمولى محمد قاسم الهزار جريبي، وبهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن الاصبهاني الشهير بالفاضل الهندي، والحاج المولى محمّد حسين القزويني، والحاج المولى صالح بن محمّد البرغاني، والحاج ميرزا محمد رضا القراجة داغي التبريزي، والسيّد محمّد عبّاس بن السيِّد علي أكبر الموسوي، والحاج المولى حسن بن الحاج محمّد إبراهيم بن الحاج محتشم الأردكاني، والشيخ بخشعلي اليزدي الحائري، ةالميرزا فضل علي بن المولى عبد الكريم الإرواني التبريزي، والشيخ علي بن علي رضا الخوئي، والسيد أنور حسين الهندي، والسيّد علي أكبر بن السيِّد رضي الرضوي القمي. الحاج المولى علي التبريزي (41) وكان الإمام الصادق عليه ‌السلام يضرب ستراً عند إنشادها لتسمعها النساء. (42)

يقول السيد من هذه القصيدة

عجبتُ من قومٍ أتـــوا أحمداً     بخطـــــةٍ ليس لها موضعُ

قالوا له: لو شئـــت أعلمتنا     إلــــــى مَن الغايةِ والمفزعُ

إذا تـــــــــــــوفّيتَ وفارقتنا     وفيهمُ في الملكِ مَن يطمعٌ

فقال: لو أعلــــمتكمْ مفزعاً     كنتم عسيتمْ فيه أن تصنعوا

صنيعَ أهلِ العجلِ إذ فارقوا     هارون فــــالتركُ له أودع

وفي الذي قالَ بـــــيان لمَن    كان إذا يعقـــــــل أو يسمعُ

ثمّ أتَتْهُ بَعْدَ ذا عَــزْمَــــــــةٌ     مِنْ رَبِّه ليسَ لَهــــــا مدفعُ

أبْلِغْ وَإلاّ لَــــــمْ تَـكُنْ مُبْلِغاً     واللّهُ مِنْهُمْ عاصِمٌ يَــــــمْنَعُ

فَعِنْدَها قام النَـــــــبيّ الّذيِ     كانَ بما يأمـــــــرهُ يَصْدَعُ

يَخْطبُ مأموراً وفــي كَفِّه     كفُّ علىّ ظاهــــــــراً يَلْمعُ

رافِعُها أكرِم بكَــــفِّ الّذي     يَرفَعُ والكفِّ الذي يـــــرفَعُ

يقولُ والأملاكُ من حَوْله     واللّهُ فيـــــــــهِمْ شاهِدٌ يَسْمَعُ

مَــــنْ كُنْتُ مَولاهُ فهذا لَهُ     مَوْلًى فَلَم يَرضُوا وَلَمْ يَقْنَعُوا

يقول الدكتور طه حسين: (ولعل شيعة العلويين لم يظفروا بشاعر مثله ــ أي السيد الحميري ـــ في حياتهم السياسية كلها، وقف عليهم عمره وجهده، وكاد يقف عليهم مدحه وثناؤه، مخلصا في ذلك كله إخلاصاً لا يشبهه إخلاص). (44)

ورغم أن قول طه حسين قد جانب الحقيقة فتاريخ الأدب الشيعي يزخر بكثير من الشعراء الذين وقفوا عمرهم وشعرهم لأجل أهل البيت وأخلصوا في إظهار قضيتهم كدعبل الخزاعي والكميت بن زيد وغيرهما إلا أنه يعطي مؤشراً واضحاً على إيمان السيد بأهل البيت واستماتته في الدفاع عن مذهبهم الحق.

شعره

للسيد عدَّة رثائيات في الحسين (عليه السلام) ـ عدا التي فُقدت ـ يقول من قصيدة:

أمرُرْ على جدثِ الحسيـ     ـنِ وقلْ لأعظمهِ الزكيه

يا أعـظـمـاً لا زلتِ مِن      وطــفـاءَ سـاكـبــة رويَّه

ما لذَّ عيـشٌ بـعد رضِّـ     ـكِ بالجيــادِ الأعــوجــيه

قبراً تضمّنَ طــــــيـــباً     آباؤه خيـــرُ الــبــريــــه

والخيرُ والشيمُ المـــهـ     ـذّبة المطيَّبة الــرضـــيه (45)

تناقلت المصادر الأدبية والتاريخية شعره لجودته وجزالته وعُدَّ من عيون الشعر العربي، فقد خصَّه المرزباني بفصل خاص في كتابه (معجم الشعراء) كما خصَّه بكتابٍ منفرد، وكتبَ عنه أبو بكر الصولي كتاب (أخبار السيد الحميري)، كما اختار من شعره المستشرق الفرنسي بارين دي مينار مجموعة كبيرة في مائة صفحة وطبعت في باريس كما جمعه وحققه شاكر هادي شكر (46)

.................................................................

1 ــ ديوان السيد الحميري 37 ــ 47 / أعيان الشيعة ج 3 ص 421 ــ 436 / الغدير ج 2 ص 251 / الكنى والألقاب ج 2 ص 308 / طبقات الشعراء ص 35

2 ــ ديوان السيد الحميري ص 156 / مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 94 / ديوان القرن الثاني ص 143

3 ــ أخبار السيد الحميري للمرزباني ص ١٥١ / الغدير ج 2 ص 231

4 ــ أعيان الشيعة ج ٣ ص ٤٠٥

5 ــ وفيات الأعيان ج 6 ص 342

6 ــ الغدير ج 2 ص 231 ــ 232

7 ــ الأغاني ج ٧ ص ٢٣١

8 ــ أعيان الشيعة ج ٣ ص ٤٠٧

9 ــ أعيان الشيعة ج ٣ ص 405

10 ــ لسان الميزان ج ١ ص ٣٨٣

11 ــ أخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص ١٦٥

12 ــ الفصول المختارة للشيخ المفيد ص ٩٣

13 ــ ديوان السيد الحميري ص 95 ــ 96 / الغدير ج 2 ص 281 / أعيان الشيعة ج 3 ص 410 / طبقات الشعراء ص 33 / كمال الدين ص 43 / بحار الأنوار - للمجلسي ج ٤٧ ص ٣١٧

14 ــ رجال الكشي ج 1 ص 288 / بحار الأنوار ج ٤٧ ص ٣٢٧

15 ــ كمال الدين ص ٢٠

16 ــ ، أعيان الشيعة ج ٣ ص ٤٠٧

17 ــ نفس المصدر ص 409

18 ــ الغدير ج 2 ص 234

19 ــ أعيان الشيعة للسيد الأمين ج 3 ص 409

20 ــ الأغاني للأصفهاني ج 7 ص 256

21 ــ ديوان السيد الحميري ص 182 ــ 183 / الغدير ج 2 ص 274 / أعيان الشيعة ج 3 ص 409

22 ــ ديوان السيد الحميري ص 29 ــ 30 / أعيان الشيعة ج 3 ص 409 / الغدير ج 2 ص 273

23 ــ أخبار السيد الحميري ص ١٥٥ / الغدير ج 2 ص 234 / ديوان السيد الحميري ص 67 ــ 68

24 ــ الأغاني ج ٧ ص ٢٣٠ / الغدير ج 2 ص 235

25 ــ الوافي بالوفيات للصفدي ج 1 ص 49

26 ــ الأغاني ج ٧ ص ٢٤٩

27 ــ أخبار السيِّد الحميري ص ١٥٢ ــ ١٥٣

28 ــ الغدير ج 2 ص 340

29 ــ نفس المصدر ص 341

30 ــ نفس المصدر والصفحة

31 ــ نفس المصدر ص 339

32 ــ الأغاني ج ٧ ص ٢٦٧

33 ــ أعيان الشيعة ج 3 ص 417 / شرح العينية الحميرية للفاضل الهندي ص ٢٠

34 ــ بحار الأنوار ج ٤١ ص ٢٤٣

35 ــ معالم العلماء ص ١٨٠

36 ــ العقد الفريد ج ٢ ص ٢٨٩

37 ــ خلاصة الأقوال رقم ٢٢

38 ــ أمالي الطوسي ص 124

39 ــ أعيان الشيعة ج 3 ص 405

40 ــ مقدمة اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة لمحمّد بهاء الدين الاصبهاني ــ تقديم الشيخ جعفر سبحاني ص 38 ــ 39

41 ــ نفس المصدر ص 39 ــ 40 / الغدير ج ٢ ص ٢٢٤

42 ــ مقدمة اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة لحمّد بهاء الدين الاصبهاني تقديم الشيخ جعفر سبحاني ص 40

43 ــ بحار الأنوار ج ٤٧ ص ٣٢٩ / الغدير ج 2 ص 257 / أعيان الشيعة ج 3 ص 167 / ديوان السيد الحميري ص 128 ــ 131

44 ــ حديث الأربعاء ج 2 ص 240

45 ــ ديوان السيد الحميري ص 226 / أعيان الشيعة ج 3 ص 429 / الأغاني ج 4 ص 175

46 ــ جميع دواوين الشعر العربي على مر العصور ــ جمع وترتيب موقع أدب ص 76

كما ترجم له:

ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٢٣٩ 

الأربلي / كشف الغمة ص 124

ابن شاكر الكتبي / فوات الوفيات ج 1 ص 189

نور الله التستري / مجالس المؤمنين ص 502

الخوانساري / روضات الجنات ج 1 ص 108

أغا بزرك الطهراني / الذريعة ج 9 ص 268

ابن وردي / تاريخ ابن الوردي ج 1 ص 196

الذهبي / تاريخ الإسلام ج ١١ ص ١٥٨

الذهبي / سير أعلام النبلاء ج 8 ص 45

الطوسي / الرجال ص ١٤٨

الطوسي / الأمالي ص ٤٩ و ٦٢٧ و ٦٢٨

الطوسي / الفهرست للطوسي ص ٨٢

الزمخشري / ربيع الأبرار ج ١ ص ٤٤٥

ابن كثير / البداية والنهاية ج ٩ ص ٤١

ابن الجوزي / المنتظم ج ٩ ص ٣٩ ــ ٤١

الزركلي / الأعلام ج ١ ص ٣٢٢

المبرد / الكامل ج ٣ ص ٢٠٦

ابن حزم الأندلسي / جمهرة أنساب العرب ص ٤٣٦

ابن خلدون / تاريخه ج ١ ص ٢٩٤

ابن قتيبة الدينوري / عيون الأخبار ج ٢ ص ١٤٤

بروكلمان / تاريخ الأدب العربي ج ٤ ص ٦٨ ــ ٦٩

عمر فروخ / تاريخ الأدب العربي ج ٢ ص ١٠٩ ــ ١١١

الدكتور فؤاد سزگين / تاريخ التراث العربي ج 2 ص 231 ــ ج 3 ص 235

الجاحظ / البيان والتبيين ج ٢ ص ١٦٨

الأردبيلي / جامع الرواة ج ١ ص ١٠٢

التستري / قاموس الرجال ج ٢ ص ١٠٦ ــ ١١٤

ابن داود / الرجال ص ٥١

الشيخ محمد طه نجف / إتقان المقال ص ٢٧

البغدادي / هديّة العارفين ج ١ ص ٢٠٦

ابن تغري بردي / النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٦٨

ابن كثير / تاريخه ج ٣ ص ٢١

المرفقات

: محمد طاهر الصفار